جريمة الغرب
جريمة الغرب
باحثة فرنسية: الغرب ساعد هتلر في «محرقة اليهود»
فيفيان فوريستير في كتابها «جريمة الغرب»: واحد في المائة فقط من اليهود وافقوا على العودة في البدايات
هاشم صالح
كتاب «جريمة الغرب» ربما كان يشكل اكبر مفاجأة قدمتها الاوساط الثقافية والسياسية الفرنسية لنا نحن العرب في السنوات الاخيرة. فقد اعتدنا على سكوت المفكرين الغربيين على اطروحات الدعاية الصهيونية في ما يخص فلسطين هذا
ان لم يكن ممالأتها والتواطؤ معها في معظم الاحيان. وتأتي المفاجأة من جهة كاتبة مرموقة وروائية تدعى فيفيان فوريستير. وكانت قد اشتهرت قبل بضع سنوات عندما اصدرت كتابا بعنوان «الفظاعة الاقتصادية» وفيه تدين هيمنة الاقتصاد ومعادلاته المادية البحتة على العقلية الغربية وهي معادلات خالية من اي عواطف او
مشاعر انسانية. وبالتالي فالادانة موجهة ايضا لتطرفات الحضارة الغربية التي لم تعد تؤمن الا بالربح والفائدة والفعالية الاقتصادية والانتاجية. وهكذا اختزلت الانسان الى بعد واحد فقط: هو البعد المادي الاستهلاكي شبه الحيواني.. وقد نال هذا الكتاب جائزة ادبية عام 1996 وترجم الى خمس وعشرين لغة.
يستعرض الكتاب الجديد «جريمة الغرب» فيتناول موضوع الساعة الحساس بامتياز: اي جذور الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي والقسم الاول من الكتاب مكرس كله لوصف معاناة اليهود على يد النازية وكيف انه كان من الممكن انقاذهم وتهجيرهم الى مناطق اخرى من العالم لو اراد الغرب ذلك. واما القسم الثاني فمكرس لدراسة الحركة الصهيونية وغزوها لفلسطين وما نتج عن ذلك من تراجيديا وآلام لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.
الشيء الذي فهمته من القسم الاول والذي ما كنت اعرفه في الواقع هو ان هتلر على وحشيته ما كان يريد حرق اليهود او تصفيتهم بشكل جماعي في البداية، وانما كان يريد ترحيلهم عن المانيا والتخلص منهم بسبب عنصريته ونزعته الآرية. ولكن قادة الغرب الآخرين من فرنسيين وانجليز واميركيين وسواهم هم الذين رفضوا ذلك.
وبالتالي فمسؤولية تصفية اليهود تقع على كاهل الجميع وليس فقط على هتلر، فلو ان اميركا، التي كانت بحاجة ماسة الى المهاجرين في ذلك الوقت، لم تضع «كوتا» او نسبة محددة على دخولهم اليها لانحلت مشكلة اليهود الالمان بدون اي اذى او ضرر.
ولذلك فان هتلر سخر من تعاطف روزفلت مع اليهود واعتبره نفاقا او كلاما فارغا للاستهلاك المحلي. وقال له في أحد خطاباته من دون ان يسميه: اذا كان هناك بلد يعتبر انه لا يملك عددا كافيا من اليهود في احضانه، فسوف اكون سعيدا بان ارسل له كل يهودنا.
