ما من شيء أعذب وقعا في نفس المواطن الفلسطيني والعربي من سماعه ما يبشر بقرب زوال إسرائيل ، ويتساءل بعضهم إن كان سيعيش حتى يشهد هذا الحلم القومي واقعا محققا ، مقتنعا في قرارة نفسه بحتمية تحققه . وتشتد هذه القناعة حين تأتي براهين تحقق الحلم من الإسرائيليين أنفسهم أو ممن يناصرهم في أميركا والغرب . وكان احتفال المواطنين العرب والفلسطينيين كبيرا بما كتبه هنري كيسنجر وزير خارجية أميركا الأسبق في 2012 بأن إسرائيل لن تكون موجودة بعد عشر سنوات ، أي في هذا العام . فهل هذا الاستبشار العربي واقعي ؟!
***
في يونيو 1967 ، حين طارت إسرائيل إلى السماء السابعة ابتهاجا واغترارا بانتصارها السريع الحاسم ، كتب المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في هدوء وثقة : " هذه هي بداية نهاية إسرائيل ".
ما يكتبه الإسرائيليون ويقولونه في هذا الشأن يحقق المثل العربي : " أهل مكة أدرى بشعابها " ، فهم أدرى بحقيقة وهنهم الذاتي ، وأقدر على تشخيص أعراضه من أعدائهم العرب الذين لا يتحقق عليهم قول المتني : " أعيذها نظراتٍ منك صادقة = أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم " ، فتخدعهم مظاهر القوة والازدهار الماديين في إسرائيل ، ولا يدركون ما تخفيه هذه المظاهر من أعراض الوهن الأكال النخار الذي نعته كاتب إسرائيلي بالنمل الأبيض . يرون قوتها العسكرية ، ولا يعون دلالة أن هذه القوة انهارت في الأسبوع الأول أمام الجيشين المصري والسوري في حرب اكتوبر1973، ولم ينقذها إلا التدخل الأميركي المباشر في الحرب . وذات وعي الدلالة يغيب في طرد حزب الله لها من جنوب لبنان في مايو 2000 ، ويغيب عن انتصار الحزب عليها أو التعادل معها في حرب 2006 الذي سارع محبوها من العرب إلى التقليل منه رغم اعتراف الإسرائيليين بالهزيمة في تلك الحرب ، وأفزع هؤلاء المحبين لها أن صور سماحة الشيخ حسن نصر الله أمين الحزب اتسع تعليقها داخل البيوت العربية . وغاب الوعي أو غُيب عن دلالة انتصار غزة في حرب الأيام الأحد عشر ، فاستنجدت إسرائيل بأميركا لإمدادها بالسلاح ، فوافقت على مبيعات لها بحوالي 700 مليون دولار . وكانت إسرائيل هي أول من بادر بطلب وقف إطلاق النار . والأقبح أن هؤلاء المحبين سعوا جاهدين لإفراغ انتصار غزة من دلالته على وهن إسرائيل حتى في أهم وأخطر ما تباهي به ، وهو قوتها العسكرية التي أشاعت دائما أنه لا سبيل إلى التغلب عليها . وينخدع بعض العرب وعلى رأسهم محبو إسرائيل بمنجزات استخباراتها الخارجية أو الموساد، ولا يرون دلالة عجزها عن معرفة مكان احتجاز الجندي جلعاد شاليط خمس سنوات ونصفا ، فضلا عن عجزها عن إنقاذه من ذلك المكان ، وهي ما زالت عاجزة عن معرفة مكان أسراها الحاليين في غزة على صغرها وقربها من إسرائيل . ونجاح الموساد في الدول العربية من أكبر دواعيه تعاون مخابرات كثير من هذه الدول معه . وحين كانت مصر معادية لإسرائيل حققت المخابرات المصرية انتصارات عظيمة عديدة في قهر ذلك الجهاز ، ويقدم الإعلامي المصري المبدع الشاب هيثم سليمان فيديوهات متلاحقة على اليوتيوب عن تلك الانتصارات بموضوعية وعلمية حقيقتين بأعلى درجات الاحترام والثقة ، ويعتمد فيها مباشرة على أرشيف المخابرات المصرية . ويعجب محبو إسرائيل العرب الذين فسدت ذاتهم القومية وتآكلت خصائص إنسانيتهم حتى أحبوا أسوأ وأقبح دولة عرفها التاريخ البشري ؛ بتقدم خبرتها الزراعية ، ويسوغون تطبيعهم معها وتقربهم منها برغبتهم في تطوير زراعتهم . وهو تسويغ جاهل وكاذب معا . الشبكة العنكبوتية زاخرة بخبرات ومعلومات لترقية كل أنواع الزراعات والنباتات ، وهي مورد عالمي مفتوح للجميع . وعندما يقول لي شخص في غزة إننا