آبق

عصام الدين محمد أحمد

 

clip_image002_04a8e.png

[email protected]

أجمع معلومات عن قبرها لمدة أسبوع، أختار وقت الغَسَق لأخترق الجبانات، فوق المشهد اسم العائلة، إضاءة الشارع ذَاوِيَة، ذابلة، دنوت، نخخْتُ على ركبتي.

ـ آه أيّها الزمن الآبق من سجن الرقباء!

 أتمتم متذكرًا:

أيتها العزيزة قرأت خطاباتك مائة مرة، أفض غلالة الأستار، ألمس السر، أشعر بالضعف، بالعراء،باليتم، ألعن الجسد فى كل كتاب.

-لماذا تحتويك الفتنة فأكرهك؟ 

  أراك فى عيونهم بلا رداء، يستحضرونك حين الاشتهاء، أشعروني بضآلتي.

- لماذا يدنسونك فى معبدي؟ 

  سمَّوْك سميحة وسمَّيْتك فينوس، يا ويلي من هجوم الوثنيين ! تكسرت سهام كيوبيد على معارج محرابك.

- أهناك ثواب وعقاب؟ 

- فأنت الثواب والعقاب، لماذا عشقتيني؟ 

  ألفظك أسفل أقدام الغواية، يغزُل شعرُك الرمادي شِبَاكَه حول قلبي الثليم، فى قلبي أجنحة عهدت الطيران.

- أيها الشارع القاهري لماذا أنا - الآنَ - موجود؟

أتماهى من درب إلى درب.

- أيتها الدروب لماذا الصَّلْب فوق باب قلعتك؟ 

  أولمتك العشاء، اللحم والثريد ، أسكرتك بقيان الخمر المُعَتَّق .

- لماذا تأبين وجودي؟  

- لماذا لا تحتوينني كالآخرين؟ 

  لا أدرى من بادر بالنفور، يسخر الناس من هيئتي .

- فأنا من أنا؟  

 مهاجر منزوع الفؤاد، على عتبات الخدر، اجتثوا القلب، مشرط الجراح يجيد العبث بالأشلاء، تركتك خلف شرفات الوداع، قاطرة الهروب يعلو صفيرها، تنعق الأرض لافظة  بقائي المأزوم، رماح الأرض النابتة تطارد خطوى الوئيد، يقفز عالمي الصغير، حينما نازعت القلب البقاء ظننت الخلاص، ولكِنَّ طيفَك يُربِكُنِي، فى كل مساء ألثم شفتيك المُتْرَعَتَيْنِ بالشهد، أتجرع كأس الارتواء، حينما أتعرى ألتحف جسدك المرمري  فأنتشي الارتخاء.

- يا لزخمك الحسي! ، ما تركني يومًا أنعم بالوحدة.

حوانيت مدينتك الذكرى تهاجمني ليل مساء، خدعتني الفروسية فى محراب عشقك محطم الأبواب، تحتويني بين نهديك.

 تتأوهين:

- ماذا تظن بي؟

أقلب صفحات خطابك الطويل، أنتقي الكلمات.

- لا أظن بك إلا كما تظنين.

خَدَعَتك النبرات، وكأننا فى دنيا التوسلات ضعفاء، تعزفين بأحبالك الصوتية.

- لمَ العجلة؟

شاخت لحظاتي، بخفر اللاقطين لدعوى الإقامة.

أقول:

- الصلاة.

جيوشك ترابط على الحدود، يتراص جنودك بتوزيعات هرمية، تنطلق السهام، تأسرني بأغلال وسفور، أرفل فى قيودي، فى النزل القريب أنتحي قبلة الصلاة، أسخر من جنوحي.

- لِمَ لا تصلي فى مكمنها القائم فى الطريق إلى المسجد؟

الآن تهزمني الحروف، تغربلنى بطلقات التردد، أخشى تسلق جدار البوح، أتأبين الإنصات لاعتراف طال كتمانه؟ ، صندوق الكلمات صَدِئ الحواف والجنبات، كل الأصوات رنينك، منذ ركوبك راحلة النهاية والجسور تلفظني، خدعتني القاهرة، بريق الأضواء خلب ناظري.

- ألا يعكس نقاء القلوب؟ ألا يفضح المظهرُ المَخْبَرَ؟ 

  مذياع الخادعة أعلن عن قدوم ساذج، يحمل فوق كاهله (خُرْج) طافح بالهموم، ما فى القاهرة من مأوى، الأقارب تدفنهم شقة، غرفتان وصالة، الخال لجلالة قدره له غرفة، يتضرَّرُون من وجودي، فالطين يزداد بللًا، يستقر بي الحال فى محل بروض الفرج، زحام العمل لا يتيح لي وقتًا للنوم، فلا ضَيْرَ من النوم فى الشارع أو على الرصيف أو فى مخزن الأقفاص، الشاعرية تغرق الأجواء، السيارات المحمَّلَة بمئات أقفاص الفاكهة تتراص فى طابور لا نهاية له.

