لا عِزَّةَ إلا بالإسلام
لايُلامُ الذين يحاربون الإسلام من النصارى واليهود ، وما تفرع عنهم من فرق ونحل وأحزاب ، فأولئك الضالون وقد غضب الله عليهم لجحودهم وإشراكهم به غيرَه سبحانه وتعالى . ولكن اللوم ينصب مدرارا على أبناء جلدتنا الذين عايشوا عبادات الإسلام ــ على الأقل ــ مع ذويهم ، وشعروا بقدسية هذا الدين العظيم في شعائره التي تُؤدَّى في الكثير من المناسبات . وإن الله عزَّ وجلَّ أقام الحجة على أولئك الضالين وعلى المغضوب عليهم ، ثم على هؤلاء من أبناء حاراتنا وبيئتنا الذين باتوا أشد عداوة ــ ربمـا من غيرهم علينا ــ فالله سبحانه أرسل الرسل ، وأنزل الوحي ، وأجرى المعجزات المادية ، فلم يبق لجميع هؤلاء وأولئك إلا الإنابة إلى الله ، أو انتظار أقداره سبحانه فيهم . قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً ) 28/الفتح .
هؤلاء الأعداء يملكون القوة المادية الهائلة ، ويملكون التقنيات ذات الفعالية والأثر ، ولديهم العدة والأعداد والإعداد ، وقد رصدوها لحرب أمتنا وديننا ، ولإطفاء نور الحق في شريعتنا الغراء ، ولكن ليس لهم ذلك إذا عادت الأمة إلى ربِّهـا ، وعملت بما جاء به رسولُها صلى الله عليه وسلم . وقد تكفل الله بذلك : (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً ) . ولقد بدأ الكيد من قِبل أولئك الضالين المغضوب عليهم على الدعوة الإسلامية ، وعلى هذه الأمة منذ أيام البعثة النبوية ، أفعال اليهود ومؤامراتهم ومحاولاتهم للقتل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأفعال المشركين وما لاقاه المسلمون ألأوائل في مكة المكرمة من تعذيب وقتل ومكر ، ثم الفتن التي أشعل نارها اليهود والمجوس ... وتاريخ مكر هؤلاء جميعا لايجهله أحد من الخلق . وهكذا عاد الإسلام غريبا كما بدأ ، عن تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ الله به الكفر)؛ رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي .
ولم يعد خافيا أن دول أوروبا وروسيا وأمريكا وغيرها من دول عظمى وصغرى تهيمن عليها الماسونية الصهيونية العالمية ، بل إن الجميع تعهدوا لهذا الكيان الملعون بالحماية ، والدفاع عنه بشتى الوسائل ، وباستخدام أنواع الأسلحة ، فمن أجل هذا الكيان حدثت انقلابات عسكرية ، وصيغت مؤامرات لاغتيالات معلومة ، وتكتيكات مدروسة ، أقول : ولم تعد تخفى على أي إنسان واعٍ أن ماعلى الأرض يخدم الكيان الواني مهما بــدا شامخا قويا منتفشا ، والحرب القادمة بين المسلمين وبين اليهود لاريب فيها ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحديث النبوي بشارة للأمة ، لأن النصر لن يكون على الكيان الملعون وحسب ، إنما ذاك النصر القادم ــ بمشيئة الله ــ ستكون آثارُه خيرا على البشرية جمعاء ، وستعود الرحمة المهداة من الله إلى خلقه ، وترفرف بالتالي راية التوحيد ، وتجتمع حولها الخلائق ، فالمستقبل لدين هذه الأمة . ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن حرب فاصلة مع يهود ؟ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ) رواه مسلم.فعندئذ أين ستكون الدول العظمى والصغرى التي تحمي كيان اللعنة الأبدية ؟
قد يبدو الأمر عجيبا ، ويراه أهل القلوب المظلمة مستحيلا ، ولكن لابأس ، فلن نسفه أحلامهم ولن تقلل من شأن هذا الكيان الواني الهزيل . ولكننا نؤمن بقدرة الله وتدبيره ، ونؤمن بأن: (فأما الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) ، ونؤمن بأن ليل الابتلاءات يعقبه الفرج والفتح المبين ــ بمشيئة الله ــ وأن هذه المصائب التي تجتاح عالمنا الإسلامي الفسيح ، تُنبِئُ أن رحمة الله ستملأ صدور المؤمنين ، ويومئذ يفرحون بنصر الله ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .
