السياسة علم عقل الدولة وقواعد العلاقات الدولية

وأعود لأؤكد معكم حقيقة أن السياسة علم.

علم له موضوعه ومبادئه وأصوله وقواعده ونظرياته وتاريخه ومصادره.

ومن علوم السياسة "علم العلاقات الدولية"

وهو فرع من فروع هذا العلم بل يكاد يكون من أبرز هذه الفروع.

ويبحث هذا الفرع من العلوم السياسية، طبيعة العلاقات بين الدول، وقواعدها وآفاقها بكل أبعادها السياسة البحتة والاقتصادية والعقائدية والثقافية والاجتماعية أيضا.

ويتأسس هذا العلم على حقيقة أن كل كيان سياسي قائم على الجغرافية السياسية يشكل ما يشبه المجال المغناطيسي فاعلا ومنفعلا.

وأن طبيعة الاستثمار في العلاقات السياسية تقتضي توظيف هذه العلاقات لمصلحة الكيانين المتوازيين نظريا لا عمليا، على قاعدتي: درء المفاسد، وجلب المصالح.

العقل السياسي للدول لا يتصور ان حالة تجاهل كيان قائم يمكن أن يكون صائبا أو عمليا. ودائما يحتاج الإنسان إلى الحديث مع عدوه أو خصمه أو منافسه أو صديقه أو شريكه حتى يجني من وراء الحديث بعض ما يريد.

والعمل السياسي بحد ذاته هو نوع من إقامة العلاقات، والاستثمار فيها على قواعد تجنب المفاسد، وتحقيق المصالح للمعنيين من كلا الطرفين.

في علم العلاقات السياسية يتصورون أن الإنسان المتحضر أشد حاجة إلى الحديث مع عدوه أو خصمه أو منافسه..من حاجته إلى ذلك مع صديقه وقريبه..

يشير مصطلح "الجيوسياسة" إلى أهمية الحديث أكثر عن طبيعة العلاقات الجغرافية السياسية في وسط جغرافي متقارب. وإذا عدنا إلى مثل الكتلة المغناطيسية فإن المجال المغناطيسي للكتلة الأقرب سيكون أكبر بلا شك.. وهذا ما يعبر عنه بالدول الإقليمية. فالاتحاد الأوربي تكتل يعبر عن إقليم جغرافي. ورابطة المتوسطية، تعبر عن جغرافية تتمزكز حول بحر، والدول الأفريقية تتمركز حول قارة، وما يسمى الشرق الأوسط الكبير له مرتسمه الجغرافي الخاص به.

أكتب هذه الكلمات في إطار تقريرات نظرية من قواعد علم السياسة في أفق العلاقات الدولية.

أرجو أن لا تعجل عليّ فأنا مجرد شارح ولست المقرر. حدثتكم في مقال سابق عن حقيقة علم السياسة وعن التاريخ الدبلوماسي.

تأمل معي- ومرة أخرى لا تعجل علي- في كل ظروف السيرة النبوية ثم في عهد الخلفاء الراشدين ثم في عهود ملوك الإسلام لم تكن القطيعة السياسية نهجا متبعا لا مع صديق ولا خصم ولا عدو…

حتى الذين كانوا يخرجون على الدولة وعلى الشرعية، كانوا يجدون من يحاورهم.

بشار الأسد وهو ظاهرة شاذة في التاريخ البشري وأبوه من قبله، ظل يرفض الاعتراف بوجود معارضة في سورية؛ غير المحنطين من أعضاء الجبهة الوطنية التقدمية.

وأعود إلى التاريخ الدبلوماسي وسبق أن حرضت أحبابي على قراءة كتاب سيرة الناصر صلاح الدين - لابن شداد..ففيها دروس كثيرة.

وبمجرد أن نزل الفرنجة بلاد المسلمين وكانت لهم ممالك ؛ كان لأمراء الجهاد الإسلامي مع ممالكهم علاقات. ومخاطبات ومراسلات. يحدث كل ذلك في قلب المعارك والحروب، وأحيانا الهدن على قواعد الكر والفر، وتحقيق المصالح ودرء المفاسد.

كانت قيمة الإنسان عند القادة دائما هي الأولى بالاعتبار. في الرواية عن عمر أنه وازى بين طفر إنسان بجيشه مقابل من… قرر هذا في الاعتراض على أحد قادته الذي فرط بأربعة في مقابل أربعين. وقبل رأس سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي لأنه اجتهد في استنقاذ ثلة من الأسرى المسلمين، فقبل رأس ملك الروم.. ولا كرامة.

