ياسمينة الخريف

قرأت عليه القصة:

فلم أرَ منه ذهولاً أو تعجُّباً أو حتى إطراءً أو ضحكاً....!!

تمنّيت من صديقي الكاتب أن يربِّت على كتفي المواجه له، وإن كنت بعيداً عنه

شيئاً ما، وقد كانجهاز(الموبايل) بيننا في حالة نشطة، يعمل على تسجيل كل ما يصدر

من قراءة وتعليق، أو من تصحيح أوتفنيد بيننا.

لم يصمد إلابرهة وبعدهاانهالت كلمات خاتمة القصة عليه، كجلاميد صخر تحط عليه

من جرف عالٍ، وعندما توقَّفت، أدرك بحسه الأدبي وبخضرمته ونهمه للكتابة

والقراءة،أنني ضغطت وبكل قواي وتحكمي بكوابح حركتي، فتشبَّثت كلمات خاتمتي

بمكانها فتوقَّف كل شيء.

رفع كف يده اليسرى؛ لأن يده اليمنى كانت تحمل قلماً دائمًا،يستعين به على كتابة

كلمات أورسم خطوط أوعبارات، على كراسة أمامه لاتفارقه، أراه أحياناً يكتب

أرقاماً,يجعل لها ظلالاً فتبدو وكأنها أشخاصاً أو بيوتاً أو عمائر، ظننته يريد

الاعتراض بحركة كفه تلك.!

وبهدوء وروية قال لي:

هل تسمح لي ياصديقي أن أبادلك الدور، وأروي لك خاتمة القصة،حكاية وليس

كتابة، وبعد سماعك لها،اكتبهاأوانشرها كما تريد، فهي مغايرة لخاتمتك؟ولكن

لي طلب متواضع، وهو أن تكتبها كما أرويها، فلا تحذف ولاتعدِّل، ولاتضف شيئاً،

فقط إن شئت احمل هذه الفاصلة من هنا ثم ضعها هناك، أو اجلبها من هناك وضعها

هنا؛ لأن شجون الرواية وموسيقاها قد تتأثر بمكان الفاصلة والنقطة والنقطتين

وهكذا، وكل ذلك يخضع لك فأنت الكاتب الآن، وهاك اسمع وقائعها كما عشتها ولا

أدري إن كان تخيلي بعد كل هذه السنين سيسعفني بلملمتها، أم ستضطرب مداخلها

مع مخارجها،ذلك شيء ستجد له عذرًا...!

وبهدوئه الحذر وبحزنه المعتاد أخذ بالسرد البطيء، فصوته الخشن المتهدِّج

ينساب مع تغيرات الشدة والارتخاء، كأنه يشدو شعراً أحياناً، يقف على أطلال

حياة تعيد له مواويل عتابا، تصف له شخوصها وهم يمرون أمام عينيه،

قادمونمن طرف،  ثم يذهبون إلى طرف مجهول ضبابي المعالم.

توقف برهة كأنه يستذكر شيئاً ما....ثم تابع:

ياصديقي: أطلق عليها اسم "ياسمينة الخريف"!

هل تعلم لماذا...؟

قلت له: أكمل قبل أن تسمع مني أي جواب!

قال: يقولون إن الياسمينة لاتعرف خريفاً قط في عمرها، تظل تحيا وتعطي

إلى أن تموت فجأة، فلا عجب إذا رأيت زهور الياسمين في أوج نشوتها، في

أجمل مواسم السنة...موسم الخريف...!!

وتابع:

قالت لي مدفأة حنيني حينما أفرغت مابجعبتي على أسطر دفاتري،في تلك الليلة

الطويلة حالكة السواد: لم لا تبحث عن تلك التي رسمت بنبرات صوتها، على

سطح مرآة شغاف قلبك،غصناً ذا وريقتين خريفيتين رائعتي الألوان؟ فأجابها

أنيني سريعاً: ولم لا...! فعكست بتلك الآهة شعاعاًحاداً أيقظ ماكان يشكو اليأس

من بنات ذاكرتي.

فعلتُ ياصديقي كما ذكرتَ في خاتمتك:عدتُ إلى رصيفي العتيد،فرأيت كل

المشهد غريباً عني، ارتجفت ولم أضبط خلجات نفسي،فآثرت الخروج فوراً

والهرب إلى مكان بعيد جداً.