إنَّ العينَ لتدمع ، وإنَّ القلبَ ليحزن ، وإن الجوانح لتتفطر أسىً وحسرةً على ماحلَّ بالمسلمين ، من نكبات وتقهقر ، ومن ضعف وتخاذل ، ومن حيرة وقلق ، ومن حصار ودمار وقتل وظلم واستعباد ، ومن إذعان لقوى الاستكبار العالمي ، والسبب لم يَعُد يخفى على أحد ، إنه الإعراض عن الإسلام كنظام وأخلاق وتشريع ، إنه البعد عن الله القوي الجبار ، إنه عدم الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالتالي هو السقوط المريع بين أحضان الكيد الصهيوني والمكر الصليبي ... ( روى المجاهد التركي المغفور له ــ جواد رفعت ألتخان ــ أنه بعد اندحار الجيوش العثمانية في كافة الجبهات ، وانفراط جمعية الاتحاد والترقي زار القائد جمال باشا أنور بيك في داره الكائنة في أورطه كوى في استانبول ، وكان جميع رفاقه قد هربوا . وتذاكرا معا في الهزائم ، وحللا أسباب هذه الاندحارات ، فقال وزير حربية الاتحاديين أنور باشا وقائد جيوشهم موجها كلامه إلى زائريه : أتعرفون ماهو ذنبنا الحقيقي ؟
*لقد كان ذنبنا أننا لم نقدِّر السلطان عبدالحميد حقَّ قدره .
* فأصبحنا أُلعوبة بيد الصهيونية .
*واستثمرتنا الماسونية ...
*هذا فظيع جدا .
*ولكنه واقع مع الأسف .
*لقد كنا ألعوبة في أيدي اليهودية العالمية ) 1 .
ظلمات بعضها فوق بعض لايعرف المسلمون اليوم سبيل رشدهم ، ولا أين يتجهون ، ولا كيف يتعاملون مع مايحيط بهم ظلم وتعسف وحيرة وهوان ...
وكأنها الجاهلية الأولى التي عاشها الناس قبل مولد الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، فلْتدمع العين ، ولْيحزن القلب بعدما طُويت صحائف الخير والعزة ، وبعد قلب صفحة الخلافة الإسلامية إلى حيث يشاء الله من زمن ، ويعود الربيع فتفرح قلوب وتنتهج نفوس وتغرد ألسنة ... بذكرى سيد الخلق ، ومنقذ البشرية صلى الله عليه وسلم .
