المسرحية
لشدة جوعه
أكل أصابعه
ترك السبابة والوسطى
تحسباً لأي نصر
( مجد ... شاعر ورسام سوري )
مصطفى عاصم
كانت عروق خشب منصة المسرح تحت أقدامي ... مبتلة وتزداد ابتلالا .
لا أعرف يقينا ... هل هي حبات عرقي أو أنهاره المتدفقة إلى أسفل بسبب اضطرابي .
أم هو تبولي اللإرادي بسبب هلعي ورعبي الداخلي الذي لا أريد ... ولا يجب أن أظهره .
أسمع عروق الخشب الرقيقة تتمدد وتنتشي وتنتفخ ... لتتلاصق الألواح وتصطلك .
كل هذا من أثر البلل المنهمر من أعلى شعيرات رأسي ... لبطن العروق الخشبية التي تحمل جسدي كله .
هل من الممكن أن أترك مكاني وأذهب إلى مكان آخر جاف ؟ ...
غير مسموح ... ولا يمكن لي أن أفعلها ... حتى وإن فعلها كل زملائي ...
حتى وإن تركوني وحيدا على الخشبة أؤدي دوري بسذاجة كالأبله الوحيد وسط جمع من الأغبياء ... كل منهم يتذاكى بطريقته .
أكاد أبدو كالغبي الوحيد وسطهم ... أنا من شذذت عن فعلتهم ونأيت عن ما تنوي قلوبهم ...
أنا الوحيد الذي التزم بدوره على خشبة منصة المسرح ... أنا من أحفظ النص جيدا ... بل أحفظ كل نص المسرحية ... دوري ... وكل الأدوار لكل الممثلين .
أنا من هضمت روح فكرة النص ... واستوعبت مغزاها وحلمت بأن أؤدي دوري فيه ... أمام الجماهير ... التي توهمت يوما أنها ناضجة مستنيرة .
أنا المتمرد الوحيد ... وسط مجموعة ، تبدأ الآن عند بداية المشهد الثاني من المسرحية في الخروج عن النص ... يدّعون الورع وهم الأفاقون .
يظهرون الأمانة وهم الدجالون .
أظهروا الالتزام أثناء بروفات العرض ... وهاهم يخرجون جميعا عن النص .
ها هم جميعا يقفون في طابور طويل ممتد ... في مقابلتي تماما ... كل منهم يتقدم ليقبل يد ممثل آخر ... ليس له دور كبير في العرض ... ولكن الشخصية المسرحية التي يؤديها ... مؤثرة ولكن ليست بالقدر الذي يجعله يخرج عن النص المكتوب ... فيتقدمون إليه ... وينحنون ويقبلون يده كمأجوري المافيا عندما يعلنون ولائهم لزعيم المافيا .
ويتمادى الرجل في الخروج عن النص فيخرج من تحت قميصه ، عند حافة حزام سرواله ... ويخرج غدارته ... مسدسه ، الذي لم يكن موجودا أصلا في النص ... وأراه ممتلئا بالرصاصات ... ويتمادى أكثر ... لأنني الوحيد الخارج عن النص ... ويصوب المسدس إلى رأسي .
أقدامي ترتجف ، أصابعي ترتعش ... أسناني تصطك وأحس بالبلل من تحت أقدامي وأكثر وأكثر ... يلوث وينفش خشب أرض المسرح .
**********
وعندما انتهوا جميعا من تقبيل يده واصطفوا جميعا وراءه صفا أفقيا ... ازدادت صلابة يده ... وازداد تصويبه بمسدسه دقة ... إلى جسدي .
وازدادت أنا يقينا بنهايتي الهزلية على أرض خشبة منصة ... المسرح يعرض مسرحية لا معقولة خرج كل أبطالها عن النص .
وعندما بلغ قلبي حنجرتي ... نظروا إلي جميعا وابتسم هو أيضا وأخفض ذراعه وسلاحه .
