أصول التفسير عند الإمام الأشعري من خلال كتابه "الإبانة عن أصول الديانة" رؤية الله – أنموذجا-
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهد الله فهو المهتد. ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وبعد :
فلقد أشار الإمام الأشعري في مقدمة كتابه "الإبانة " إلى المصادر المعتمدة لديه والتي ينطلق منها في بناء اعتقاده الذي انتهى إليه فقال :
" قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون،"
ثم يخص بالذكر من أئمة الحديث : الإمام أحمد بن حنبل، نظرا لمواقفه التاريخية المشهودة في ثباته على الحق، ووقوفه في وجه الفتنة، التي أثارها أهل البدع والزيغ فيعلن أنه يقول بقوله ويمضي على طريقه فيقول :
" وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي (2/ 21) أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيع الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم "
ولما كانت معظم المذاهب والفرق المنتسبة إلى الإسلام، تدعي أنها تتمسك بالقرآن والسنة، وأنها تعتمد عليهما في ماذهبت إليه من أقوال، وما انتهت إليه من اعتقادات، - إلا أنها تختلف في طريقة فهمها للنصوص القرآنية والحديثية- كان لابد لنا من استنباط أصول التفسير التي اعتمد عليها الإمام الأشعري في كتابه "الإبانة " من خلال دراسة أنموذج لما جاء في هذا الكتاب- وهو يمثل الفصل الأول المتصل برؤية الله يوم القيامة.
تفسير القرآن با لقرآن :
يعتمد الإمام الأشعري في كتاب " الإبانة " بالدرجة الأولى على الاستدلال بالقرآن الكريم. وهويحرص أن يكون فهمه للنص القرآني من خلال ما دلت عليه نصوص قرآنية أخرى – وهو ماعرف عند علماء القرآن : بتفسير القرآن بالقرآن – وهو أعلى مراتب التفسير، لأنه تفسير صاحب الكلام لكلامه –
يبدأ الإمام الأشعري كلامه في حديثه عن رؤية الله يوم القيامة قائلا :
قال الله تعالى:
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) (22 /75) يعني مشرقة،
(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (23 /75) يعني رائية.
– ويستدل على صحة معنى "رائية "- الذي فسر به كلمة " نَاظِرَةٌ " باستعراض المعاني المتعددة ل " النظر" – في العربية – والتي سنؤخر الحديث عنها تحت عنوان " تفسير القرآن بالعربية ".
تم يلجأ الإمام الأشعري للاستدلال على رؤية الله يوم القيامة إلى دليل قرآني آخر قائلا:
ودليل آخر: ومما يدل على أن الله تعالى يرى بالأبصار قول موسى صلى الله عليه وسلم: " رب أرني أنظر إليك" من الآية (143 /7)
ولماكان وجه الاستدلال بهذه الآية، ليس بالوضوح الظاهر،لأنه يحتاج إلى مزيد تأمل وتفكر، نرى الإمام الأشعري يحرص على بيان وجه الاستلال فيها فيقول :
"ولا يجوز أن يكون موسى صلوات الله عليه وسلامه - وقد ألبسه الله جلباب النبيين، وعصمه بما عصم به المرسلين - قد سأل ربه ما يستحيل عليه، فإذا لم يجز ذلك على موسى صلى الله عليه وسلم، علمنا أنه لم يسأل ربه مستحيلا، وأن الرؤية جائزة على ربنا تعالى".
ولماكان يلزم من التسليم بتلك الحقيقة المستفادة من الآية إقامة الحجة على المعتزلة، كان لابد له من التصريح بذلك قائلا :
ولو كانت الرؤية مستحيلة على ربنا تعالى - كما زعمت المعتزلة- ولم يعلم ذلك موسى صلى الله عليه وسلم، وعلموه هم لكانوا - على (2/ 42) قولهم- أعلم بالله من موسى صلى الله عليه وسلم، وهذا مما لا يدعيه مسلم.
وبعد أن أتم الاستدلال بالجزء الأول من الآية السابقة، مبيناً وجه الاحتجاج بها، ينتقل إلى الجزء الثاني منها قائلا:
ودليل آخر: مما يدل على جواز رؤية الله تعالى بالأبصار قوله تعالى لموسى صلى الله عليه وسلم:
" فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي " من الآية (143 /7)
ويبين وجه الاستدلال بهذا الجزء من الآية قائلا :
" فلما كان الله تعالى قادراً على أن يجعل الجبل مستقراً؛ كان قادراً على الأمر الذي لو فعله لرآه موسى صلى الله عليه وسلم. فدل ذلك على أن الله تعالى قادر أن يُري عباده نفسه، وأنه جائز رؤيته".