لا يهمنا الصيف بحرِّه ، ولا الشتاء ببرده ، ولا الخريف برياحه ، ولا الربيع بزهوه واعتداله ... وإنما الذي يجب أن يعنينا ذلك الربيع القادم من عالَم الغيب ، ليمنح الأرض ومن عليها قيمه الربانية ، ومآثره المتلألئة نورا وهدى وبشرى للعالمين . الربيع الذي أثرى البشرية ببرامج الإصلاح الإيجابية للفرد والمجتمع وللأمة ، وللإنسانية جمعاء . وأغنى الخلق بالحقائق التي لاتقبل التزييف والانحراف ، الربيع الذي يبارك للإنسان في إيمانه بالله ودأبه في طاعته ، وفي إنصافه ومروءته ، وفي إتقانه لاستثمار أيام عمره ، ليفوز بالآخرة ، ويعمر الدنيا بالإخاء والسماحة والطهارة والعطاء . وفي المنافسة البارة بهذا الإسلام العظيم لاستعادة السيرة النبوية التي أنتجت لأبناء الأمة برامج عملية في العبادات والجهاد والإعمار ، وفاضت على الخلق بالمودة والرحمة ... إن الأمة فقدت هذا الربيع الأثير ... فقدت روحَ الإسلام ، فقدت السكينة والطمأنينة التي أكرم الله بها أصحاب نبيِّه عليه الصلاة والسلام . ومَن عاش بعدهم على هذا النهج من التابعين وتابعيهم ... فعاشت الأمةُ هذا اليباب القاتل ، وعانت من الأكدار التي تراكمت على الناس وكأنها السحاب الثقال ، وفتَّ في عضدها الألم :
كأنْ لم يكنْ بين الحجون إلى الصَّفا بلــى نحــن كنَّــــــــا أهلهـــــا فأبادنـــــا أنيسٌ ، ولم يسمرْ بمكَّةَ سامرُ هـــوانٌ تغشَّـــانا ، وغــازٍ ، وفاجـــرُ
قبل الإسلام كان الناس في جاهلية ، جاهلية يميزها العقلاء من البشر ، في منافاتها للفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها ، فالقوة الغاشمة فيها هي صاحبة الحق في الأمر والنهي والتسلط ، والفوضى هي مسرح المزايدات والمناقصات في حلبات المكر والخداع والترويج ، والكلام للكاذب الأشر ، والسكوت للمخلص ، من أجل أن يدفع الزور والبهتان ، الحضورَ الفاعل للرجال الأثبات في المنازلات والمفاصلات . وعلى هذا الامتداد كان للجاهلية الأولى صولتها وكبرياؤُها ، وعلى يديها ضاع الحق ، وأخوت القيم ، وحقَّ يومها للوجود البشري أن يشكو مرارة العيش ، وقسوة الواقع ، وجفاف القلوب ، وتبار المحاولات ... وتئن الفطرةُ تحت ضربات عبدة الأوثان والشيطان ، وتشرئب الأعناق للمنقذ من الضلال ، والرائد إذ اضطربت الأحوال ... ولكن مَن سيكون ؟!
ولتغيير الأحوال أسباب وإرهاصات ، وهكذا هي سُنَّة الحياة ... كانت يومها الأرض مجدبة ، والناس في حالة من التوجس والقلق والاضطراب ، وكأنهم ينتظرون مَن يأخذ بأيديهم إلى حيث الطمأنينة والسعادة ، وفي تلك الفترة كان المولود المنتظر بين ظهرانيهم لم يتجاوز السابعة من عمره المبارك ، واشرأبت العيون وتطاولت الأعناق ، وكأن بدايات التغيير تفتَّقت أكمامها ، وآن أوانُها ، فيأتي أهل مكة شاكين إلى أبي طالب ... يروي ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكة وهم في قحطٍ ، فقالت قريش : يا أباطالب أقحط الوادي ، وأجدب العيال ، فهلمَّ فاستسقِ . فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمسُ دجنٍ ، تجلَّت عنه سحابة قثماء ، حول أُغيلمة ، فأخذه أبو طالب ، فألصق ظهره بالكعبة ، ولاذ بأصبعه الغلام ، وما في السماء قزعة ، فأقبل السحاب من ههنا وههنا ، وأغدق واغدودق ، وانفجر الوادي ، وأخصب النادي والبادي ... فأنشد أبو طالب :
وأبيضُ يُستسقى الغمامُ بوجهه ثمال اليتامى ، عصمة للأراملِ
ذلكم (مُحَمَّــدُ بنُ عبدِالَّلهِ) رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم ، النبيُّ المنتظر ، والمنقذ الذي اجتباه الله واصطفاه من بين خلقه ... سقى الله به القوم ، وأنعم به على الناس ، رعاه الله ليكون خاتم الأنبياء ، ومعدن الفضائل والمآثر والأخلاق ، فهو صلى الله عليه وسلم كما وصفه قومه : ( بخلال عذبة ، وأخلاق فاضلة ، وشمائل كريمة ، فكان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خُلُقا وأعزهم جارا ، وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وألينهم عريكة ، وأعفهم نفسا ، وأكرمهم خيرا ، وأبرهم عملا ، وأوفاهم عهدا ، وآمنهم أمانة ، حتى سمَّاه قومه الأمين ، لِما جمع الله فيه من الأحوال الصالحة ، والخلال المرضية ، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها : يحمل الكلَّ ، ويكسب المعدوم ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق ) 2 . فكان صلى الله عليه وسلم مؤهلا لحمل الرسالة الإسلامية ، وكان جديرا ليقبله الناس يوم اختلفت القبائل على وضع الحجر الأسود في مكانه من الكعبة المعظمة عند تجديد بنائها ، حيث اتفقوا على تحكيم أول داخل من باب المسجد ، وانتظروا متلهفين ، فإذا بالداخل ( مُحَمَّدُ بنُ عبدالله ) صلى الله عليه وسلم ... فهتفوا جميعا فرحين راضين : هذا هو الصادق الأمين ... كلنا نحبه ونرضاه .