- أتدركين أن كتفي الأيسر حمل مئات الآلاف من الأقفاص؟  

 الليل عقاب لمن هرب منك، أتأمل صورتك والروائح العَفِنَة تَزْكُم أنوفي، الجنيهات تستدل على عنوان جيوبي، ناء جنباي تعبًا، الصيف رحيم لا يُكلف كثيرًا؛ حصيرة جافة ملقاة فى أى ركن فراش وثير.

- تبًا لكل فلسفات العالم!

أريد بندقية لأطخ (سارتر) عمورين، أتعبني بجنونه وجنوحه، كلماته تهاجمني أينما جلست، الوجود للذات ليس كالوجود فى الذات.

- لم أفهم شيئًا ، ولكن للكتابة بريق الإيهام.

 وسيمون دى بيفوار تنغص أفكاري، وتُفَرِّط حبات عَقْدِي، الآن تظنين بي الهبل.

- فما عَلَاقَتُك بسارتر وعشيقته؟  

رجاءً لا تغضبين من كلامي، لا تُلوِّحين بخصلات شعرك المتماوجة تذمرًا، ألاحقك بين مسالك المدينة العتيقة، يسكرني خطوك الوئيد، سيمون تجوب الشوارع، وأنا خلفها كالتابع الخذلان، تنثر الشذا التركي، وأنا الصعيدي الجلف أتنسم الأريج، والآن ها أنا متقد فوق الحصيرة أتأمل المشاهد وأطلق أحكام الإدانة، وأنْصُب مِقْصَلة الأخلاق على ضفاف نهر التوجعات، سيدتي الجميلة دعيني أحكي، انزعي سيفك من قلبي المتعب.

 تقولين:

- الإنسان حر.

نعيق يصم الآذان.

- كَذَبَ المُنَجِّمُون ولو صدقوا.

أتلو فى خَفَرٍ:

- أحبك.

( صداها يُلاحِقُكَ:

- كذب

- أنت لا تعلمين من أنا! )

تبتسمين بالغواية: 

- خذ المال.

الصدى يخفت:

- أين لى بالشجاعة؟

تمزحين:

- فما أنا سيمون!

- وما أنا سارتر!

- أنت فى شِبَاكي الآن ولن تُفْلِتَ.

- دومًا تنسين أبسط المعلومات عن الجرذ. 

- لماذا ذهبت إلى شق البكارة؟

- تقصدين البقارة؛ من بقر بطن البعير.

- من أوهمك بهذه الخزعبلات؟

- أسرارنا خزعبلات.

- أتعتقد فى نفسك الفلسفة؟

- بل أعتقد الخبل.

بالأمس القريب قضيت شطر النهار بشق الجمسى. 

 قال الولد مُقَهْقِهًا :

- النساء فى هذا الشق لا يرتدين ملابس داخلية.

- ماذا وجدت؟

- ألا تخجلين عن الحديث بعورات الوهم؟

- ألم تقل أن أسرارنا خزعبلات؟

- لم أجد شيئًا؛ فليس كل ما نظن أنه مباح متاح.

أجدَبَتْ الحياة، أمست الحوارات من باب التسلية، فالتنقل بين ممالك المعز أقلقني؛ فالعمارات المصطفة  بها آلاف الأسر، وأنا تائه، سكني حصيرة ملقاة هنا وهناك، الربيع والصيف يسافران، يخلفهما الشتاء والخريف، لا مندوحة من الحصول على غرفة، ضيقة وبالدور الأرضي، وإيجارها مرتفع، يستهلك نصف أجري، ولكن ما باليد حيلة.

فى كل خطوة أجِدُك قابعة تراقبيني، أتأمل وجهك الحليبي، وشعرك الذى يحف عجيزتك، أشتهى أن أمضُغَك وأستحلب ريقك.

