تمرّد الخانكة ..

تمرّد الخانكة ..

وتقصّى الحقائق !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

أؤكد دائماً أن القاعدة العريضة من الأقلية الطائفية ترفض التمرد الطائفي الذي تقوده أقلية الأقلية استقواء بالخارج ، وإشباعاً للتعصب الذي يُغذّيه انحراف واضح عن تعاليم المسيح عليه السلام ودعوته إلى المودة والمحبة والتسامح .

وأسجّل فيما يلي بعض ما قاله تقرير لجنة تقصّى الحقائق التي رأسها الدكتور جمال العطيفى – رحمه الله – ويكشف عن بعض ملامح التمرّد الطائفي الذي استغل ضعف الدولة وهزيمتها العسكرية ومتاعبها الاقتصادية وانهيارها الاجتماعي ، كما استغل أحداثاً محدودة ، تقع بين أبناء الحارة الواحدة والشارع الواحد والقرية الواحدة وتنتهي غالباً بالمصالحة الشعبية ، حتى لو ذهبوا إلى الشرطة والمحكمة ، ومن خلال هذه الأحداث عبّر التمرد الطائفي عن نفسه ، في إطار ما سمّى " ثقافة الاستشهاد " في سبيل الكنيسة ، وحقوق الطائفة ، وهو أمر غريب في وطن يمنح الطائفة امتيازات خيالية تفوق حقوق الأغلبية الساحقة وتتجاوزها بمراحل بعيدة .

يقول تقرير لجنة تقصى الحقائق حول حادث الخانكة ما يلي :

[منذ عام 1946 وجمعية أصدقاء الكتاب المقدس تباشر نشاطها في الخانكة كجمعية دينية مسجلة بوزارة الشئون الاجتماعية ، ومنذ حوالي سنة (1971) قام المحامى أحمد عزمي أبو شريفة ببيع قطعة أرض صغيرة يملكها مجاورة لمنزله بالحي المسمى الحي البولاقي بمدينة الخانكة إلى من يدعى محمد سعد الجلدة ، العامل بمزرعة الجبل الأصفر الذي باعها بدوره إلى أحد المسيحيين ، وتسلسلت عقود بيعها إلى أن انتهت ملكيتها إلى الأنبا مكسيموس مطران القليوبية، وكان الظن وقتئذ أنها ستبنى مقراً لهذه الجمعية , وقد سورت فعلاً وألحقت بها حجرات نقلت إليها الجمعية، غير انه في مطلع الصيف هذا العام أقيم فيها مذبح للصلاة ورتب فناؤها بما يسمح بإقامة الشعائر الدينية فيه ، وتولى القس مرقص فرج وهو راعي كنيسة أبو زعبل التي تبعد قرابة ثلاثة كيلومترات من الخانكة " إقامة الشعائر الدينية فيها" في أيام الجمع.    
ولما كانت الجمعية لم تستصدر قراراً جمهورياً بالترخيص بإقامة كنيسة, فقد أخذت الإدارة تعهداً على رئيس الجمعية شاكر غبور بعدم استخدامها ككنيسة إلا بعد الحصول على ترخيص, وقد أثار استخدام هذا المكان ككنيسة بغير تصريح بعض المقيمين بمدينة الخانكة ومن بينهم عبد القادر البرى وهو مفتش مالي وعضو المجلس الشعبي بمحافظة القليوبية ، وليس هناك ما يدل على أن هذا الاعتراض قد أتخذ مظهراً عنيفاً أو كان موضع اهتمام عام.
]

[وفي صبيحة يوم الحادث 6 نوفمبر 1972 وهو أول أيام عيد الفطر المبارك أخطرت النيابة العامة بحدوث حريق في هذا المبنى ، وقد تبين أن النار قد أتت على سقفه وهو من الأخشاب ، كما امتدت إلى موجودات ولكنها لم تمتد إلى جدرانه المبنية , ولم تتوصل التحقيقات التي أجرتها النيابة إلى معرفة الفاعل ، غير أن بعض الذين كانوا يبيتون في المبنى لحراسته قرروا في تحقيق النيابة أنهم شاهدوا جملة أشخاص يلقون زجاجات مشتعلة من الخارج . وقد أمكن لرجال المطافئ إخماد النار بمعاونة بعض الأهالي من المسلمين والمسيحيين. ]

فيما سبق ، سيناريو أو مخطط تكرر بعد ذلك مراراً في معظم أنحاء الجمهورية ، شراء أرض من مسلمين ، ضمها لجمعية خيرية ، تسويرها ، ثم البناء عليها ، تحويلها إلى كنيسة وإقامة الشعائر مع تحدى الإدارة والتعهدات التي بذلت ، وهنا يبدأ الاعتراض والاحتكاك ، ويتم تصوير الأمر أنه اضطهاد للأقلية تنشره وتذيعه على نطاق واسع مجموعات متعصبة مدعومة من الغرب الصليبي والصهاينة ، وتتم ممارسة الضغوط على السلطة المهزومة الضعيفة كي تستسلم لمطالب فوق القانون وتميّز الطائفة على الأغلبية .