فبه استسقى القوم ، وبه رضوا الحَكَمَ المحبوبَ المقدمَ على سِواه ، وله شهد الراهب بحيرا بالنبوة ، وبنبوته تحدثت الجن ، وعليه سلَّم الحجر والشجر ، وبه احتفلت الأكوان وازدانت البلدان ، وبنوره أشرقت جنبات الأرض ، واهتزت عروش الظلم والطغيان ، وتهدم عند كسرى الإيوان ... فهو النبي الذي أنزل الله عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فأزال دياجير الضلال والإلحاد ، وفتح للناس ــ كلِّ الناسِ ــ أبواب الهداية والإخاء والرخاء والسُّمُو ، فبشَّر المؤمنين ، وأنذر الكافرين ، وألغى طغيان كبرياء الظالمين ، وطهَّرت شريعته القلوب والأبدان والثياب ، ليلقى الإنسان ربَّه نظيفا من الأوزار والأهواء ، وزكَّت تعاليمُه صلى الله عليه وسلم الأنفس ، وسمت بالإنسان إلى أعلى مراتب الإحسان . فاستجاب الذي هداه الله لهذا النداء ، وعاداه كلُّ فاجر وآثم ومتكبر لايؤمن بيوم الحساب . روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لمَّا نزلتْ : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) صعد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا ، فجعل ينادي : يابني فهر ، يابني عدي ... لبطون قريش حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ماهو ؟ فقال للقوم : ( أرأيتُم لو أخبرتُكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنتُم مصدِّقي ؟ ) قالوا : نعم ماجربنا عليك إلا صدقا . قال : ( فإني نذيرٌ لكم بين يَدَيْ عذاب شديد ) ، لقد صدع بالحق ، فآمن مَن آمن وفاز ، وكذَّب مَن كذَّب فخسرَ وخاب ، وثارت ثورة الظالمين أنفسَهم ، وكانت السخرية والاستهزاء ، وكانت محاولات التشويش والتشويه ، وكانت المساومات ، وكان الاضطهاد والإيذاء ، وكانت الحرب المعلنة على الإسلام ودعاته وكل مَن آمن به ... وهذا هو قرار أعداء الإسلام في كل الأزمنة والأمكنة على توالي العصور، وكما نراهم اليوم بين ظهرانينا في هذا اتلزمان ، شأنُهم شأن حمَّالة الحطب زوجة أبي لهب التي كانت تنشد في نوادي مكة : ( مذمَّمًـا عصينا ، وأمره جافينا ، ودينه قلينا ) ولا عجب فتلك حال المستكبرين المتغطرسين المتمثلين بقول فرعون هذه الأمة حين قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في إحدى المناسبات : ( لاتستطيع أنت ولا ربُّك شيئا ، وإني لأعزُّ مَن مشى بين جبليها ) ... جاهلية جهلاء ، وضلالة عمياء ، وغيٌّ يوفي بأهله إلى النار والتبار ، وتطاول على سيد الخلق رسول الله رب العالمين في