ثقافة التابو

 هل الشّعوب العربيّة في غالبيّتها مؤهلّة لقبول حرّيّة الرّأي والرّأي الآخر؟ وإذا ما كنّا منصفين في الاجابة على هذا السّؤال بشكل مختصر، فإنّ "لا" كبيرة هي الجواب. فثقافة التّخوين والتّكفير هي السّائدة. ولا مجال للاجتهاد فيما يخدم الأمّة ويسعى إلى تطويرها. لذا فإنّنا نجد بين ظهرانينا من يدعون "العلم" ويطلق عليهم "علماء" ممّن يقدّسون رأي الأقدمين من البشر، على علّاته، مع ايمانهم أن لا مقدّس دينيّا إلا القرآن الكريم والسنّة النبويّة الصحيحة، وأنّ الدّين يصلح لكلّ زمان ومكان، لكنّهم يحيّدون عقولهم، ولا يجتهدون في شيء، ولا ينتبهون إن كانت بعض الآراء تتناقض مع ما ورد في القرآن والسّنة الصّحيحة. ولا إن كانت لا تناسب التّطوّر الحياتيّ والعلوم الدّنيويّة التي لا علاقة لها بالتّشريع أو بالحلال والحرام. وتلعب ثقافة عادات الجهل ومراحل التّخلّف دورا كبيرا في ذلك. ومن المصائب التي ابتليت بها الأمّة وجود مثقّفين أو أشباه مثقّفين يسكتون على "تقديس الجهل" ويروّجون له أو يتساوقون معه، ممّا يعني تكريس ثقافة التّخلف.

 ومن هذا الباب يأتي الموقف "المجتمعي الذّكوريّ" من المرأة على سبيل المثال، بحيث يأتي بشكل وآخر تحديد أخلاقيّات المجتمع من خلال علاقة الذّكر بالأنثى! حتّى وصل الفكر العقيم بالبعض أن يبحث فيما اذا كانت المرأة انسانا أم لا! لذا فإنّ الموروث من ثقافة

"فوائد بول البعير" يرتكز على جسد المرأة، متناسين أنّ "النّساء شقائق الرّجال" وأنّ المرأة هي الأمّ والجدّة والأخت والبنت والخالة والعمّة والزوجة والحفيدة. حتّى أنّ الكتابة عن حقوق المرأة وانسانيّتها وعلاقتها مع نصفها الآخر تصل إلى درجة التحريم والتّجريم.

ويتناسى الكثيرون منّا أنّ الفطرة البشريّة تتساوى بين جميع الأعراق والأجناس، والألوان البشريّة. وإذا ما ابتعدنا قليلا عن الموروث من المؤلّفات السّابقة، لمن يعتبرون "علماء" في "العلوم الدّينيّة" وعدنا إلى الكتب التي تنصّ مناهجنا التّعليميّة على أنّها من أمّهات الكتب في موروثنا الثّقافيّ، كالعقد الفريد لابن عبد ربّه، الحيوان للجاحظ، الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، شعراء النّقائض في العصر الأمويّ، شعر عمر بن أبي ربيعة، وقيس بن الملوّح "مجنون ليلى"، ألف ليلة وليلة وغيرها،  سنجد أشياء ما عادت مقبولة في عصر الرّدّة الثّقافية الذي نعيشه في هذه المرحلة، وحصدنا فيه مئات الهزائم التي وضعت أمّتنا على هامش الحضارة الانسانيّة، بل تهدّد أمّتنا بالاندثار والزّوال، ويبدو أنّ مرحلة الهزائم على مختلف الأصعدة، عسكريّا، اقتصاديّا، علميّا، صحيّا، حضاريّا، واجتماعيّا، قد أفرزت وتفرز ثقافة مهزومة أيضا، ويتجلّى ذلك واضحا في ترويج غالبيّة مثقّفينا لثقافة الهزيمة، وتضليل الشّعوب بتحويل الهزائم إلى انتصارات، وإذا كانت الأنظمة الحاكمة هي المسؤولة عن كلّ ما جرى ويجري، فإنّ قوى المعارضة التي تزعم أنّها طليعيّة ورائدة روّجت هي الأخرى لثقافة الهزيمة، وحوّلتها إلى انتصارات، فعلى سبيل المثال لا الحصر، اعتبرت أحزاب المعارضة العربيّة هزيمة حزيران عام 1967 انتصارا! لأنّ اسرائيل لم تستطع اسقاط النّظامين التّقدّميّين في مصر وسوريا، وكأنّ احتلال ما تبقّى من فلسطين والجولان السّوريّة، ومزارع شبعا اللبنانية، وسيناء المصريّة لا يعني شيئا، وانتهى نظام عبد النّاصر في مصر بوفاته، ونظام نور الدّين الأتاسي في سوريّا بانقلاب عسكريّ، لكنّ احتلال الأراضي العربيّة لا يزال جاثما على الأرض وعلى صدور الملايين من مواطنيها. وعلى النّقيض وجدنا "عالما" مثل محمّد متولي الشّعراوي، يصرّح أمام وسائل الاعلام أنّه صلى لله ركعتي شكر على هزيمة الجيوش العربيّة في تلك الحرب خوفا من ازدياد شعبيّة الرّئيس عبد النّاصر، وأبدى ندمه على ذلك عندما تولّى وزارة الأوقاف المصريّة عام 1977 تمهيدا لزيارة السّادات لاسرائيل.