ثم يتصور معترضا يفترض تفسيرا آخر للآية، وأن المقصود بها تبعيد الرؤية. فيذكرتفسيره، ويردعليه :
فإن قال قائل: فلِم لا قلتم إن قول الله تعالى: " فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي " من الآية (143 /7) تبعيد للرؤية ؟ (2/ 44)
قيل له: لو أراد الله عز وجل تبعيد الرؤية، لقرن الكلام بما يستحيل وقوعه، ولم يقرنه بما يجوز وقوعه، فلما قرنه باستقرارالجبل وذلك أمر مقدور لله سبحانه وتعالى، دل ذلك على أنه جائز أن يرى الله تعالى.
ثم يستدل لفهمه بأساليب العرب في كلامها، مستشهداً بقول الخنساء حيث يقول:
" ألا ترى أن الخنساء لما أرادت تبعيد صلحها، لمن كان حربا لأخيها قرنت الكلام بأمر مستحيل فقالت: (2/ 45)
ولا أصالح قوما كنت حربهم حتى تعود بياضا حلكة القارى ( 1 )
والله تعالى إنما خاطب العرب بلغتها، وما نجده مفهوماً في كلامها ومعقولاً في خطابها.
فلما قرن الرؤية بأمر مقدور جائز، علمنا أن رؤية الله بالأبصار جائزة غير مستحيلة.
وبعد أن ينتهي من بيان وجه الاستدلال بالآية السابقة بجزئيها، ينتقل إلى عدد من الآيات التي تؤيد ما انتهى إليه من جواز الرؤية، مبيناً المراد منها، اعتماداً على ماقاله أهل التأويل، وذلك بغاية الإيجازقائلاً :
"دليل آخر:
قال الله عز وجل:
" لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ " (16 /10)،
قال أهل التأويل: النظر إلى الله عز وجل، ولم يُنعم الله تعالى على أهل الجنة بأفضل من نظرهم إليه ورؤيتهم له.
وقال تعالى: " وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ " من الآية (35 /50)
قيل: النظر إلى الله عز وجل.
وقال تعالى: " تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ " من الآية (44 /33)، (2/ 46)
وإذا لقيه المؤمنون رأوه.
وقال تعالى: " كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ " (15 /83)
فحجبهم عن رؤيته. ولا يحجب عنها المؤمنين. (2/ 47)
ونلاحظ في ما سبق قوة الاستنباط، والقدرة على الاحتجاج، وإلزام الآخرين مايترتب على أقوالهم من محالات أو مسلمات، كل ذلك بأسلوب رياضي جزل، وعبارة مشرقة ناصعة، تعتمد الجزم والتحديد، بعيداً عن الحشو والتعقيد.
تساؤل وإجابات محتملة:
ولكي يسد حميع المنافذ أمام المنكرين للرؤية، يتصور تساؤلاً يمكن أن يلجؤا إليه، وإجابات محتملة يمكن أن يجابوا بها،وذلك في بيان معنى قوله تعالى :
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " :
فإن قال قائل: فما معنى قوله تعالى:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " من الآية (103 /6) ؟
- قيل له: يحتمل أن يكون لا تدركه في الدنيا، وتدركه في الآخرة؛ لأن رؤية الله تعالى أفضل اللذات، وأفضل اللذات تكون في أفضل الدارين.
-ويحتمل أن يكون الله تعالى أراد بقوله: " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " من الآية (103 /6)
يعني: لا تدركه أبصار الكافرين المكذبين، وذلك أن كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلما قال في آية: إن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة، وقال في آية أخرى: إن الأبصار لا تدركه، علمنا أنه إنما أراد أن أبصار الكافرين لا تدركه. (2/ 48)
مسألة والجواب عنها:
فإن قال قائل: قد استكبر الله تعالى سؤال السائلين له أن يُرى بالأبصار، فقال:
" يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً " من الآية (153 /4)
فيقال لهم: إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل على طريق الإنكار، لنبوة موسى صلى الله عليه وسلم، وترك الإيمان به حتى يروا الله؛ لأنهم قالوا:
" لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ""
فلما سألوه الرؤية على طريق ترك الإيمان، بموسى - صلى الله عليه وسلم- حتى يريهم الله نفسه؛ استعظم الله سؤالهم من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليهم، كما استعظم سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلاً، ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتاباً.