يمضى التقرير في رصد أحداث التظاهرة الكهنوتية المتمردة يوم الأحد 12/11/1972م ، حيث اتجهت التظاهرة في صبيحة هذا اليوم  إلى مدينة الخانكة بعض سيارات أتوبيس السياحة والسيارات الخاصة والأجرة ويستقلها حوالي 400 شخص منهم أكثر من مائة يرتدون الملابس الكهنوتية ، وكان قد نمى إلى علم السلطات أن قرارا قد اتخذه مجمع الكهنة في القاهرة بإقامة الصلوات يوم الأحد في مقر جمعية الكتاب المقدس بالخانكة ، وقد استوقفتهم قوات الأمن التي قدمت على عجل من عاصمة المحافظة عند قرية القلج التي تقع في الطريق إلى الخانكة وذلك في محاولة لإثنائهم عن عزمهم خشية أن يؤدى هذا الجمع الكبير إلى إثارة غير محمودة العواقب والاكتفاء بعدد محدود منهم ، ولكنهم صمموا على أن يمضوا قدما في تنفيذ ما اعتزموه , فاتخذت قوات الأمن الاحتياطات اللازمة ، ومضوا سيراً على الأقدام في موكب طويل مرددين التراتيل الدينية يتقدمهم القساوسة وحينما وصلوا إلى مقر الحادث ثبتوا مكبرات الصوت وبدأ القداس على مرتين ، حتى يتسع الاشتراك فيه لهذا الجمع الغفير ، ثم انصرفوا بعدها دون أن تقع أية حوادث ، وقد نسب إلى بعض الغلاة منهم تفوهم بعبارات غليظة في الاحتجاج على ما وقع من حادث في هذا المبنى  ، وتصويره على أنه عداء طائفي لم تتخذ سلطة الدولة حياله الإجراءات المناسبة .

وفي المساء حينما عاد إلى المدينة شبانها المسلمون الذين كانوا في الجامعات أو في المصانع أو المكاتب خارج المدينة وروت لهم صورة لما جرى في الصباح عدّوا ذلك تحدياً واستفزازا لشعورهم فاجتمعوا بمسجد السلطان الأشرف الذي يقع بالجهة الغربية بالمدينة ومعهم الشيخ زيد الصاوي البدرى إمام المسجد ؛ وتوجهوا إلى مركز الشرطة في مسيرة تكبّر بالله وقد طلب منه المسئولون الانصراف ، وانصرف الشيخ زيد الصاوي بعد أن نصحهم بالتفرق بينما استمر الباقون في مسيرتهم إلى مقر الإتحاد الاشتراكي ، وفي مرورهم على حانوت بقال يدعى غالي أنيس بشاي سُمع صوت طلقات نارية نسب البعض إطلاقها إلى هذا البقال الذي تبين فعلاً أنه يحمل مسدساً مرخصاً به وإن كان لم يرد في فحص الطب الشرعي ما يقطع أنه أطلق حديثاً ، ولكن ذلك أدى إلى إثارة الجماهير التي اندفعت إلى منزل هذا البقال فوضعت فيه النار وأندس بينها من اغتنم هذه الفرصة السانحة للسرقة . كما أحرقت مساكن أخرى ، وتوجه بعض المتظاهرين إلى مقر جمعية أصدقاء الكتاب المقدس وأشعلوا النار في إحدى حجراتها الملحقة بفنائها المتخذة كنيسة للصلاة ، ومع ذلك فلم تحدث أية خسائر في الأرواح وأصيب ثلاثة أشخاص عرضاً بينهم اثنان من المسلمين بإصابات بسيطة وقد قبض على عدة أشخاص متهمين بالسرقة أو الحريق أو الإتلاف ، وقررت النيابة العامة حبس تسعة من المتهمين منهم حبساً احتياطيا .

تمرد سافر واستفزاز رخيص ، وعنف يدفع ثمنه الأبرياء والبسطاء ، تحت دعاوى غريبة يصنعها التعصّب الأعمى الذي يجعل الكنيسة هي الدولة والوطن والقانون والجيتو الذي ينبغي ألا يبرحه المنتمون إليه ، وفقاً لمنهج التمرد الطائفي المستقوى بالخارج ؛ المعادى لمصر وأهلها جميعاً بما فيهم غير المسلمين !

لقد ذكر التقرير الذي صاغته لجنة تقصّى الحقائق أن رئيس مجلس مدينة الخانكة كان من النصارى وظل في منصبه قرابة اثني عشر عاماً ، ولم يثر ذلك أية حساسية طوال هذه السنوات ، وجاء خلفه المسلم فاحتفلت به جمعية الكتاب المقدس التي حولها التمرد إلى كنيسة دون ترخيص !

كما ذكر التقرير أن نسبة الموظفين النصارى في مركز الخانكة تزيد على ستين في المائة في قطاعي الصحة والصحة النفسية ، وبلغ عددهم 111 موظفاً من بين 856 موظفاً . وقد أشار التقرير إلى نقطة مهمة وهى أن التقرير الذي قُدم إلى شنودة الثالث كان مبالغاً فيه ، حيث ذكر أن المكان قد أُحرق بالكامل ، وأن المطافئ تباطأت في إطفاء الحريق ، وإن المتآمرين منعوا رجال الإطفاء من أداء واجبهم ، مع التشكيك في سلامة إجراءات التحقيق ، ووصف الحادث بأنه حريق لكنيسة بينما لا توجد كنيسة مصرّح بها رسمياً ، وأضفى عليه طابع الإثارة .

ولعل تقرير لجنة تقصّى الحقائق كان يُشير ضمناً إلى التمرد الطائفي ، حين ركز على ضرورة معالجة الأسباب الحقيقية للحادث " حيث إن هناك تخوّفاً من أن تتوقف المتابعة حينما تهدأ النفوس وتستقر الأوضاع وتفتر المسكنات الوقتية مما يهدد بعودة الداء الكامن إلى الظهور أشد خطراً وفتكاً .. " .

وهذا ما نشاهد تجلياته في أيامنا من خلال صحف ومواقع وفضائيات مسعورة تسب الإسلام والمسلمين ، وتسعى إلى التنصير والتشكيك في الشريعة ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ، فضلا عن حوادث عديدة مشابهة يتم الزج فيها بالأبرياء البسطاء لتحقيق أهداف شيطانية طائفية لا تنظر أمام قدميها !!