وفي جلسة مجلس الوزراء التي انعقدت في 14 نوفمبر عام 1938 برئاسة هتلر في برلين
صرح وزير الدعاية غوبلز قائلا: الشيء الغريب والمليء بالتناقض هو ان البلدان التي يتعاطف رأيها العام مع الهيود ترفض استقبالهم! فهم يقولون عنهم بأنهم رواد الحضارة وعباقرة الفلسفة والابداع الفني، لكن عندما نريد ان نرسل هؤلاء العباقرة اليهم يرفضون! والواقع ان معظم قادة الغرب آنذاك كانوا يكرهون اليهود ويريدون التخلص منهم وليس فقط هتلر الفرق الوحيد هو انه كان يصرح جهارا بما يقولونه هم همسا وبالتالي فأكبر جريمة ارتكبها الغرب هي انه كان بامكانه حل المسألة سلميا وبدون محرقة او معسكرات اعتقال او غرف غازية واجرام، لكنه لم يفعل وكانت كندا بحاجة الى مهاجرين آنذاك وكذلك استراليا والارجنتين، الخ، وفيها كلها مناطق رائعة وفارغة من السكان كليا. اما الجريمة الثانية التي
ارتكبها الغرب فهي انه بعد ان فعل فعلته تلك راح يكفر عنها بارتكاب فعلة اخرى لا تقل هولا: الا وهي تشجيع اليهود على غزو بلاد العرب. وهكذا كفر عن خطيئته بواسطة تدفيع الآخرين ثمنها: اي سكان فلسطين. وهذا يشبه حكم قراقوش: اي الحكم التعسفي، الاعتباطي العصملي العثماني الذي لا يكاد يصدق.. وهكذا ورط اليهود المنكوبين في اكبر جريمة حصلت في القرن العشرين: اغتصاب فلسطين شبراً شبراً وقريةً قريةً على مدار نصف قرن، بل على مدار قرن كامل، لان الاغتصاب او الاستيطان لا يزال مستمرا. وهكذا استطاع الغرب ان يحل مشكلته مع اليهود عن طريق تهجيرهم الى بلد مليء بالسكان بدلا من ان يهجرهم الى بلاد فارغة تقريبا ومستعدة لاستقبالهم. وهنا تكمن الجريمة الاكبر في تاريخ الغرب بعد جريمة المحرقة النازية.
ولكن هنا نلاحظ ان الجريمة مشتركة بين قادة الحركة الصهيونية وقادة الغرب نفسه.
فالمؤلفة تقدم لنا صورة مدهشة عن المناقشات الحامية التي جرت في اروقة المؤتمر الصهيوني الاول وكذلك المؤتمرات التي تلته ونفهم منها انه كانت هناك عدة خيارات مطروحة وليس فقط فلسطين. فقد فكروا اولا بالارجنتين واوغندة وكندا وكل هذه البلدان كانت تحتوي على مناطق شاسعة واسعة خالية من السكان كما قلنا وكان بالامكان اقامة دولة يهودية فيها بدون اي مشكلة، بل وتقول فيفيان فوريستير بان هيرتزل الذي زار فلسطين مرة واحدة ولم يحبها كان ميالا في اواخر حياته الى اختيار اوغندة. وكاد ان ينتصر خيار اوغندة في آخر لحظة لولا موته المبكر..
وبعد موته حصل التصويت وانتصر خيار فلسطين بأغلبية نسبية فقط. فلنتخيل (ولو للحظة)
ان خيار اوغندة او الارجنتين هو الذي انتصر، اما كان تغير وجه العالم؟ اما كان الغرب وفر على نفسه احدى اصعب المشاكل واشرسها في تاريخ القرن العشرين؟ اما كان اليهود وفروا على انفسهم عداء مئات الملايين من العرب والمسلمين؟ نقول ذلك وبخاصة انهم عاشوا مع العرب في وئام وسلام طيلة عدة قرون اثناء حضارة الاندلس الزاهرة، بل وفيما بعدها وقبلها. وساهموا في تلك الحضارة بعلمهم وفلسفتهم.
ثم تستغرب فيفيان فوريستير موقف هيرتزل وقادة الحركة الصهيونية العالمية على صعيد آخر وتقول: لقد كان اليهود يتمتعون بكافة الحقوق المدنية والسياسية بعد انتصار التنوير والثورة الفرنسية على النظام الاصولي المسيحي القديم الذي كان يحتقرهم جدا. لقد اصبحوا لأول مرة في تاريخ الغرب مواطنين من الدرجة الاولى مثلهم في ذلك مثل بقية ابناء الشعب. فلماذا فكروا في تلك اللحظة بالذات باقتلاع اليهود من اوطانهم ومجتمعاتهم، اي من دون اوروبا الغربية الحضارية المتمدنة؟
لماذا لم يراهن هيرتزل على الاندماج في اوروبا بدلا من التهجير الجماعي الى فلسطين او اي بلد آخر؟ نقول ذلك وبخاصة ان معظم اليهود كانوا يرغبون في الاندماج في اوروبا او الهجرة الى اميركا الشمالية، لا ريب في ان يهود اوروبا الشرقية وروسيا كانوا يرغبون في الهجرة لانهم يتعرضون للمجازر في بلدان لم تتمدن ولم تتحرر فكريا وسياسيا بعد. وهذا شيء مفهوم. ولكن لماذا يهاجر سكان اوروبا الغربية التي تخضع لشريعة حقوق الانسان والمواطن ودولة القانون؟
وهي شريعة لا تميز بين الناس على اساس الدين او المذاهب او الطائفة.