وهكذا نرى طريقته في تصور التساؤلات التي يمكن أن تثار، وتصوره للإ جابات المتعددة التي يمكن أن تكون محتملة.
غير أننا نلاحظ أيضا أنه لم يتطرق إلى أن لفظ "الإدراك " ربما يكون بمعنى "الإحاطة".
وفي ذلك يقول مكي بن أبي طالب :
فأما قوله تعالى : " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " :
فمعناه :لاتحيط به. ومن قال إن معناه :لاتراه. فقدغلط.
- لأنه يلزم أن يكون معنى : "حتى إذاأدركه الغرق " :إذارآه.وذلك محال. إنما معناه :إذا أحاط به.
- وكذلك يلزمه أن يكون معنى " إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ": إنا لمرئيون ". ولم يخافوا أن يراهم قوم فرعون إنما خافوا أن يحيطوا بهم. فالمعنى : إنا لمحاط بنا.
- وكذلك يلزمهم أن يكون معنى " لَا تَخَافُ دَرَكًا " : لاتخاف رؤية. وهذا محال، لم يؤمنه الله من رؤية آل فرعون. إنما آمنه من إحاطتهم به وبمن معه، واستعلائهم عليهم.
فالمعنى في الآية : لاتحيط به الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة.
ومعنى :" لَنْ تَرَانِي ":أي :لن تراني في الدنيا. فالإحاطة منفية. والرؤية في الآخرة غير منفية...."
كذلك نلاحظ استدلاله بأقوال أهل التأويل عموماً، دون أن يذكر أحداً منهم. كما نلاحظ عدم إشارته إلى أي كتاب من كتب التفسير. وهذا يدل على أنه كان يكتب مما ترسخ في ذهنه، نتيجة قراءاته الكثيرة.
تفسير القرآن بالحديث النبوي :
وكما كان الإمام الأشعري يعتمد تفسير القرآن بالقرآن أصلاً من أصول التفسير. فكذلك هو يعتمد تفسير القرآن بالحديث النبوي الأصل الثاني، ومن ثم نجده بعد أن يستوفي الاستدلال بالقرآن، يلجأ إلى الا ستدلال بالأحاديث النبوية. وفي ذلك يقول :
"ومما يدل على إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار:
- رواية الجماعات من الجهات المختلفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضارون في رؤيته"( 1 )
والرؤية - إذا أطلقت إطلاقا، ومثلت برؤية العيان - لم يكن معناها : إلا رؤية العيان.
- ورويت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق مختلفة عديدة، عدة رواتها أكثر من عدة خبر الرجم -.
- ومن عدة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا وصية لوارث".
- ومن عدة رواة المسح على الخفين.
- ومن عدة رواة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها".
وبعد هذه الإشارا ت إلى كثرة رواة الحديث، والذي أخذبه المعتزلة، مرتبين عليه أحكاما شرعية، يلزمهم أن يأخذوا بمثل تلك الأحكام بالرؤية، فيقول :
" وإذا كان الرجم وما ذكرناه، سننا عند المعتزلة كانت الرؤية (2/ 50) أولى أن تكون سنة؛ لكثرة رواتها ونقلتها- كذا يرويها خلف عن سلف-."
ونلاحظ هنا استدلاله بالحديث النبوي، والذي لم يذكر سنده صريحاً، وإنما يقول بأن عدد رواته أكبر من عدد رواة بعض الأحاديث التي يأخذ بها المعتزلة، استدلالاً على كون مادلت عليه من أحكام سنة عندهم. وبناء على ذلك. يلزمهم أن تكون رؤية الله التي ثبتت بهذا الحديث سنة عندهم.
ثم ينتقل إلى حديث آخر ربما يحتج به بعضهم،على عدم الرؤية، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم، لمن سأله:
"هل رأيت ربك ؟ فقال : "نور أنى أراه ".