قال الرجل المسلح وكأنهم جميعاا يقولون معه ( هل خفت ... لقد كنا نمزح ... إنها مجرد مزحة صغيرة ) .
وارتخت كل عضلات جسدي وعقلي في لحظة ... بعد طول توتر ... وسقطت على أرض المنصة الخشبية ... وأنا مبتل تماما ما بين عرق وبول .
***********
تركوني وشأني ... أنا المنهار جسديا وعصبيا وانصرف كل منهم لشأنه ... في أحاديث جانبية وتجمعات متفرقة وكأننا عند منعطف شعبي في أول الطريق العام .
وبدأت استجمع قواي كلها لأنظر في كل الأركان والانحاء ... واندهشت ...
القاعة مليئة بالجمهور ... الذي أتى ليشاهد عرضا مسرحيا لنص حسبوه واحتسبوه راقيا فإذا بهم يشاهدون غوغائية مضطربة لا أصل لها ولا فضل ... ولا بداية خيط .
وتصل دهشتي إلى ما بعد سدرة منتهاها ... عندما لاحظت أن الجمهور ... كل الجمهور ... صامت لا يحرك ساكنا ... بل إنهم كلهم يتابعون كل هذه الملهاة بنظرات سريعة ... خالية من أي حياة .
*********
في أي فصل مسرحي نحن ؟ ... وأي مشهد ؟ .
أحاول أن أراجع سريعا في ذهني تفاصيل الدراما المسرحية المغتالة ... لعلي ... لعلنا جميعا ندرك او نتدارك ما فات ... ونعاود الانغماس في صلب المشهد القادم ... بحواره وسخونته والصعود لقمة ميلودرامية .
ولكن ... لا أدري مهتما أو معنيا بما يعنيني ... كلهم يتنزهون فرادى أو أزواجا وثلاثا ...
يتحدثون بصوت عال أحيانا ... وأحيانا أخرى يهمسون ويتهامسون ... وبعض المرات القليلة يقهقهون بضحكات طويلة هازئة ... ورقيقة .
وقع بصري على الملقن المختبئ في جحره ... في الكمبوشه عند أسفل منتصف خشب المنصة ... وجدته مسندا رأسه على يده اليمنى ... وباليسرى يلقم فمه بحبات الفستق والفول السوداني ناظرا إلى نص المسرحية أمامه كأنه يقرأها لأول مرة ومستمتعا بها وحده ... دون غيره .
وأثناء تجوال حدقتيه في مجرى عينيه ... اصطدمت عيناه بعيني أنا ... حسبته لبيبا بإشارتي يفهم ... وسألته بصمت وبلغة العين السامية : .
( ماذا يحدث يا عزيزي الملقن ؟ . ) .
وفهم الرجل سؤالي ... ورد بإشارة واضحة مفهومة أكثر سهولة في لغة العبون ... رفع كفيه لأعلى ... وذقنه برأسه لأعلى وأعلى ... واعوج فمه ... كأنه يقول ممتعضا ( لا أدري ... ليس لي في الأمر حيلة )
**********
من يستطيع إفهامي ... من يشرح لي .
من له القدرة على إنارة ما استظلم واستغلق من هذا الواقع ... الدرامي ... المفترض أنه افتراضي ... وانغمست فيه كلي بكل كياني وواقعي أثناء البروفات ... حتى خيل لي في وقت حاد بارز وسط الأوقات ... أن المسرحية هي حياتي الواقعية ... وما دونها ... افتراضي مفترض .
عند أقصى يمين منصة المسرح ... وجدتها ... ليلى .
جالسة على أريكة خشبية ... تضع رأسها بين يديها ... لعله عجبا أو حزنا وإندهاشا مما يجري ... مثلي ... ومثل ما يحدث معي .