 وعودة إلى الحراك الثّقافيّ، ويبدو أنّ المثقّفين وأشباههم هم أيضا ضدّ حرّيّة الرّأي، فكثير منهم يضع قيودا على كتاباته وكتابات غيره، ولا يختلفون في ذلك عن "المتأسلمين" الذين لا يفهمون الدّين الصّحيح، وكأنّ المطلوب من الكاتب أو الأديب أن يكون واعظا في مسجد أو كنيسة، أو منظّرا في الأخلاق، وبالتّالي عليه أن يبتعد عمّا يدور في مجتمعه من موبقات، وهذا يعني بشكل وآخر التغطية والسّكوت على الفساد في مختلف جوانبه. حتّى الكتابة عن الحبّ الصّريح وعلاقة الرّجل بالمرأة يجد من يقف ضدّة، بل ويعيبه، بحجّة الحفاظ على أخلاق المجتمع "الحميدة" وعدم التّرويج للرّذيلة! وبالتّالي فإن هذا تكريس لنظريّة "الثّالوث المحرّم، الدّين، الجنس والصّراع الطّبقي" الذي لا يجوز الاقتراب منه، وهذا ما تطرّق له الباحث الاسلامي عثمان صالحيّة في كتابه "الدّراية" الذي عرّى فيه ومن منطلقات إيمانيّة الكثير من الخرافات والمفاهيم الخاطئة في فهم الدّين الصّحيح، ومع ذلك فقد تعرّض الباحث إلى حملات انتقاد شديدة ممّن لم يفهموه، تماما مثلما فعلوا مع الباحث اسلام بحيري، الذي حكت عليه محكمة مصريّة بالسّجن لمدّة عام ونصف بتهمة"ازدراء الأديان" على الرّغم من إيمان الرّجل ودفاعه عن الدّين الصّحيح.

أمّا الكتابة عن الجنس فهي ليست وليدة هذا العصر حتى يمكن اعتبارها بدعة ضلالة، فبالاضافة إلى المؤلّفات التي أوردناها سابقا، هناك:

"  كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه هو مؤلف للامام أحمد بن سليمان بن كمال باشا قام بتأليفه باشارة من السلطان سليم الأول وأتم طباعته في سنة 903 هـ." والمتعع والمؤانسة للفيلسوف المتصوّف أبي حيان التوحيدي (310 - 414 هـ / 922 - 1023 م)

و"الوشاح في فوائد النكاح لجلال الدّين السّيوطي" و"تحفة العروس ومتعة النفوس لمحمد بن أحمد التيجاني التونسي" و" الروض العاطر في نزهة الخاطر لأبي عبد الله محمد بن محمد النفراوي" وغيرها.

وهناك روايات عربيّة لروائيّات عربيات معاصرات كسرن "التابو" حول الجنس مثل: "اسمه الغرام، علوية صبح، لبنان، دار الآداب، بيروت الطبعة الأولى 2009" و "اكتشاف الشهوة، فضيلة الفاروق، الجزائر، دار رياض الريس للنشر، بيروت الطبعة الأولى 2005" و" أصل الهوى، حزامة حبايب، فلسطين، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، الطبعة الأولى 2007." و " إني أحدثك لترى، منى برنس، مصر، دار ميريت، القاهرةالطبعة الأولى 2008." و "برهان العسل، سلوى النعيمي، سورية، دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت،الطبعة الأولى 2007." و " التشهي، عالية ممدوح، العراق ،دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى 2007، و " الرواية الملعونة، أمل جرّاح، سورية، دار الساقي، بيروت الطبعة الأولى 2010."

وهناك روائيّون عرب أيضا كسروا التّابو في هذا المجال أيضا.

وأنا إذ أورد ذلك ليس للتّرويج للجنس، الذي نمارسه جميعنا في الخفاء ونلعنه في العلن، وإنّما لعدم الخوف من الكتابة عنه، فالتّثقيف الجنسيّ مطلوب وضروريّ بما يتناسب مع المراحل العمريّة، وعدم السّكوت على ما يدور في مجتمعاتنا من موبقات كالاغتصاب والانحراف الذي يولّد الجريمة مثل قتل النّساء على خلفيّة ما يسمّى "جرائم الشّرف". فالسّكوت على الخطأ يقود إلى أخطاء أكبر.

 ومن لا يجرؤ عن الكتابة حول الحبّ حتّى لو كان حلما، هل يجرؤ أن ينتقد سياسة سلطان مثلا؟ ومتى كان الحبّ حراما؟

وسوم: العدد 659