حيث يقول الأشعري مبينا عدم صحة الاستدلال، على عدم الرؤية في الآخرة :
والحديث : "أنَّى أراه"( 1 ):
لا حجة فيه؛ لأنه عندما سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم، عن رؤية الله عز وجل في الدنيا، وقال له: هل رأيت ربك ؟
فقال: "نورٌ أنى أراه" ؟
لأن العين لا تدرك في الدنيا، الأنوار المخلوقة على حقائقها؛ لأن الإنسان لو حدق ينظر إلى عين الشمس، فأدام النظر إلى عينها لذهب أكثر نور بصره.
فإذا كان الله سبحانه حكم في الدنيا، بأن لا تقوم العين بالنظر إلى عين الشمس، فأحرى أن لا يثبت البصر للنظر إلى الله تعالى في الدنيا، إلا أن يقويه الله تعالى. فرؤية الله تعالى في الدنيا قد اختلف فيها. (2/ 51)
ويلاحظ هنا التعليل العقلي لعدم إمكان الرؤية في الدنيا.
إجماع الصحابة :
وقد روي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل تراه العيون في الآخرة، وما روى عن أحد منهم أن الله تعالى لا تراه العيون في الآخرة، فلما كانوا على هذا مجتمعين، وبه قائلين، وإن كانوا في رؤيته تعالى في الدنيا مختلفين، ثبتت في الآخرة إجماعاً، وإن كانت في الدنيا مختلفاً فيها.
ونحن إنما قصدنا إلى إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة.
على أن هذه الرواية، على المعتزلة لا لهم - ؛ لأنهم ينكرون أن الله نور في الحقيقة.
فإذا احتجوا بخبر، هم له تاركون، وعنه منحرفون. كانوا محجوجين.
وهكذا يحتج الأشعري بالأحاديث، متعمقا قي تحليلها وفهمها، مقلبا النظر فيها على وجوهها المختلفة، مبينا المعاني التي يحتج بها، من المعاني التي لاتصلح للاحتجاج.
تفسير القرآن بالعربية :
وكما يفسر الأشعري القرآن بالقرآن، ويفسرالقرآن بالحديث النبوي، وبالمأثور عن الصحابة، والتابعين. كذلك هو يعتمد على العربية في الاستدلال والاحتجاج. وفي ذلك يفول :
قال الله تعالى: " وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ " (22 /75) :
يعني مشرقة.
"إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (23 /75):
يعني رائية، وليس يخلو النظر من وجوه نحن ذاكروها:
- إما أن يكون - لله سبحانه - عنى نظر الاعتبار- كقوله تعالى:
" أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ " (17 /88).
- أو يكون - عنى نظر الانتظار- كقوله تعالى:
" مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً" من الآية (49 /36)
-أو يكون عنى نظر التعطف، كقوله تعالى (2/ 36) :
" وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " من الآية (77 /3).
-أو يكون عنى نظر الرؤية.-
فلا يجوز أن يكون لله عز وجل - عنى نظر التفكر والاعتبار- ؛ لأن الآخرة ليست بدار اعتبار.
- ولا يجوز أن يكون - عنى نظر الانتظار - ؛ لأن النظر إذا ذكر مع ذكر الوجه، فمعناه نظر العينين اللتين في الوجه.
كما إذا ذكر أهل اللسان نظر القلب فقالوا: " انظر في هذا الأمر بقلبك "، لم يكن معناه نظر العينين.
- وكذلك إذا ذكر النظر مع الوجه، لم يكن معناه نظر الانتظار؛ الذي يكون للقلب، --وأيضا فإن نظر الانتظار لا يكون في الجنة؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، وأهل الجنة في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم.
وإذا كان هذا هكذا، لم يجز أن يكونوا منتظرين؛ لأنهم كلما خطر ببالهم شيء أتوا به مع خطوره ببالهم، (2/ 37)
غير أن قول الأشعري :
" وأيضا فإن نظر الانتظار لا يكون في الجنة؛ لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، وأهل الجنة في ما لا عين رأت ولا أذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم."
هذا الكلام من الأشعري-هنا- غير مسلم. وفيه نظر:
ذلك أن الحديث-هنا – يمكن أن يكون في الموقف، وقبل دخول الجنة،
وذلك بدلالة ما بعدها، وهو قوله تعالى :
" وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ"
فوجوه الكافرين باسرة، لأنها تنتظر أن يفعل بها فاقرة – وهذا قبل دخول النار -. ووجوه المؤمنين ناضررة - وهي تنظر إلى ربها، وتنتظرثوابه وعطاياه.- وهذا قبل دخول الجنة.