ليلى هي شريكتي وزميلتي في هذه المسرحية ... ومن المفترض أنني أحبها ... وهي كذلك تبادلني مشاعري ... ومن المفترض أيضا أنني أسعى جاهدا للزواج منها ، متحديا الصعاب الكثيرة بكل أشكالها ... وهي من المفترض أنها فتاة جريئة آمنت بحبها ومبادئها ... وترفض كل الانزلاقات المادية لكي تحقق حلمها بالزواج ممن تحبه ... والأولاد ... والعائلة المستقرة التي تحلم بها أي فتاة .
أخيرا ... وجدت من يشاركني احساسي وامتعاض ... واستغرابي لهذا التغريب المتعمد ... أهرول إليها مزاحما كل من في طريقي على المنصة ... حتى وصلت إليها .
أقف أمامها وأناديها همسا كأنني أمثل دوري في المسرحية ... أو كأن شخصيتي في المسرحية هي التي تعيشني وتتقمصني .
( ليلى ... أنت هنا وحدك ) .
وترفع ليلى رأسها إليّ باستنكار ... ولا تنطق كلمة ... تنتفض وتنهض ... وتمضي مسرعة إلى حافة المنصة ... وتخلع في طريقها كل ملابسها وتلقيها كأنها فتاة استعراض ليلية ... تهبط من أرض خشبة المنصة ... إلى المقاعد وسط الجمهور وتتجه إلى ركن مقذوف في الجنوب الشرقي ... حيث مجموعة من الرجال تبدو عليهم الخسة والوضاعة ... في منتهى التألق كأنهما قد التصقا بجلودهم ...
وتستقر ليلى بينهم ... وهم من فورهم يبدأون في العبث بجسدها كالذئاب ... ولا يتوقفون .
**********
أريد عدلا ... أريد حكما ....
أريد إنسانا يوقف المسرحية ... ويعرقل عجلات الحلم .
المسرحية حلم نفرضه ... نكتبه نحن ... ونخرجه ونمثله ... بل ونكرره في أبهى وأمثل صورة .
ولكن مسرحيتنا خرجت من نطاق السيطرة ... إلى حيز آخر وحلم آخر ... هو المسيطر ... هو الأمر والمحرك للأحداث واللامنطقية ... والتي للأسف أظهرت بواطن كل الممثلين .
والأخطر هو ظهور خاصية أساسية مقيته لكل الجمهور المستلقي على المقاعد أمامنا .
وأنا الوحيد بين هؤلاء ... أمكث مكوما ... مشرذما ... بدون حماية ... بدون ستر أو ساتر ...
ضعيف ، متقزم أمام المسرحية ... أو الحلم الذي حلمناه بمحض إرادة خيالنا ... وأردنا أن نحققه بأيدينا .
أو هو حلم آخر ... ليس إلا مسخا ، خرج من رحم المسرحية ... وخرج من طاعتنا ليسحقنا ... وأنا ... أول الضحايا .
***********
ضاعت مني ليلى ... أو ظهرت حقيقتها الحقيقية العكرة بعدما خدعت وظننت أنها أول من سيقف بجانبي .
والآن ... عن من أبحث من شخصيات المسرحية من منهعم أحسبه أنه بشخصيته التقية ، يمكنه أن يقف معي ومع الحلم ... ويعيدنا إلى نص المسرحية ؟؟
الشيخ ... نعم ... الشيخ الوقور ... إمام المصلين وحافظ القرآن ... هكذا دوره على المنصة الخشبية ... وهكذا هو في حياته اليومية ... لذلك لم أشك أبدا في أدائه ... ولم يداعبني أبدا فضولي وشكوكي الشيطانية في صدق مقاله ... ونقاء تجاعيد عضلات وملامح وجهه بكل أحاسيسها ... لأجده إذن ... هو من سيتكئ على كتفي في طريقنا إلى درب الحق ومسلك الحقيقة ... وإن قل سالكوه .
ها هو وجدته أخيرا ... عند أقصى يسار خشبة المنصة ... بجانب الرجل ذو السلاح ... ومازالت أصابعه تقبض على غدراته في وضع الاستعداد لإطلاق النار للقتل .