عدتُ بعد يومين، ولكي أسبق أعصابي بالسيطرة عليها، قبل أن تبدأ هي بخلخلة

كوابحي، جلست القرفصاء بجانب تلك الحَجَرَتَين من طرف الرصيف، أراقب

ماتلوذ بالفجوة المشكّلة مابينهما، من أوراق أو ماتبقى منها، ولم أحسب الزمن

ولم أتنبه إلى هيأتي كيف كانت، إلا حينما وضع أحدهم قطعة نقود ورقية في كفي

الأيسر، ولم أصل بعد إلى حد وضع السيطرة على ما أصابني، إلاّ وقطعة نقود

ورقية ثانية ٌ قد هلّت، فلبثت مندهشاً مما يحدث لي، أهو واقع أم خيال؟

أخذت أقلّب ورقتي النقود وأتفحصهما؛ لعلها لم تكن حقيقية؟ أو ربما هي مزحة من

أحدهم وقد عرفني، لكن قطعة ثالثة ومن فئة أكبر من سابقتيها قد رميت في

حجري.!

لحظتها استدركت أنني وقعت في أسر وضع لاأُحسَد عليه، فقررت

الانسحاب وبأي شكل ومهما كانت حالتي، فأغلقت نوافذ ذاكرتي,وأسدلت الستار

عليها, وأطفأت شموع مهجتي،فلم أعد أحسّ بأي شيء إلاّ وقد استيقظت فجراً

في غرفتي، على مواءٍ حادٍوشرسٍ بين قطتين...!.

كان وداع ذاك الخريف اليقظ المنتعش بذاك الحادث المأساوي، وقد أفضيت به

لنفسي الحزينة لمواساتها...!!

رسمتُه بألوانه الإنسانية الشجية البريئة الصافية،ووضعتُه ضمن إطار مزخرف

مطعم بغربة مغدورة، ثم علّقته على جدران مخزن ذاكرتي، فلم أرَ فيه غير

جمال مكتسح بالحزن، وكان حبيس نفسه، ولم يخرج من عزلته إلا في أحد

غرف المستشفيات الرئيسة في المدينة...!!

كنت زائرًاعَرَضياً مع صديق دراسة ليلصديق له في الجامعة كذلك، يمكث مريضاً,

أُدْخِل وبشكل سريع المستشفىعلى إثر إصابته بشظية قنبلة يدوية، ألقيت على أفراد

أمن، كانوايحاولون اعتقال طالب له خصومة سياسية معهم، فما وجدوا غير يوم

الامتحانات العامة في نهاية ذلك العام الدراسي مناسباً لهم ليقبضوا عليه، فسبقتهم تلك

القنبلة وأفشلت محاولتهم، وقعت حينها إصابات كثيرة ومختلفة، كانت إحداها لهذا

الطالب الذي قدمتُ لزيارته، وأنا لا أعرفه من قبل.

 فوجئت حين دخلنا الغرفة ببضعة من النسوة والرجال يحيطون بالمريض، أفسحوا

لنا بعض المكان؛ لنتقدم بتهنأتنا وسلامنا ودعائنا بالشفاء لصديقنا المصاب،مالبثنا إلاّ

برهة،...تقدمت إحدى الموجودات بصحن فيه قطع من الشوكولاته لضيافتنا رمزًا

للتفاؤل بالشفاء، كنت أنا المعنيّ أولاً بالبادرة الطيبة، مددت يدي شاكرًا وداعياً

لصديق صديقي، حيث لاينقصني من نثر الكلمات شيئاً فلم أبخل منها بشيء، فأحسست

أنني أفوق ضيافة الشوكولاته كرماً،لكنَّ عينيَّ لم تسعفاني لأكمل كَرَمي إلى منتهاه،

فخانتاني فوراً، إذ رأتا مارأتا من مبرر لخيانتهما، وقدَّمتا لي وأمام مرأى من كل

الحاضرين في هذا الجو المتلبد والمشحون بالحذر في المستشفى والمدينة معاً صورة

تلك المتقوقعة في مخزن ذاكرتي أمامي الآن وبكل شيء فيها، وقد انفكت من حبسها،

وجاءت إلى هنا بابتسامة خجلة أو ماكرة لست أدري، إنما هي بكل ملامحها وألوانها،

 لقد عرفتني وأسرعت لتقديم الضيافة لي أولاً، لست أدري أيضاً، ولو أنني أمهلتها

قليلاً، لقالت لي متأكدة:إن ماكان في الصحن، ما هما إلا ورقتان خريفيتان رائعتا

الجمال،التقتا في غير موسمهما،واحدة لي وواحدة لك,فاختر إحداهما فوراً،قبل أن

تعصف بهما رياح الشتاء العنيدة.....!!!!

وسوم: العدد 676