ونعود بد ذلك لمتابعة كلام الأشعري الذي يقول :
وإذا كان ذلك كذلك فلا يجوز أن يكون الله عز وجل أراد نظر التعطف؛ لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم.
وإذا فسدت الأقسام الثلاثة، صح القسم الرابع من أقسام النظر. وهو أن معنى قوله: "إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " : أنها رائية ترى ربها عز وجل.
ونلاحظ –هنا- حصره لمعاني " الانتظار" في العربية، واستشهاده على تلك المعاني بالآيات القرآنية، وبيانه للمعاني الصحيحة التي تدل عليها تلك الآيات، ونفيه للمعاني الأخر التي لايمكن أن تصح عليها. مستدلا لما يقول بأدلة عقلية، ومعتمدا على أساليب العربية. ثم يوظف كل ذلك في تر جيح القول الذي ذهب إليه.
أما ما ذهبت إليه المعتزلة في معنى قوله تعالى :
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ "
وأنه من نظر "الانتظار" فقد قال في إبطاله :
" ومما يبطل قول المعتزلة: - أن الله عز وجل أراد بقوله: " إلى ربها ناظرة" نظر الانتظار- أنه قال:
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ". ونظر الانتظار لا يكون مقرونا بقوله: "إلى" ؛ لأنه لا يجوز عند العرب أن يقولوا في نظر الانتظار: " إلى ".
ألا ترى أن الله تعالى لما قال:
" مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً" من الآية (49 /36)
لم يقل " إلى "؛ إذ كان معناه : الانتظار.
وقال عز وجل مخبرا عن بلقيس: (2/ 38) :
" فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ" من الآية (35 /27)،
فلما أرادت الانتظار لم تقل " إلى ".
وهكذا يستشهد بالآيات لتي ورد فيهالفظ " النظر"، مبينا عدم جوا ز أن يكون النظر فيها بمعنى الانتظار،لأن " نظر" -إذا كانت من الانتظار- عديت ب"إلى". وفي كل تلك الآيات لم تعد ب"إلى"
ثم لا ينسى أن يستدل لذلك بالشعر الجاهلي :
وقال امرؤ القيس( 1 ):
فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانيَ سَاعَةً ** من الدهرِ تَنفعْني لَدى أُمِّ جُندَبِ
فلما أراد الانتظار لم يقل " إلى "، غير أن الأشعري لم يذكر-هنا- استدلالاً آخرللمعتزلة :
وهو ادعاؤهم بأن "إلى " إنما هي احدة "الآلاء " بمعنى " النعمة "- وعلى هذا فهي هنا، ليست حرف جر-. وبناء على ذلك يكون معنى الآية : نعمة ربها منتظرة.
- وذلك بغض النظرعن التكلف في هذا القول. وضعف الاحتجاج به -.
وبعد تلك الجولة في معاني " الانتظار" يعود لإثبات معنى الرؤية في الآية، بعد أن بين استبعاد معنى الا نتظار بناء على أساليب العربية، فيقول :
فلما قال سبحانه (2/ 39) : " إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (23 /75)
علمنا أنه لم يرد الانتظار، وإنما أراد نظر الرؤية.
ثم يلجأ إلى قرائن أخر، في الآيات تؤكد صحة المعنى الذي انتهى إليه فيقول:
" ولما قرن الله عز وجل النظر بذكر " الوجه "؛ أراد نظر العينين اللتين في الوجه، كما قال:
" قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا" (144 /2)،
فذكر الوجه، وإنما أراد تقلب عينيه نحو السماء ينظر نزول الملك عليه-يصرف الله تعالى له عن قبلة بيت المقدس- إلى القبلة.
وهكذا تظهر مقدرة الأشعري الكلامية، في احتجاجه على خصومه بالأدلة الاستنباطية، الجامعة بين العقل والنقل.