الشيخ الوقور منثني ... ينثني أكثر... أكثر فأكثر ... يمسك يد الرجل اليسرى بدون سلاح ويقبلها ... ويعيد تقبيلها ثم يرفع جذعه بنصف انحنائة ويهتف ... بهتاف أقرب للصريخ المتهتك ... المشاعر .
( بارك الله فيك ... أنت الولي على الأرض ... أنت الرسول ... أنت النبي ... أنت قبلتنا ومحيانا ومماتنا ... لن ندخل الجنة إلا بك ... افعل ما شئت بنا فلك الأمر من قبل ... ومن بعد ).
أعوذ بالله ... أعوذ بالله ... كفى ... كفى .
هذه ليست مسرحية ... ولا حتى واقع مفروض أو مسخ ممدود .... هذا كابوس ... كابوس .
**********
أسوأ الأشياء وأصعبها ... وأكثرها مرارة في الحلق ... وأكثرها قتامة في قلب النفس ...
أن نتيقن أننا نعيش في الزمن الخطأ ... أو في أسوأ وقت من أوقات الزمن و التاريخ .
أو أن هذا الزمن الرديء والوقت العطن ، قد ترك كل الشخوص الآدمية في عالمنا وأتى إلينا قصدا ليصاحبنا غصبا وقهرا حتى نهاية حياتنا .
أسأل نفسي هذا السؤال ...
لماذا قدر عليّ أن أعيش هذا الزمن الرديء لهذه المسرحية ؟ .
هذه المسرحية التي مثلوها من قبل آلاف المرات وستمثل من بعدي أضعاف الآلاف الماضية ... بنفس النص ... ولكن قدري أن أعيش زمنها العطن ...الرديء ... بشخوصها المهترئة ... بكل مسخها وعهرها ...
والانكى ... ليس فقط أن أعيش معهم ... ولكني مجبر أن أتعايش .
**********
التفت يمينا ويسارا ... شمالا لسطح المسرح ... وجنوبا أسفل قدمي ... لا أعرف عما أبحث تحديدا ... أريد أن أنهي وأنتهي من هذا الحدث المقزز ... كالجملة العارضة في سياق كلمات تحكي قصة حياتي .
كل الممثلين تقريبا تركوا منصة المسرح ونزلوا إلى القاعة ... كل في ركن ... يجلس بين الجمهور ... منهم من يمزح ... ومنهم من يدخن ... ومنهم من يقرع كئوس الخمر ... عيانا بيانا ، التي لا أدري من أين أتوا بها ...
وليلى بين أفخاذ هؤلاء الرجال يهتكون عرضها على الملأ ... وبين كل ما يحدث أمامي ... لا أجد من يحرك ساكنة معترضا ... ولا حتى شخص واحد ... عجيب ... عجيب .
فقط الرجل المسلح والشيخ بقيا على المنصة ... وأنا وسلاح الرجل في يده ... والهواء الذي أشمه عطنا من دناءة الموقف ... وأتنفسه غصبا كأنني أتجرع السم .
كنت منزويا في أحد الأركان ... عندما فوجئت بالشيخ ... الذي كان منذ برهة قليلة ... وقورا في محياي .
وجدته يذهب إلى حافة خشبة المنصة ويشير إلى كل الممثلين بيده ... يصفر لهم بفمه ... فيصعدون جميعا ... واحدا ... واحدة ... حتى ليلى ... كل يلي بعضه بغير عصيان ... بغير امتعاض .
اصطفوا جميعا في صف واحد ... بدون حديث أو كلمات أمام الرجل المسلح ... وبجانبه الشيخ منثنيا ... منحنيا ... ويتقدم كل منهم الرجل المسلح ... ويمسك بيده ... وينحني مقبلا لها ... ثم ينصرف ويصطف خلف الرجل .
أحسست بغربتي تزداد . .. وبأنني شاذ متمرد ... أحمق خارج عن عرف الجماعة ... ونطاق المسرحية ... حتى وإن كانوا كلهم بلهاء وحمقى .