ولو خطر ببالك أن تتعلم درسا في السياسة فارجع إلى فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى لأهل ماردين. فقد كانت ماردين مدينة حدودية يظل التداول عليها بين أهل الإسلام في الجنوب والروم في الشمال. فتكون بفعل موازين القوة مرة تحت قيادة المسلمين ومرة تحت قيادة الروم.. وفتوى شيخ الإسلام لأهلها أن اثبتوا فيها ولو تحت حكم الروم.. لم يطالبهم بالهجرة ولم يدعهم إليها. كما نسمعه اليوم من بعض من طالت لحاهم وقلت عقولهم. وقرروا في كتب الأدب أنه لم تطل لحية رجل إلا أخذت جزء من عقله. يقصدون طالت أكثر من السنة المندوبة..

وأعود نحن اليوم السوريين أقصد في فضاء الثورة المأمولة، نفكر بعقل الدولة لا بعقل الخائفين ولا بعقل المترددين ولا بعقل المزوادين…

لنا مصالح مقدرة مع كل دول العالم، ومن معاني قولي مصالح، أننا نحتاج أيضا إلى درء المفاسد…

نحن نعلم أن الدولة الإيرانية هي جزء من فضائنا الجيوسياسي الواقع..

وبالتالي فهي حقيقة قائمة. لا أختلف مع أحد من السوريين أن إيران نظام الولي الفقيه كانت نظاما طائفيا مقيتا يسعى إلى السيطرة والنفوذ والهيمنة، وأنه استخدم كل مخالبه في الحرب على الشعب السوري، وقد كان المخلب الطائفي أقذر هذه المخالب.

ولا أختلف مع أحد منكم أن نظام الملالي في طهران كان الأقذر في حربنا وتقتيلنا والتحريض علينا، وأنه سيحاول جهده ما بقي أن يكيد لنا، ويمكر بنا لينال منا ما يستطيع، ولكن كل هذا لا يعني أن نتجاهل وجود إيران كقوة مؤثرة في المجال المغناطيسي الأقرب إلينا..

إيران حقيقة واقعة كما نحن شعب سورية حقيقة واقعة. وكم كان الولي الفقيه وحسن نصر الله وأضرابهم أغبياء حين أعلنوها علينا حربا وجودية صفرية. يموت الأفراد وتسقط الأنظمة ولكن الشعوب لا تموت..!!

هذه الحقيقة نقررها على بعضنا اليوم، ونذكر بها ترامب وهو يعلن حربه لتفريغ فلسطين وغزة من أهلها..

لا ينبغي أن تتمادى بنا الجهالة فنذهب في موقفنا مع أي قوة مؤثرة في العالم موقف التجاهل. تجاهل وجود العدو لا يلغيه.

الجلوس على مقاعد العلاقات مع العدو لا يقل قيمة عن أي نزال في الميدان..

أحب أن أقصر حديثي هنا على إيران وروسية، وقد كان دور روسيا في تدمير سورية وتقتيل إنسانها كبيرا. ولكننا اليوم هنا.

ونحن نحتاج إلى مفاوضين أشداء عركتهم السياسية والدبلوماسية وعركوها، من أجمل ما قرأت في تعريف الدبلوماسية: أن توجه اللكمة أو الصفعة لوجه عدوك وأنت تحتسي الشاي معه وتبتسم..

وقد تكون اكثر نجاحا حين تعيد توظيفه في خدمة مشروعك رغبة أو رهبة…

قبل أن أختم، هل هذا الكلام ينطبق نظريا على دولة العدو الصهيوني، نظريا نعم، عمليا لقد اختارت امتنا موقفها في التعامل مع هذا العدو منذ 1948 وأكدت هذا الموقف في لاءات قمة الخرطوم: لا تفاوض لا صلح لا اعتراف.. ولم أكن لأدعو لخرق إجماع اتفق عليه الأخيار من أبناء هذه الأمة.

حديثي عن سورية وفضائها..

ولو سألتني ومادا عن حزب الله في لبنان؛ لقلت يجب أن نتعاون مع كل الأخيار في لبنان لكي لا يكون لحزب الله كيان ولا وجود ولا ترتفع للقتلة المجرمين في هذا الفضاء راية..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1116