للدلالة على ان معظم اليهود آنذاك ما كانوا صهاينة ابدا ولا يريدون الهجرة الى بلد مسكون ومليء بشعبه كفلسطين فان المؤلفة تقول ما يلي: «الارقام تفصح عن نفسها. ما بين عامي 1881 ـ 1914 فان مليونين وسبعمائة وخمسين ألف يهودي هاجروا من اوروبا الشرقية اساسا الى الولايات المتحدة ومائة ألف هاجروا الى انكلترا، فقط %1 (واحد في المائة) قبلوا بالهجرة الى فلسطين! وكان ذلك في اوج الدعاية الصهيونية. ولكن لا أحد كان يصدقها او يستمع اليها اللهم الا الحركيين السياسيين المتحمسين اكثر من اللزوم». (ص 118).
وبالتالي فالمشكلة الكبرى التي واجهها الصهاينة هي هذه: لا أحد يريد «العودة» الى الارض التوراتية. نقول ذلك على الرغم من ان العهد النازي كان قد ابتدأ في المانيا. وقد علق دافيد بن غوريون آمالا كبارا على النازية لكي تشجع اليهود على الهجرة الى فلسطين عن طريق تخويفهم. ولكنهم رغم كل المخاطر المحدقة بهم لم يهاجروا ولهذا السبب فان بن غوريون رفض استقبال بقاياهم بعد حصول المحرقة.
وقال وكأنه يتشفى منهم: لماذا لم يهاجروا قبلها؟ لماذا لم يستمعوا الينا؟ نحن نريد رجالا اقوياء في فلسطين لا اناسا مهزومين او مصابين او مدمرين! اين هي النزعة الانسانية اذن في هذا المشروع الصهيوني العظيم! والأنكى من ذلك هو انه استغل محرقتهم وعذابهم لكي يشيد دولة اسرائيل على انقاض فلسطين وانقاضهم، فلولا المحرقة لما استطاع اقناع الامم المتحدة بالتصويت على تقسيم فلسطين وانشاء دولته عام 1948. فقد كان التعاطف عاما مع اليهود آنذاك بسبب محنتهم وعذابهم (نلاحظ ان كلامه عن الناس الاقوياء والاصحاء الجسم يشبه كلام النازيين انفسهم!).
ثم ما معنى هذه العودة الى فلسطين وكأنهم تركوها البارحة؟ ما هو هذا الحق التاريخي على ارض مسكونة من قبل العرب منذ خمسة عشر قرنا على الاقل؟ ينبغي العلم بان اليهود كانوا قد طردوا من فلسطين منذ ألفي سنة او اكثر من قبل الرومان.
وماذا نفعل بهذا الشعب الذي يسكن فلسطين أبا عن جد منذ ألف وخمسمائة سنة؟
نشتري ارضه قطعة.. قطعة، نحتال عليه في البداية بدون ان نظهر نوايانا الحقيقية حتى نكون قد اصبحنا اقوياء وبعدئذ نطرده من ارضه تدريجيا حتى تصبح كلها لنا..
هذه هي الاستراتيجية التي اتبعها قادة الحركة الصهيونية منذ نهايات القرن التاسع عشر وبعد ان استقر الاختيار نهائيا على فلسطين. وساندهم في ذلك قادة الغرب ذوو العقلية الكولونيالية البغيضة التي كانت تعتبر فلسطين فارغة حتى وهي مليئة بسكانها! وما همّ اذا كان فيها سكان! نطردهم الى مناطق اخرى وتنتهي القصة.