أنزوي أكثر وأختبئ بين ثنايات قماش ستار المسرح ... وأنا أشم في الأجواء حدثا قادما ... مريعا ... مرعبا .
وبعد أن انتهى الجميع واصطفوا خلف الرجل ... تقدم هو نفسه إلى حافة المنصة وهو يعد سلاحه ويجهزه للاستخدام ... وترجل إلى أرض صالة الجمهور ... ورفع يده بسلاحه وأطلق النار يمينا فأردى قتيلا ... ثم يسارا فصرع آخر ... ثم أمامه فيهلك الثالث ... ثم الرابع ... ويطلق ... ويطلق ... ولا تنتهي الطلقات .
التحف بستار المسرح ... واختبئ تماما وسطه ... مرتعدا خائفا من طلقات ناريه لمسدس رجل موتور ... خرج هو ... وكل القتلى ... وكل الصامتون ... عن نص المسرحية إلى حيز الديكتاتورية ...
وما هو أفظع من الديكتاتورية ..... العبودية .
**********
مضت ساعة أو أكثر وأنا التحف وأحتمي بستار المسرح ... لا أرى شيئا إلا الظلام الذي يحفني ... أكاد أختنق ... ولكن رائحته بارود النار والدم المراق الحار ... وكذلك رائحة اللحم المحترق المقتول ... كل هذا يصل إلى أنفي واضحا نقيا ... ومرعبا ... ويغمرني بإحساس الهلع ، كلما قررت أن أزيح ثنيات الستار عن جسدي وأخرج ... مظهرا نفسي وجسدي لكل أبطال مسخ هذه المسرحية المشوهة ... كالجنين الحرام .
وعندما علا صوت الهدوء ... واستكانت كل الضوضاء الصوتية ... عندها أتتني بعض الجرأة لأزيح ثنايا القماش وأرى وأطالع ... النتيجة والمصير .
وبمنتهى الحذر والسكينة ... والهدوء ... أفتح طاقة صغيرة في قماش الستار ... تتسع فقط لحدقة عيني اليمنى .
كل الممثلين في القاعة مع الجمهور ... كل يلهو بطريقته كما كان من قبل ... ليلى بين أفخاذ الرجال ... ومن يشرب ... يشرب ... ومن يدخن ينفث ... وأكثر من إحدى عشر قتيلا مضرجين في دماؤهم على المقاعد ...
رائحة الدم تلون المكان برائحة مميزه ماعدا الرجل المسلح والشيخ ... فقط هما من بقيا على أرض خشبة المنصة .
الرجل المسلح ممدا على أريكة ... نائما وبجانبه سلاحه الذي يبدوا أنه ملأه بخزانة جديدة للطلقات .
الرجل الذي استغرق في النوم وغطيطه يملأ المكان الشيخ بجانبه واقفا يكاد يسقط من الاعياء والرغبة في النوم ... كلما استسلم جسده وكاد أن يسقط ... عاد مرة أخرى للانتباه .
والجمهور كله ... إما صامت أو يهمس على استحياء بهمس مذعور ... خشية أن يفيق الرجل المسلح .
المشهد برمته يدفعني لأن أتقيأ... لم أستطع المقاومة ... تقيأت ... وأفرغت كل ما في جوفي ... كأنني أطلق وأودع آخر عهد لي مع هذه المسرحية الديكتاتورية ... وهؤلاء الممثلين الأنذال ... وهذا الجمهور المتخاذل المستعبد بكل ما يملك من رغبة .
أحسست أنني خفيف ... حر ... أكاد أطير .
أستطيع أن أفعل شيئا ... بل أشياء كثيرة عدة ... ولكن ماذا ؟؟!! .
**********
بعد التقيؤ ... بعد إفراغ ما كان يلوث جوفي .
بعد التخلص من الوباء ... الذي ... الذي كاد وهم أن ينضح على أطراف عقلي ... بعد أن مس بكل العنف كل أعصابي ومشاعري ... وقهر حسي .