- ما الجنون الذى حاق بي؟ 

- كيف أفكر فى مضاجعتك وأنت بالتراب تتدَثَّرِين؟ 

- ما لدناءة النفس هذه؟

بصراحة السكن استهلك جُلَّ حياتي، دون جدر صماء تحتويك فأنت عريان، وكأن في التستر حياة، فالنائم فى عورته منغمس، لا يدري كيف تكون هيئته، ربما تنقشع الأستار!  يسافر عبر الزمان، يتنقل من مكان إلى مكان، لا تُكَبِّلُه أكاذيب الأخلاق، يُزيح أغطية النفاق، وكأن التعريَ نبراس المصالحة مع النفس، ها هو أخيرًا مَوْطِئ ستر الجسد قد تحقق، نادرًا ما أغفو فى المساء، أحمِل فوق كاهلي الأثقال، أزاحم مناكبَ مُتْعَبَة، تتسلل ساقاي بين السوق المُرتَجِفَة، الناس لا يعيروني اهتمامًا، فما أكثر العابرين! ، فى الأدخنة  تتشكل هيئتى، تتيه، تتموه، تتموج، وكأنني عبقريُ هذا الأوان، ترفلين بصحبة العاشقين، تحتويك عيونهم النهمة، الصورة تتباعد، فوق كوبري إمبابة، تتمزق، يطفو نِثَارُها فوق المياه، الشوارع المضيئة تغويني، من مقهى إلى مقهى والقلب حائر، يلعبون بالنرد، شيش بيش، دوبارة، البُرُودة الشديدة تتفصدني، العرق الغزير يبلِّلني، الجالسون أرديتهم أنيقة، يتجرعون مشروبات السعر المرتفع، كاد جسدي ينهار أسفل أقدام الطاولة، تبًا لحروف الكلام، ومرحبًا بالهوام.

 لا يفتر ثغر النادل عن النداء:

- أيوه جاي ..  أيوه جاي.

تنفتح فوهات الأطرحة، تخرج الأكفان المتربة، الجماجم منزوعة العيون تتمايل فى شتى الاتجاهات، الهياكل تزدحم بها البسيطة، التحركات تنم عن الغضب والقلق، الأذرع مرفوعة أدنى الرأس قليلًا، الأقدام تنحت الخطو، الأغبرة تنتشر فى الأجواء ، تبرق السماء فجأة، تتبدل الآحاد عشرات، مئات، آلاف، الصفير يتفاقم رنينه.

- الأموات يريدون الحياة.

منذ مئات السنين ينسلون من الأجداث،أجري،  جحافل الأكفان تلاحقني، برق وغبار وصفير، الموت سيحيق بي لا مُحَالَة، بخوذاتهم الصُلبة يقفزون، بقمصانهم المضادة للرصاص يلاحقونها، يجرجرونها، ينزعونها من أكفانها السوداء، تتعرى ، يستحلبون عُرْيَها.

- أتتركها للمرة الألف وحيدة تجابه الهوان؟  

- لن أتركها.

بآهات السنين المُنْصَرِمَة، أنتفض، باتجاهها أعدو،بعضهم يطاردني، والبعض الآخر ينتهكها، بالعِصِي الغليظة ينفضونني، يشقون وجهي، رأسي، يسلخون بطني وظهري، يُكسرون عظامي، يفككون خلاياي.

 أصرخ:

- اعذريني يا سميحة.

صوتها فى حلقومها منذ وأدها، لا تملك من أمرها شيئًا، ملايين البشر يستحلبون صورتها على شاشات التلفاز، أحاول الوقوف تحت سنابك الجنود الموتى، أفشل، سهام الوجع ترشقني، الدماء تلون أسفلت الجبابين، منذ سنوات يأكلون الثعابين والحيات، يتدربون فى دهاليز الموتى .

- أتجدي المقاومة مع هؤلاء؟

  مسلسل التعرية تتوالى حلقاته.

- ماذا سترَوْن أسفل عباءتها ؟   

- تبًا للمبادئ والنثر المنظوم! 

ها أنا أتراجع إلى غرفتي، أحتمي بجدرها الصماء من زحفهم، تَحِيق بي الكدمات ونتوءات الجروح، أنطفئ أسفل شراشف فراشي، تصطك أسناني، يَصْطَلِي بدني، بكاء النساء يخضني.

 يتلجلج لساني :

- يا مغيث.

تتعبأ الخيمة بروائحهم؛ تتسرب أتربة سفرهم الطويل من مسام الخيش، تهطل قطرات عرقهم العطنة من السقف، تخترق طلقاتهم الأجناب، أستجير بالسماء بالصراخ.

- أهذه الخيام الملقاة هنا وهناك ستصمد أمام رماحهم؟

أغرس مُديَتِى الحادة، تمزق شَغَافُ قلب سارتر.

أقهقه معلقًا:

- ها قد أفنيت وجوده!

- ما جريرته؟

- أوراقه أرهقتني.

وسوم: 636