أخذنا نظام الزراعة المحمية من إسرائيل حتى صرنا نزرع محاصيل الصيف وخضراواته في الشتاء أُخبره أن هذا النظام hot house ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر ، وجاء به المستوطنون اليهود إلى فلسطين ، فهو ليس من اختراعهم . وأذكر بأن بلاد الحرمين طورت زراعة القمح في ثمانينات القرن الماضي ، وحققت اكتفاءها الذاتي منه ، وبدأت تصدر الفائض ، فهرولت أميركا للحد من زراعته حتى لا تفقد سوق بلاد الحرمين الكبيرة في استيراد القمح الأميركي . بعبارة موجزة : العرب على اختلاف موقفهم من إسرائيل ، معادين لها أو محبين ، هم أكبر مسهم في صناعة أسطورة بعبها ، وإن كان المحبون بالطبع أكثر إسهاما في تلك الصناعة من المعادين الذين يجتهدون لتقويضها متذبذبين بين الرجاء واليأس . وخير ما نعتمد عليه في الإجابة عن مدى واقعية استبشارنا بزوال إسرائيل هو ما يقوله بعض الإسرائيليين وأنصارهم في الغرب عن قرب هذا الزوال . ونحب أن نبين أن اليأس من نجاح المشروع الصهيوني في فلسطين عبر عنه يهود كثيرون منذ بدايته ، فعارضوه بقوة ، ومنهم عالم النفس النمسوي سيجموند فرويد الذي رفض تأييد المشروع في رسالة شهيرة بعثها إلى حاييم كوفلر رئيس بعثة كيرن هسيود اليهودية في فيينا في فبراير 1930 ، ومن طرائف موقفه إزاء المشروع أنه نفى يهودية موسى _ عليه السلام _ ردا على الذين قالوا من الصهاينة إنهم يريدون دولة في المنطقة التي ينتمي إليها موسى ؛ فقال إن موسى مصري لا يهودي . ومنهم جابوتنسكي الصهيوني العاتي واضع النظرية العسكرية الإسرائيلية الذي وصف اعتقاد اليهود بتخلي الفلسطينيين لهم عن وطنهم بالهذيان . ونجاح المشروع بعدئذ لدعم الغرب له ، ولضعف العرب وخيانة بعضهم ؛ أخمد الأصوات المعارضة له بين اليهود أنفسهم . وما تلا ذلك من أحداث وتحولات في العالم والمنطقة ، وأهمها قدرة المقاومة العربية غير الرسمية على إنجاز انتصارات عسكرية على المشروع ، واشتداد التحدي الشعبي الفلسطيني له في الانتفاضتين ، وتواصل هذا التحدي إلى اليوم مرورا بأربع حروب على غزة كشفت عورات كثيرة فيه ؛ كل ذلك أيقظ الإسرائيليين من غفوتهم وغفلتهم ومن سكرة الإعجاب بالذات والثقة المترهلة فيها ، فكثر كلامهم عن قنوطهم من ديمومة مشروعهم ، وتغلغلت هذه الكثرة في كل مستويات دولتهم ، والإنسان في النهاية هو الإنسان . لا أحد ، فردا أو جماعة ، يستطيع العيش في بيئة حروب لا تنتهي ، أو مثلما يقول التعبير الفلسطيني العامي : " جاك العو ( الكلب ) ، جاك الذيب " . ومن كلامهم القانط ما قاله الكاتب الجريء أري شبيط عن لفظ إسرائيل لأنفاسها الأخيرة ، ومنه دراسة " مركز تراث بيجن " التي تبين رغبة 59 من الإسرائيليين في الهجرة . ومنه ، ولو بصورة ليست مباشرة ، الشك العميق لديهم في الانتصار على الفلسطينيين الذين يفوقونهم بين النهر والبحر بمليوني نسمة ، ويؤدي هذا الشك إلى الافتراق بين موقف قيادة دولتهم وبين مستوطنيها . الدولة ترفض دولة فلسطينية ، ومستوطنوها يؤيد 53 % منهم هذه الدولة أملا في الخلاص من دوامة الشك في مصيرهم . وفي الحق لا أمل لهم . بذور انهيار دولتهم مستقرة في أحشائها انبثاقا من خطأ وخطيئة التأسيس على قواعد لا وجود لها ، وما أسس على باطل حتما زائل ، ووقت الزوال قضية نسبية قربا أو بعدا ، ودائما يقول الإسرائيليون إن أطول دولة لهم عمرا هي دولة الحشمونائيم التي عمرت 80 عاما ، وتحدث نتنياهو عن مسعاه لجعل إسرائيل تعمر أطول مما عمرت دولة الحشمونائيم ، ويسبح مسعاه ضد تيار حتمية زوال إسرائيل بالهجرة المعاكسة التي توقعت حدوثها 16 وكالة استخبارات أميركية في تقرير مشترك في 2012 ، وهو التقرير الذي اتفق معه هنري كيسنجر