أحس أنني خفيف ... حقا
أحس أنني قد أبريت جسدي من كل درني
أحس أنني جريء ...
فتحت طاقة من قماش ستار المسرح تتسع لكل وجهي ... لارى بكل الوضوح والنقاء ... لأستطيع أن أتخذ القرار .
طاقة الستار تتسع شيئا فشيئا ...
أكبر وأضخم ... حتى تكشف جسدي كله ... واختمرت في رأسي الفكرة ... واكتمل في قرارة نفسي ... قراري .
تسللت إلى ركن المسرح على أطراف أصابعي ، حيث يرقد المسلح في غطيطه وبجانبه الشيخ الأرعن يقاوم سقوطه وإغفاءه ...
لم يلحظني أحد ...
لم يشعر بي أي حر خارج سرب العبيد ... منفرد .
ولم يكترث بي أي أب من عبيد المسرح ... ولا أم ... ولا حتى ولد .
أمسكت بمسدس الرجل ... ضخم كأنه البندقية ... به خزانة مليئة ... بالنيران الشريرة ... لتقتل ... لتسحق كل الأرواح البريئة .
أو لتقتل كل من رضي بالعبودية ...
كل من ارتضى خصال الذل ... بكل الرذيلة .
حان وقتها لتقتل مختلقي الديكتاتورية ...
وكذلك حملة المباخر من العبيد ... ربيبي العبودية
جهزت المسدس لإطلاق طلقاته ... أحدث طرقعة خفيفة انتبه على آثرها الشيخ المأفون لوجودي ... ونظر إلى بجفون ثقيلة ...لم أضع وقتا ، صوبت فوهته لرأس الديكتاتور النائم ... وأطلقت أول رصاصة ...
وقبل أن يسيل الدم القذر الأحمر ... وقبل أن ينتبه الكل لمن حان وقته ليقتل .
صوبت المسدس لرأس الشيخ المأفون ... وأطلقت ثاني رصاصة ... ليسقط متجندلا ... كم أنا سعيد لقتلك أيها الشيخ الزائف .
ومن فوري أقفز كالفهد الجائع ... عندما يجد قطيعا من الغزلان الشاردة ... أقفز إلى أرض قاعة الجمهور ... وأذهب إلى كل الممثلين ... واحد تلو الآخر ... أصرعهم بدون شفقة ... بدون رحمة .
المفاجأه أخرستهم ... وشلت أرجلهم وأيديهم فلصقوا في مقاعدهم .
أذهب إلى ليلى ... لم أعبأ بكل الرجال من حولها يهتكون شرفها للمرة الألف ... أطلقت عليها ثلاث رصاصات في رأسها ... وأنا أضحك من فرط نشوتي وسعادتي .
لم يعد هناك طلقات ... انتهت رصاصاتي ... أود أن أقتلكم كلكم يا جمهور المسرح ... كلكم .
كلهم ينظرون إلى ... يستنجدون ... ويتسولون أرواحهم مني ... آه لو كان معي ما يكفيني من الطلقات ... لأنهيت حيواتكم كلكم ... كلكم .
لم أجد منكم من يستحقها .
رميت المسدس على أرض القاعة ... ودماء المأفونين القتلى ... تسيل وتمتد وتتشابك ... والكل ينظر إلىّ بهلع رغم أنف إلقائي السلاح .
كأنهم يطلبون مني أن أكون ديكتاتورهم الجديد ... كأنهم لا يرغبون في إنهاء قصتهم ... وحكاية العبيد .
لم يعد لي أي مكان أو وجود في هذا المسرح .
لا أريد ... ولا يشرفني أن أرغب مجرد الرغبة .
انتهت المسرحية ... أنهيت هذه المأساة الهزليه انطلقت أجري ... خارج حدود المسرح .
بعيدا عن وجوه كل أناس المسرح .
بعيدا ... بعيدا عن أي ذكرى أو مشهد ... أو رائحة ...
تذكرني بتلك المسرحية .
وسوم: العدد649