حمل القرآن على ظاهره :
ثم يلجأ الأشعري إلى تصوراحتمال قد يقوله قائل من المعتزلة :
فإن قيل: لم قلتم: إن قوله تعالى:
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " إنما أراد إلى ثواب ربها ناظرة ؟ (2/ 40)
ويجيب على ذلك محتجا بأن الأصل بقاء القرآن على ظاهره. وفي ذلك يفول :
قيل له: ثواب الله غيره. والله سبحانه وتعالى قال:
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " (23 /75) ولم يقل: إلى غيره ناظرة.
والقرآن العزيز على ظاهره. وليس لنا أن نزيله عن ظاهره إلا بحجة،
وإلا فهو على ظاهره.
ألا ترى أن الله عز وجل لما قال: صلوا لي واعبدوني، لم يجز أن يقول قائل: إنه أراد غيره- ويزيل الكلام عن ظاهره-
فلذلك لما قال: " إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " لم يجز لنا أن نزيل القرآن عن ظاهره بغير حجة.
ثم يقال للمعتزلة: إن جاز لكم أن تزعموا أن قول الله تعالى:
" إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ " : إنما أراد به أنها إلى غيره ناظرة.
فلم لا جاز لغيركم أن يقول: إن قول الله سبحانه وتعالى (2/ 41) :
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " (103 /6) أراد بها لا تدرك غيره. ولم يرد أنها لا تدركه ؟
وهذا مما لا يقدرون على الفرق فيه.
التفسير بالعقل :
وكمايفسر الأشعري القٌرآن بالمأ ثور، فإ نه كثيرا ما يلجأ إلى المعقول. ولا غرابة في ذلك، فقد كان معتزليا، خبر الكلام، وأتقن الاستدلال، وعرف أساليب الاحتجاج. وبخاصة في ردوده على المعتزلة. وفيما يلي شواهد تؤكد ذلك وتدل عليه،وهو يعرضها تحت عنوان : دليل آخر. أوتحت عنوان : مسألة – وفيما يلي نماذج منها :
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية الله تعالى بالأبصار؛ أنه ليس موجود إلا وجائز أن بريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم، فلما (2/ 53) كان الله عز وجل موجودا مثبتا، كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل، وإنما أراد من نفى رؤية الله عز وجل بالأبصار التعطيل، فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا، أظهروا ما يؤول بهم إلى التعطيل والجحود، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية الله سبحانه بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائيا، فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه. وإذا كان لنفسه رائيا فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لم يعلم نفسه لا يعلم الأشياء، فلما كان الله تعالى عالما بالأشياء كان عالما بنفسه، فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، ولما كان الله عز وجل رائيا للأشياء، كان رائيا لنفسه.
وإذا كان رائيا لها، فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه لما كان عالما بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال تعالى:
" إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى " من الآية (46 /20).
فأخبر أنه يسمع كلا منهما ويراهما.
ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يُرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائيا، ولا عالما، ولا قادرا؛ لأن العالم والقادر الرائي جائز أن يُرى.
االاحتجاج بلازم المسلمات العقلية
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية الله تعالى بالأبصار؛ أنه ليس موجود إلا وجائز أن يريناه الله عز وجل، وإنما لا يجوز أن يرى المعدوم. فلما (2/ 53) كان الله عز وجل موجودا مثبتا، كان غير مستحيل أن يرينا نفسه عز وجل، وإنما أراد- من نفى رؤية الله عز وجل بالأبصار- التعطيل، فلما لم يمكنهم أن يظهروا التعطيل صراحا، أظهروا ما يؤول بهم إلى التعطيل، والجحود. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
دليل آخر:
ومما يدل على رؤية الله سبحانه بالأبصار أن الله تعالى يرى الأشياء، وإذا كان للأشياء رائياً، فلا يرى الأشياء من لا يرى نفسه. وإذا كان لنفسه رائياً فجائز أن يرينا نفسه، وذلك أن من لم يعلم نفسه لا يعلم الأشياء، فلما كان الله تعالى عالماً بالأشياء كان عالماً بنفسه، فكذلك من لا يرى نفسه لا يرى الأشياء، ولما كان الله عز وجل رائياً للأشياء كان رائياً لنفسه، وإذا كان رائياً لها فجائز أن يرينا نفسه، كما أنه لما كان عالماً بنفسه جاز أن يعلمناها، وقد قال تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) من الآية (46 /20)، فأخبر أنه يسمع كلا منهما ويراهما، ومن زعم أن الله عز وجل لا يجوز أن يُرى بالأبصار يلزمه أن لا يجوز أن يكون الله عز وجل رائي، ولا عالما ولا قادرا؛ لأن العالم والقادر الرائي جائز أن يُرى.
