الخبر
انحدر جنوبا مع الزقاق . أبواب البيوت في الجانبين موصدة . الصمت المهيمن الوحيد . وحشة تتغلغل في القلب . حكاية الغولة التي التهمت حيا كاملا تطفو في خياله . إنه الشاب الذي عاد إلى الحي القفر في الحكاية . في الجنوب وفي الشمال قصف مدفعية وأدخنة مغبرة . زنانة تؤكد وجودها في سماء المنطقة . من دخلة جانبية تنبعث قطة صغيرة ذهبية اللون . أبين ما فيها ذيلها الذي بدا بارزا بقوة لضمور جسمها ونحافته . من أين لها الطعام بعد أن فارق الناس الحي من عشرين يوما ؟ فارقوه تباعا . كل عائلة وكل شخص وفق تقديرهما لأحداث الحرب وتوقعات تطوراتها وتزايد أخطارها . اقترب من سور بيته الذي تميزه شجرة جازورينا بأفرعها الوريقة الدقيقة التي تنسبل متخطية باب السور حتى تناصف الزقاق . تتدافع وساوسه وهواجسه كثرة وقلة . قد يكونون في بيته . من يومين عاد شاب إلى بيته في المنطقة ففوجىء بهم في داخله . استجوبوه وأمروه بالمغادرة فورا . مشى مائة متر تقريبا وهوى يتخبط في دمه . قتلوه حتى لا يخبر رجال المقاومة بهم . مفارقة غريبة تهول النفس . بيت الإنسان منبع أنسه وأمنه . متى عاد إليه هجرت نفسه غموم العمل ومنغصات الأحداث والعلاقات خارجه . يلوذ به كل يوم مطمئنا مهما حوى بدوره من مشكلات ومكدرات . المفارقة الكبيرة الغريبة أن أكرم يعود الآن إلى بيته متخوفا تتناهبه الوساوس عنيفة موترة لكل عصب في بدنه . دعك من عودته إليه خاليا من أي فرد من أفراد الأسرة . كاد يبتسم ساخرا حين تشابه تسلله في باله بتسلل لص يهم بالسطو ليلا على بيت أومحل . وحزن حين وعى في ومضة عابرة أن اللص أوسع أمنا منه إذ يبادر إلى السطو . لو قبضوا على اللص ما أقسى ما قد يفعلون به ؟ المؤكد أنهم لن يقتلوه . قد يضربونه وقد يسجن . حالة أكرم خلاف ذلك . لو وجد في بيته جنودا إسرائيليين فليسرع بقراءة الفاتحة على روحه . دفع الباب الموارب هادئا حذرا . خطا مترددا متوجسا . توقف . أسقط كيس البلاستك الحاوي خبزا ومعلبات تسلمها في المدرسة التي اتخذت مركز لجوء . فاضت الأطعمة التي توزع مرتين يوميا عن حاجته وحاجة أسرته في الملجأ ، فجلبها إلى البيت أملا في أن تتوقف الحرب في أي وقت . وقد يستعين بها ابنه المحارب في المقاومة إذا تسلل هو الآخر إلى البيت في زمرة من رفاقه المحاربين ، فيجدونها في المطبخ . حمل الكيس وتقدم لا تفارقه توجساته . لامست فروع الشجرة رأسه ووجهه . استعاد في خاطره ملامساتها في خروجه ورجوعه قبل الحرب القاسية البغيضة . تفحص الحواشي الرملية في صدر البيت . ما من آثار جديدة واضحة لأقدام . حتى ابنه ورفاقه لا آثار لهم . تمتم في شجن هم أن يقطر دمعا : أين أنت يا ولدي ؟!
صعد درجات المدخل الخمس وفتح باب القاعة . صدم وحزن . لا زالت الشمامة على الكرسي في القاعة . إذن ابنه لم يدخل البيت منذ كان معه فيه من ستة أيام حين أحضر له الشمامة في تسلل فائت للبيت . فتح غرفتين . صمت ، وحشة ، موت . أين الحياة ؟ دخل المطبخ ووضع الكيس في زاويته الشمالية الغربية . غسل الغلاية من بقايا القهوة التي شربها في التسلل الفائت . صوت الزنانة فوق البيت . هل تقصفه ؟ ترك المطبخ واقترب من باب القاعة . دخل غرفة ونظر جنوبا من النافذة . أحس ابتعادها فعاد إلى المطبخ . وبعد ثوان سمع قصفا . قصفت من ؟ قصفت ماذا ؟ وضع الغلاية فوق الموقد يداخله إحساس بالخجل من نفسه . يشرب قهوة بعد شخص قتل أو بيت قصف ! من ستة أيام ما سمع هذا الهسيس البهيج اللذيذ للغلاية . الإسرائيليون قتلة مجرمون مخربون . يقتلون في حياتنا حتى أصغر البهجات وأبرأ اللذات . يقتلون حتى لحظة استمتاعنا بصنع القهوة أو الشاي وشربهما ، ويملكون مع ذلك أفكارا فاسدة عن إنسانيتهم . هكذا حدثته نفسه تلك اللحظة . أتته رسالة على الهاتف النقال . اللهم خيرا ! هوى على الكرسي الوحيد في المطبخ ! سعت يده جامدة إلى مفتاح الغاز وأخمدته . قرأ زائغ النظرات على شاشة الهاتف :" استشهد المواطن سعد الشيخ في الوسطى إثر قصف لطائرة زنانة " ! استشهد ابنه . اندفع خارجا . سيعود إلى المدرسة . أحاسيس تتلاطم في صدره . صور لا تنتهي لوجه ابنه في سني عمره منذ ولادته حتى آخر لقاء بينهما في البيت . متى يصل إلى المدرسة ليصد عن زوجته وبناته بعض هول زلزلة الصدمة ؟ أسرع في سيره . أحس دموعا على خديه . ما من وسيلة تعين في سرعة الوصول إلى المدرسة . الشارع الرئيس في المنطقة حيث يسير خال من أوله إلى آخره . رن هاتفه . ها ! ماذا تحمل ؟! هم بإسكاته أو تركه دون رد حتى يتوقف المتصل عن اتصاله . فتحه . صوت زوجته يخبره : " استشهد سعيد ابن أخيك أحمد " . لا تفرق بين اسميهما سوى الياء . أخطأ مصدر الخبر الأول .
وسوم: 638