(أَقِطُ أم سُلَيْم)
أنس بن مالك كان فتىً أنصارياً، لم يبلغ العاشرة من عمره حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخذت أمه "أم سليم" بيده وذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هذا أنسٌ يخدمك. فلازم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى أن لحق بالرفيق الأعلى ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث دعوات: ( اللهم بارك له في عمره وبارك له في رزقه، وبارك له في ذريته ). فعاش قرابة مئة العام، وكان له حائط نخيل يثمر في السنة مرتين، ورأى ثمانين من ذريته. وقال أنس: خدمت رسول الله عشر سنين فما رأيته قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء تركته، لم تركته. أخلاق نبوية عالية، ربّاه ربه فأحسن تربيته وجعله قدوة للبشرية ومعلماً لها، فلا غرو أن يكون هذا المعلم كاملاً في صفاته، عظيماً في معاملته صلى الله عليه وسلم وبارك، اللهم اجعلنا تحت لوائه وارزقنا شفاعته واجعلنا من أهل خاصته. قال أنس: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فوجدته جالساً مع أصحابه، وقد عصب بطنه بعصابة، فقلت لبعض أصحابه، لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: ما يفعل ذلك إلا من الجوع، وانظر إلى أصحابه ترَ الجميع في فاقة وعوز، والأيام دول، يوم لك ويوم عليك، فمن شبع شكر الله، ومن جاع حمد الله، فهو في اتصال دائم مع ربه. قال أنس: فذهبت إلى زوج أمي (أبي طلحة) فقلت له: يا أبتاه – ومن رعى ربيبه فأكرمه واعتنى به فهو خير من أبيه حين يتركه – قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه فقالوا: من الجوع، وإني لأتألم حين أراه هكذا، فماذا نفعل يا أبتِ؟ فذهب أبو طلحة إلى مجلس الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ثم عادَ فدخل على أمّي مسرعاً، وهو يحمل مثل همّي فنادها: يا أمَّ سُلَيم؟! قالت: نعم يا أبا طلحة، هل تريد شيئاً؟ قال: قد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً، أعرف فيه الجوع وهذا ابنك أنس نبهني إلى ذلك. قالت: نعم، عندي كِسَرٌ من خبز، وتمراتٌ، فإن جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده أشبعناه، وإن جاء آخر معه قلَّ عنهما. قال: فماذا نفعل يا أمَّ سُليم؟ قالت – وقد التفتت إليَّ -: قم يا أنس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعُه ولا يَشعرَنَّ بك أحد- يا بني- فإن عرف أحدهم ما أنت قائله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقعتنا في حرج... قال أنس: فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته ما يزال جالساً في المسجد بين أصحابه، فبدأت أتخطاهم لأصل إليه، فرآني رسول الله ، فعرف أنني أحمل إليه كلاماً. فقال: ( يا أنس، لعلَّ أبا طلحة أرسلك إليَّ ). قلت: نعم يا رسول الله. قال: ( ألطعامٍ يدعوننا؟). قلت: نعم يا رسول الله .. وقلت في نفسي: لا أكذب على رسول الله، كما أن المسلم لا يكذب. وسمع القوم ما قاله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجابتي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قوموا معي يا معشر المسلمين إلى دار أبي طلحة )، فقاموا يتقدمهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وانطلقت مسرعاً بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته بما كان وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلبث أن يصل إلينا، فدهش، وعنّفني أول الأمر، فلما استجلاه قال مستنجداً بوالدتي: يا أم سُليم، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بالناس، وليس لدينا ما يطعمهم. قالت مستسلمة: الله ورسوله أعلم، وما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم، فهو يتكفّل بهم. فانطلق أبو طلحة يتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما لقيه أظهر السرور والترحيب، وعاد به وبأصحابه إلى البيت حتى وصلوا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو طلحة إلى الدار، والناس خارجها. فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: ( أحضري ما عندكِ يا أم سليم ). قالت: سمعاً وطاعةَ يا رسول الله. فجاءت بالخبز ففتَّته وبالتمر ففلقته، وأخرجت النوى ثم عصرت عليه عُكّة السمن فكان إداماً طيباً، ومزجت الخبز والتمر والسمن جميعاً، فلما انتهت تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه ما شاء الله أن يقرأ، ودعا بالبركة، وسأل الله من فضله وخيره. ثم قال لأبي طلحة: ( ائذن لعشرة منهم بالدخول )، فأذن لهم، فاستداروا حول القصعة وقالوا: بسم الله الرحمن الرحيم، ... وأكَلوا حتى شبعوا، وخرجوا. ثم قال: ( ائذن لعشرة آخرين )، فدخل هؤلاء.. حتى دخل القوم كلهم جميعاً وأكلوا وشبعوا وحمدوا الله تعالى، ثم انصرفوا والقوم سبعون رجلاً أو يزيدون، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم ويباسطهم ويدعو لهم بالخير واليُمْن وطيب المأكل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الآن يا آل أبي طلحة، هلموا إلى طعامكم يرحمكم الله )، ومد يده الشريفة ، فأكل وأكلنا معه حتى شبعنا، ثم جمع ما بقي في الصحفة (القصعة) ودعا بالبركة، فإذا بها تعود ممتلئة كما كانت قبل أن تمتد إليها يد أحد. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توزع أم سليم على جيرانها، ففعلت، ونال مَنْ حولنا من هذه الصحفة. قلت لأبي طلحة: فلماذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عشرة عشرة ولم يدعهم جميعاً، والبيت يتسع لهم. قال: الله ورسوله أعلم، ولعله فعل ذلك: 1- لأنها كانت قصعة واحدة لا قصعتين، فلا يتصور تحلق ذلك العدد الكبير. 2- ولعل الحكمة في ذلك العدد أن لا يقع نظر الكل على الصحفة بطعامها القليل فيزداد حرصهم، ويظنون أنه لا يشبعهم فتذهب بركته. 3- ولعلهم إن كانوا كثيرين اكتفوا بسد الرمق، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يريد أن يأكلوا فيشبعوا. والذي أريد قوله يا بني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل مبارك، أرسله الله لهدايتنا إلى الطريق المستقيم، وأجرى على يديه آيات عظاماً، فكن دائماً على قدميه تنل الخير العميم والفضل المقيم،
قلت من قلبي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
يا رب أرسلت النبي محمداً * بالدين والشرع القويم مؤيَّدا فله من الأعماق حب خالص * ينمو ويربو صافياً متجددا (1)
رياض الصالحين: باب فضل الجوع وخشونة العيش .................................................. ................ 1- البيتان للمؤلف
وسوم: العدد 647