مسألة في الرؤية:
احتجت المعتزلة في أن الله عز وجل لا يُرى بالأبصار بقوله تعالى:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " من الآية (103 /6).
قالوا: فلما عطف الله عز وجل بقوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " على قوله " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ "،
وكان قوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " -على العموم- أنه يدركها في الدنيا والآخرة، وأنه يراها في الدنيا والآخرة، كان قوله (2/ 56) :
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " دليلا على أنه لا تراه الأبصار في الدنيا والآخرة، وكان في العموم كقوله: " وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر.
قيل لهم: فيجب إذا كان عموم القولين واحداً، وكانت الأبصار أبصار العيون وأبصار القلوب؛ لأن الله تعالى قال:
" إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " (46 /22). وقال:
" أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ " (45 /38)
أي فهي بالأبصار، فأراد أبصار القلوب، وهي التي يفضل بها المؤمنون الكافرين.
ويقول أهل اللغة: فلان بصير بصناعته، يريدون بصر العلم، ويقولون: قد أبصرته بقلبي، كما يقولون قد أبصرته بعيني، فإذا كان البصر بصر العين (2/ 57) وبصر القلب. ثم أوجبوا علينا أن يكون قوله تعالى:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " - في العموم - كقوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " ؛ لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر، وجب عليهم بحجتهم أن الله تعالى لا يُدرك بأبصار العيون ولا بأبصار القلوب؛ لأن قوله:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " - في العموم- كقوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ "
وإذا لم يكن عندهم هكذا. فقد وجب أن يكون قوله تعالى:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " أخص من قوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " وانتقض احتجاجهم.
وقيل لهم: إنكم زعمتم أنه لو كان قوله:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " خاصا في وقت دون وقت لكان قوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " خاصا في وقت دون وقت (2/ 58)، وكان قوله: " لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " من الآية (11 /42)، وقوله:
" لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ " من الآية (255 /2)، وقوله:
" لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا " من الآية (44 /10)
في وقت دون وقت
فإن جعلتم قوله تعالى: " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " من الآية (103 /6) خاصا رجع احتجاجكم عليكم.
وقيل لكم: إذا كان قوله:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " خاصا , ولم يجب خصوص هذه الآيات فلم أنكرتم أن يكون قوله عز وجل:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " إنما أراد في الدنيا دون الآخرة ؟
وكما أن قوله:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " أراد بعض الأبصار دون بعض. ولا يوجب ذلك تخصيص هذه الآيات التي عارضتمونا بها. (2/ 59)
فإن قالوا: قوله تعالى:
" لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ " يوجب أن لا يدرك بها في الدنيا والآخرة، وليس ينفي ذلك أن نراه بقلوبنا، ونبصره بها، ولا ندركه بها.
قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون لا تدركه بإبصار العيون لا يوجب إذا لم ندركه بها أن لا نراه،
فرؤيتنا له بالعيون وإبصارنا له بها، ليس بإدراك له بها، كما أن إبصارنا له بالقلوب ورؤيتنا له بها ليس بإدراك له بها.
فإن قالوا: رؤية البصر هي إدراك البصر.
قيل لهم: ما الفرق بينكم وبين من قال: إن رؤية القلب وإبصاره هو إدراكه وإحاطته؟ فإذا كان علم القلب بالله عز وجل، وإبصار القلب له رؤيته إياه ليس بإحاطة ولا إدراك.
فما أنكرتم أن يكون رؤية العيون وإبصارها لله عز وجل ليس بإحاطة ولا إدراك.
مسألة:
ويقال لهم: إذا كان قول الله سبحانه: " لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ "- في العموم- (2/ 60) كقوله:
" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ "
لأن أحد الكلامين معطوف على الآخر. فخبرونا أليس الأبصار والعيون لا تدركه : رؤية، ولا لمسا، ولا ذوقا، ولا على وجه من الوجوه ؟
فمن قولهم: نعم، فيقال لهم:
أخبرونا عن قوله تعالى: " وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ "
أتزعمون أنه يدركها لمسا، وذوقا، بأن يلمسها ؟ فمن قولهم: لا.
