مِدْنايت القط المدلل 13
مِدْنايت القط المدلل
( 13 )
أ.د/
جابر قميحةمن كتاب :
(The Big Story Book)
كان مدنايت قطا عزيزا ، محبوبا من أمه وأبيه ... إنه ابنهما الوحيد ، وهما يحبانه ، ويعتزان به إلى أبعد حد .
كان مدنايت أسود اللون تماما ماعدا دائرة بيضاء حول إحدى عينيه . وقد شهد كل من رآه أنه قط جميل وسيم ، وكل هذا الثناء جعل مدنايت يشعر بكيانه وقيمته .
ومن حب أبيه له أنه كان يقدم له هدية إذا ما خرج في رحلة عمل . وأحضر له ذات مرة معطفا من الفرو ليلفه حول جسمه . ومرة ثانية أهداه مشطا ذا أسنان رفيعة ليسوي به شواربه اللامعة ... نعم لقد كان أبوه يشتري له دائما هدايا كثيرة .
وأمام كل هذا الإطراء ، وكل هذه الهدايا أصبح مدنايت قطا مدللا يصعب التعايش معه ، إنه يريد دائما أن يلاطفه الجميع ، ويتغنوا به ، وإلا لجأ إلى الصراخ والضجيج للحصول على ما يطلب .
وحينما كان الأب يعود كل ليلة من عمله في حراسة إحدى ورش الصيانة كانت الأم تقدم العشاء للأسرة كلها ، وأثناء تناول الطعام كان الأب والأم يقطعان الوقت بالكلام ، فيتحدثان عن أحداث اليوم ، ويتحدث الأب عن عمله ، والأم تنصت إليه ، وتوجه إليه أحيانا بعض النصائح ، وكان الأب حريصا ، ومشغوفا دائما بالاستماع إلى نصائحها .
وحينما يرى مدنايت أنه ليس موضع اهتمام وانتباه ، وأن والديه مشغولان عنه يتوقف عن الأكل ، ودفع طبقه بعيدا ، والعبوس يغطي وجهه ويقول : " أنا لا أحب هذا الطعام ... لن آكله ... إنه طعام غير طيب " .
فيقول الأب :
ـ " لماذا يابني ؟!! إنه طعام ممتاز يناسب الملوك ، وأنا مُصرّ على أن تأكل ... كن لطيفا ومطيعا يا بني ... واستمر في تناول طعامك " .
وحينذاك يكون الاهتمام كله موجها إلى مدنايت ، وهذا ما يريده ، ويحرص عليه .
واستمر الحال على هذا الوضع أسابيع وشهورا عديدة . وذات ليلة تغير كل شيء ، ففي إحدى الأمسيات الخاصة صنعت الأم العشاء الذي يعشقه مدنايت : كعكة السمك ومعها البطاطس ، وعلى المائدة سار كل شيء على ما يرام ، إلى أن بدأ الأب والأم يتحدث كل منهما للأخر ، وكالعادة دفع مدنايت طعامه بعيدا عنه ، وبدأ يصرخ ، ووقف الأب الذي تحمل ابنه ما فيه الكفاية يصيح في غضب :
ـ " اصعد إلى حجرتك مباشرة ، أنت الليلة محروم من الحلوى ... ومن سماع قصص النوم ... والآن هيا قم " .
ولم يكن مدنايت يتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد ، وظهر العبوس على وجهه وهو يتجه إلى السلم ويقول في نفسه :
ـ " سوف أهرب من هذا البيت ، وسيعرفون من أنا " .
وبدلا من أن يتجه إلى غرفة النوم تسلل على أطراف أصابعه إلى الباب الأمامي ، وانطلق في الظلام الدامس . وأخذ يجري مدة طويلة في طرق مختلفة . وفجأة ـ بعد أن أضناه الجري ــ تعثر فوق صفيحة فارغة ، فنهض ومشى ليدوس على زجاجة مهشمة فجرحته ، فأخذ يصرخ من الألم وهو يبكي :
ــ " أين أنا الآن ؟ وما هذه الرائحة الكريهة ؟ إنها الزبالة ... إن عليه أن يبتعد عن هذا المكان المفزع الكريه " .
واندفع يجري بعيدا عن هذا المكان القذر ، لكنه تعب من الجري ... إنه يريد أن ينام ...ولكن أين ؟ ... إن كل شيء هنا غريب ومظلم ، وهو الآن يشعر بالجوع الشديد .
وفي هذه اللحظة مر به شيء ، فقال لنفسه وهو يلهث :
ــ " إنه قط آخر إلى أين يذهب ؟ آه ... لقد ذهب إلى هناك ... إنه يأكل ... ولكن ما الذي يأكله ؟ إنه لأمر مفزع ... وما هذا ؟ إنه قط آخر يبدو أنه أكثر هياجا وسعارا ووحشية ... أوووه لقد اشتبك القطان في معركة رهيبة . ولكن علام يتعاركان ... إنهما يتعاركان من أجل قطعة صغيرة قذرة من العظم " .
مسكين مدنايت إنه متعب جائع ، وكلما مر به الوقت إزداد شعوره بالتعب والجوع ، ولكنه لا يستطيع البقاء في هذا المكان ، لذلك استدار وواصل الجري مرة ثانية ، ولكنه لم يجر أكثر ثانية ، وعاد يسائل نفسه من جديد : أين يبيت هذه الليلة ؟ وما الذي سيأكله ؟ .
وتذكر حينئذ كعكة السمك التي قدمت إليه في العشاء ، والتي صنعتها أمه من أجله ، فظل يصرخ ويبكي :
ــ " إن معدتي فارغة ، والجوع يكاد يقتلني ، سأعود إلى البيت " .
واستدار إلى الخلف وبدأ يسير ، وفي أول الأمر سار في اتجاه واحد ، ثم تحول إلى اتجاه آخر . ولكنه كان يشعر أن كل من حوله يبدو غريبا عليه ، فاختار طريقا سار فيه ولكنه لم يستطع أن يهتدي إلى البيت .
وغطت الدموع وجهه وشواربه ، وافتقد أمه وأباه ، وبيته وطعامه .
وعلا صراخ مدنايت ، حتى سمعته أمه وهي بعيدة عنه ، فنادته :
ــ " أين أنت يا ولدي الحبيب ؟ تعال إليّ ... أنا هنا ... تعال لأمك يا ولدي " .
واتبع مدنايت صوت أمه وسرعان ما رآها من بعيد ، وهي تلوح له بيدها من الشرفة .
كان الأب هناك كذلك ينتظر ، ويلوح بيده . وعانقا مدنايت وقبّلا أذنيه ، وأخذ الجميع يموءون بسعادة .
وقال الأب :
ــ " لقد قلقنا عليك خشية أن تكون قد أصابك أذا أو ضللت الطريق ، وحاول مدنايت أن يقص عليهما المكان ، وماذا رأى . ولكنه كان متعبا ، فغلبه النوم قبل أن ينطق بكلمة ، وحملته أمه إلى سريره .
**********
وبعد ذلك لم يعد مدنايت يشكو طعامه أو يحاول أن يجذب الأنظار والاهتمام إليه ، وظل هو الابن المحبوب عند والديه ولم يعد القط المدلل الشقي .