ذاك الزمان وفي هذا الزمان . وفي مقابل هذا الصف الأرعن المكابر صفُّ المؤمنين ، قِلَّة كانوا أم كثرة ، بإيمانهم المكين ويقينهم بنصر الله لهم مهما طال الزمن ، ومهما تطاول المجرمون ، تحدثنا سيرة صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم عن هزيمة هؤلاء المرجفين أعداء الله ، هزيمة مدوية مجلجلة مع رئيسهم وصاحب أباطيلهم وأضاليلهم إبليس لعنه الله وأخزاه ، يوم جاء في صورة سراقة بن مالك ، فلما رأى الملائكة تقاتل في صفوف الفئة المؤمنة ، فرَّ ونكص ، وتشبثَّ به الحارث بن هشام وهو يظنُّه سراقة ، وقال له المشركون إلى أين ياسراقة ؟ ألم تكن قلتَ : إنك جارٌ لنا ، لاتفارقُنا ؟ ... فما كان من إبليس إلا أن وكز الحارث فألقاه أرضا ، ثم ولَّى هاربا قائلا للحارث ومن معه : إني أرى مالاترون . إني أخاف الله ، والله شديد العقاب . وظل راكضا حتى ألقى نفسه في البحر خاسئا مدحورا .
فهيهات أن تنفع التحالفات ، أو تجدي المكائد والمؤامرات ، إذا أذن اللهُ العزيز العليم الحكيم بالنصر ، ودخل أو عاد الناس إلى دين الله أفواجا ، لقد مرَّت ساعاتٌ عصيبة على صاحب الذكرى صلى الله عليه وسلم ، وعلى الكتيبة المؤمنة التي بذلت الأرواح والأموال نصرة لدينه ودفاعا عن شريعته ، ففي معركة أحد كسرت رباعيته ، وشجَّ رأسه ، فجعل صلى الله عليه وسلم يسلت الدم عنه ويقول : ( كيف يفلح قوم شجُّوا وجهَ نبيِّهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله ) ... إلى الخير والسعادة والعز والمجد والتوفيق لأحسن العمل في الدنيا ، والفوز بالنعيم الأبدي في الآخرة ... ولكنها النُّبوة الحريصة على إنقاذ الخلق ، الرؤوفة بعباد الله كيلا يذوقوا عذاب الحريق ، الرحيمة بالإنسانية لكيلا تتمرد على الله . ولقد اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيِّهم مافعلوا ، والله ذو انتقام وأخذ شديد ، ولكن الحبيب عليه الصلاة والسلام رفع يديه الطاهرتين الكريمتين إلى ربِّه وهو يقول : ( اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لايعلمون ) وفي رواية : ( اللهم اهدِ قومي فإنهم لايعلمون ) ، وهذا السُّمُوُّ العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقُه وتوثيقُه عند ربِّه جلَّ وعلا حيثُ قال : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ، عزيز عليه ماعنتم ، حريص عليكم ، بالمؤمنين رؤوف رحيم ‘ فإن تولَّوا فقل : حسبي الله لا إله إلا هو ، عليه توكلتُ وهو ربُّ العرش العظيم ) .