فيقال لهم: فقد انتقض قولكم:
إن قوله:" وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ " - في العموم- كقوله: "لا تدركه الأبصار"
مسألة :
إذا قال قائل منهم: إن البصر في الحقيقة هو بصر العين لا بصر القلب.قيل له: (2/ 61) ولِم زعمت هذ ؟ا وقد سمى أهل اللغة بصر القلب بصرا، كما سموا بصر العين بصرا؟
وإن جاز لك ما قلته، جاز لغيركم أن يزعم أن البصر في الحقيقة، هو بصر القلب دون العين. وإذا لم نجز هذا، فقد وجب أن البصر بصر العين وبصر القلب.
وبعد : فهذه جولة في أصول التفسير عندالإمام الأشعري- من خلال كتابه الإبانة -عرفنا منها ملامح ومعالم منهجيته في فهم النصوص،وتفسيرها، وطريقته في الاستدلال والآحتجاج، بعد أن فقدنا الأمل في العثور على تراثه التفسيري، والذي تشير المصادر إلى أنه كان غنيا وثريا سٍواء في تفسيره المختزن أوفي غيره من الكتب الأخر.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
( 1 ) وفي الديوان :
ولا أُسالِمُ قوْماً كنتَ حَرْبَهُمُ ** حتى تعودَ بياضاً جؤنةُ القار
وقد جاء قبلها :
يا عينُ فِيضي بدَمْعٍ منكِ مِغْزارِ ** وابكي لصخرٍ بدمعٍ منكِ مدرارِ
إنّي أرقتُ فبتُّ الَّليلَ ساهرةً ** كانَّما كحلتْ عيني بـعـوَّارِ
أرعى النُّجومَ وما كلّفتُ رعيتها ** وتارَةً أتَغَشّى فضْلَ أطْمـارِي
وقَدْ سَمِعْتُ فلمْ أبْهَجْ به خَبراً ** مخبّراً قامَ يَنْمِي رَجْعَ أخبــارِ
قالَ ابنُ أمّكِ ثاوٍ بالضَّريحِ وقدْ ** سوَّوا عليهِ بألواحٍ وأحجـارِ
فاذهبْ فلا يبعدنكَ اللهُ منْ رجلٍ ** منَّاعِ ضيمٍ وطلاُّبٍ بأوتــارِ
قدْ كنتَ تحملُ قلباً غيرَ مهتضمٍ ** مركَّباً في نصابٍ غيرِ خَــوّارِ
مثلَ السّنانِ تُضِيءُ اللّيلَ صورَتُهُ ** جلدُ المريرةِ حرٌّ وابنُ أحـرارِ
أبكي فتى الحيِّ نـالتهُ منيَّتهُ ** وكلُّ نفسٍ إلى وقتٍ ومقدارِ
وسوْفَ أبكيكَ ما ناحَتْ مُطَوَّقَةٌ ** وما أضاءتْ نجومُ اللَّيلِ للسَّاري
( 1 ) أخرجه أحمد في المسند : 1 / 13 ، والنسائي في السنن الكبرى: 1 / 100 ، والطبراني في المعجم الكبير :2 / 295 ، وابن ماجه في سننه : 2 / 1359 . وقال ابن القيم في في تهذيب سنن أبي داود : 2 / 413 : "وَالْأَحَادِيث الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبّكُمْ " صَحِيحَة , وَأَسَانِيدهَا غَيْر مَدْفُوعَة"
( 1 ) أخرجه مسلم في صحيحه : 1 / 159 .
( 1 ) خليلّي مرّا بي على أم جندب ** نُقَضِّ لُبَانَاتِ الفُؤادِ المُعذَّبِ
ألم ترياني كلما جئتُ طارقاً ** يُفَدّونَهُ بالأمّهَاتِ وبَالأبِ
عَقيلَةُ أتْرَابٍ لهِا، لا دَمِيمَة ** وَلا ذَاتُ خَلقٍ إن تأمّلتَ جَأنّبِ
ألاليتَ شعري كيف حادث وصلها ** وكيْفَ تُرَاعي وُصْلَةَ المُتَغَيِّبِ
أقَامَتْ على مَا بَيْنَنَا مِنْ مَوَدّةٍ ** أميمة أم صارت لقول المخببِ
وسوم: العدد 828