فهم عبارة عن كم مهمل لا معنى له.. على هذا النحو كانوا يفكرون ثم يضيفون قائلين:
فليذهب اليهود الى هناك اذن وليحتلوا اراضي العرب وليدخلوا في صراع مفتوح معهم:
فخار يكسر بعضه.. وعندئذ نكون قد تخلصنا من مشكلة اليهود عن طريق تصديرهم الى
منطقة اخرى بعيدة عنا وربما تحولوا الى مواقع متقدمة لحضارة الغرب ضد البرابرة المتخلفين.
ولم يكن يخطر على بالهم اطلاقا ان سكان فلسطين قد يكونون متعلقين بأرضهم وأشجار زيتونهم وبرتقالهم مثلهم في ذلك مثل بقية شعوب الارض. لم يكن يخطر على بالهم ان يقترحوا على اليهود منطقة اخرى غير فلسطين، منطقة اكبر منها واوسع. وهكذا اصبحت الكارثة مبرمجة عن سابق قصد واصرار، ثم يتباكون الآن على العنف الزائد عن الحد في فلسطين ويذرفون دموع التماسيح. ويتفاجأون ويبدون دهشتهم.
وعندما وصلت الدفعات الاولى من اليهود الى فلسطين اصيبت بالذهول. فالارض ليست فارغة كما اوهمتهم الدعاية الصهيونية التي كانت تقول: ارض بلا شعب لشعب بلا ارض. وهنا تكمن الخطيئة الاصلية، الخطيئة القاتلة للمشروع الصهيوني ـ الغربي.
وكل المآسي والجرائم والمجازر التي ارتكبت في ما بعد تعود الى هذه المسألة.
بالطبع فان المؤلفة تكرر على مدار الكتاب بأن ما حصل قد حصل، وان دولة اسرائيل قد اصبحت امرا واقعا لا يمكن التراجع عنه بأي شكل، وان لها الحق في الوجود والاستمرارية وهذا شيء مفروغ منه الآن بالنسبة لمعظم العرب ما عدا المتطرفين الاصوليين وبالتالي فالحل الوحيد يكمن في التفاوض المباشر بين الفلسطينيين والاسرائيليين الذين هم جميعا ضحية الغرب والخطيئة الاصلية التي ارتكبها بحق اليهود والفلسطينيين في آن معا يوما ما.. ولكنها في ذات الوقت تلقي بجزء كبير من المسؤولية على قادة الحركة الصهيونية وليس على اليهود ككل.
وفي مقطع شديد الدلالة تقول المؤلفة: في عام 1991 وبعد مرور ثلاث واربعين سنة على تأسيس دولة اسرائيل، صرح اسحاق رابين امام الكنيست قائلا: «لقد عدنا الى اسرائيل وأسسنا فيها شعبا. ولكننا لم نعد الى بلد فارغ. فقد كان الفلسطينيون هنا». (ص179).
هذه العبارة القصيرة هي التي قتلت رئيس وزراء اسرائيل، كما تقول فيفيان فوريستير. بدءا منها اصبح الرجل ميتا او في حكم الميت، ألم أقل بان الحقيقة رصاصة او اخطر من الرصاصة؟ فإياكم ايها الناس ان تقتربوا من الحقيقة، ان تحبوها او ان تقولوها.
لقد كان سيغموند فرويد عظيما وبعيد النظر عندما رفض الايديولوجيا الصهيونية على الرغم من انه يهودي معتز بيهوديته وحساس جدا لاضطهاد الشعب اليهودي الذي عانى كثيرا على مدار التاريخ. فعندما جاؤوه عام 1930 للتوقيع على عريضة لصالحهم او لصالح مطالبهم في فلسطين رفض وقال لهم: اني اخشى التعصب الهوسي او المرضي لشعبنا اليهودي. وليس عندي اي قناعة ببضعة أحجار في فلسطين (اشارة الى حائط المبكى).
ثم يردف هذه العبارة الرائعة التي تختصر كل شيء: «ليتكم بنيتم وطنا على ارض عذراء غير مثقلة بالتاريخ!!».