هذا هو الإسلام العظيم الذي افتقدناه ، وفقدنا بفقده نفوسا سمت فوق الأهواء ، وقلوبا سليمة تعالت على كل باطل ، ومشاعرَ التهبت بالحب والوفاء والولاء لشريعة الله . فقدنا عندما نأينا عن الإسلام ألوية النصر المؤزَّر التي كانت ترفرف في جنبات الأرض ، وصيحات التكبير والتهليل التي تتجاوب معها البوادي والمغاني وآفاق الكون الرحيبة ، فقدنا معالم الطريق الذي أناره القرآن الكريم ، وحقول الرضا والقيم النفيسة في سُنَّة رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقدنا نسائم الرحمة والقبول التي كان الرجال الأبرار يجدون ريحها من وراء أحد والخندق واليرموك وحطين ، وهي تهب ريَّانة بأريج الخلود في جنَّات الخلود ، ومن الفردوس الأعلى ... هذا هو الربيع الإسلامي في مآثره وفضائله ومنجزاته ، وفي آدابه وأخلاقه ومعاملاته ، وفي محرابه وميدان جهاده ، وفي قوة وعزة أبنائه ومروءتهم وشموخ إيمانهم وثباتهم في وجه الأعاصير العاتية غربية أو شرقية ، محلية أو عالمية . إنَّ العين لتدمع ، وإن القلب ليأسى أشدَّ الأسى على ما أصاب الأمة من هذا التَّصحرالذي أوهى القلوب وأقعد النفوس وأخمد توهُّجَ أسباب العزة بين الصفوف ، ومن هذا الوهن الذي عشعش فوق الصدور فأطفأ حرارة الإيمان ، وطمس جذوة الشهامة والرجولة عند أهل الأهواء والمزامير والفجور ، وعلى هذه اللامبالاة التي لم يَعُدْ أصحابُها يدركون مدى قوة الأخطار المحدقة بهم وبأمتهم وعقيدتها الإسلامية وخيراتها المتنامية الغنية ومستقبلها المحفوف بما لاتُحمد عقباه ، وعلى هذه المفاسد والنقائص التي بات فسَّاقُها وفجَّارُها يُكرمون ويُقدمون على أنهم أبطال الأمة ونجومها اللامعات ... ولكن في أندية النذالة والانحطاط الخلقي . إنَّ الأمة التي تنهار أخلاق أبنائها بهذا الشكل المريع ، لهي أولى بالتبار والخسران والانهيار ، وهي الأجدر أن تكون فريسة سائغة بين أنياب الفناء بعد ضعف وهوان وخذلان .
بالإسلام وحده تكتمل شخصية المسلم والمسلمة بالعروة الوثقى ، وبالإيمان الحق الذي يحمي المسلم والمسلمة من مفاسد الحضارة الآثمة المادية ، وبالتقوى التي تصنع السيرة الحميدة ، وتجدد الأعمال الحميدة ، لتندفع الأمة من خلال أبنائها الصالحين وبناتها الصالحات في بساتين الآمال المرتقبة بمشيئة الله تبارك وتعالى ، تحدوهم القيمُ الرفيفة إلى استعادة ما لهذا الإسلام من مجد وسؤدد وفخار ، يعملون وينتجون ، ويخرجون بالكلية من أسواق البطالة البئيسة إلى ميادين الإنجاز وقطف الثمرات ، فالأمة مؤتمَّة برسولِها عليه الصلاة والسلام الذي أخرجها أول العهد من الظلمات والضلالات ، وجاء بها إلى جادة الريادة والقيادة للناس أجمعين ، يقول تبارك وتعالى : ( قد جاءكم من الله نورٌ وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم ) 16/ المائدة . وبعودة هذا الربيع الميمون ــ وهو عائد لامحالة بإذن الله ــ وأسباب عودته أمانة في أعناق أبناء الأمة جميعا ، تنتهي مزايدات أهل الزيغ والأهواء الذين يبتغون الفتنة بشبهاتهم وتدليسهم على الناس ، من خلال نظريات جوفاء واهية لايعرفون مصادرها ، وإنما هي تجارة الشيطان ، وقد حذَّرنا ربُّنا سبحانه من الاستجابة لها ولأهلها ، ودعانا للاستجابة التي تحيي القلوب ، وتعيد المعاني الإنسانية لبني البشر ، يقول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لِما يحييكم ... ) ويقول عزَّ وجلَّ : ( واتقوا فتنة لاتصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة ... ) ويقول العليم الحكيم : ( يا أيها الذين آمنوا لاتخونوا الله والرسول ، وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) الآيات من سورة الأنفال 24/25/27 .
هوامش :
الحرب الصليبية الأوروبية التاسعة / محمد الفرجاني . الرحيق المختوم للسيرة النبوية ــ للمباركفوري يرحمه الله .
وسوم: العدد 884