التنشئة بين الوزير «نظام الملك» وقانون الطفل الأردني
عندما يُذكر اسم صلاح الدين الأيوبي، يتبادر إلى الذهن على الفور، إنقاذ المنطقة من خطر النفوذ الباطني، المتمثل في حكم ما يعرف بالفاطميين، واسترداد المسجد الأقصى من أيدي الصليبيين، بعد أن ظل أسيرا قرابة المئة عام.
وفي كل معركة، جنود مجهولون، والمشروع الذي ابتدأه نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي، كان له ذلك الجندي المجهول، الذي خطط ونفّذ مشروعا إصلاحيا إحيائيا، استفاد منه صلاح الدين في حركة التغيير والتحرير، ذلك الجندي هو الوزير السلجوقي أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، المعروف بـ»نظام الملك».
كان نظام الملك، وزيرا للسلطان ألب أرسلان، ثم لابنه ملكشاه، وهم من السلاجقة الذين كان لهم الحكم الفعلي والثقل السياسي والعسكري في أواخر عهد الدولة العباسية، التي أصابها الضعف الشديد حتى بدت سلطتهم شكلية، في وقت كانت المنطقة خاضعة لتسلّط البويهيين وتآمرهم على الخلافة، ونشرهم الفتن والاضطرابات في حاضرتها، كما كانت المنطقة مسرحا لأنشطة شخصيات باطنية لامعة كالحسن الصباح زعيم الحشاشين. «مُلكٌ هو نظامه، وسلكٌ هو واسطته»، بذا وصف الإمام السبكي، الوزير نظام الملك، تعبيرا عن كونه الدولة والدولة هو، فكانت إليه التدابير الفعلية لشؤون البلاد، وتوجهت إليه آمال الأمة، وتعاطف معه علماؤها وأيدوه، ولعل من أبرزهم الإمام الجويني، الذي صنف كتابه الشهير «الغياثي» متوجها به إلى نظام الملك، وهو كتاب قل مثيله في فقه السياسة الشرعية وشؤون الحكم، وضمّنه الجويني شيئا غير مسبوق، وهو مناقشة شؤون الدولة حال خلوّها من السلطان، بما يمكن أن يُسمى الفقه الافتراضي أو المستقبلي. أعاد نظام الملك التوازن للدولة بتحقيق الانسجام بين المذاهب، وتبني وجهة نظر تعلو على التحيز الفئوي، وكانت مجالسه عامرة بالاتجاهات الحنبلية والأشعرية والماترودية، بعد أن كانت المعارك تقوم ولا تقعد بين أصحابها. لن يسعنا المقام في سرد ترجمة هذا الوزير الفذ ومشروعه الإصلاحي في الجوانب السياسية والإدارية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية، إلا أن أهم ما ارتكز عليه مشروعه الإحيائي هذا، هو الاهتمام بالناشئة، عبر إنشاء ما عرف بالمدارس النظامية، التي مثّلت قوام نهضة علمية، جعلت وزير الملك في مصاف رموز التجديد الحضاري، وهو بذلك حوّل التعليم من مؤسسات أهلية، كما هو السائد حينذاك، إلى مؤسسات حكومية ترعاها الدولة وتشرف عليها، وتوقف عليها الأوقاف وتضع لها هيئات التدريس والمناهج الموحدة المعتمدة.
امتدت هذه المؤسسات العلمية الضخمة في ربوع البلدان العربية الإسلامية، فيقول الإمام السبكي، إنه بنى مدرسة ببغداد، ومدرسة ببلخ، ونيسابور، وبهراة، وأصفهان، والبصرة، ومرو، والموصل، وآمل طبرستان. ويلاحظ أن هذه المدن كانت ذات كثافة سكانية عالية، ومراكز للتوجيه الفكري، وكأنه أراد أن تكون منطلقات للتأثير في العالم الإسلامي. أوقف نظام الملك على هذه المؤسسات العلمية الأوقاف العظيمة، قدرت سنويا بما يتخطى مئة مليون دولار (في حساب اليوم)، وكان يدقق بشدة في اختيار طواقم التدريس، ووفر المساكن للطلاب، حتى قيل إن كل طالب كانت له غرفة خاصة، كما أنشأ لها المكتبات اللازمة لتوفير المراجع العلمية. لقد سبق نظام الملك التجارب الهندية والماليزية المعاصرة التي يشار إليها بالبنان في النهضة التعليمية، حيث ربط التعليم بسوق العمل، فنتاج هذه المؤسسات التعليمية زودت الأجهزة الحكومية بالموظفين والمتخصصين في الدوائر المختلفة، وانتشر هؤلاء في العالم الإسلامي، مدججين بالوعي اللازم لهذه الفترة، في التصدي للأفكار الدخيلة والحركات الباطنية التي فتتت الأمة. أسهمت هذه المؤسسات النظامية في إمداد العالم الإسلامي بالكوادر العلمية والتربوية والسياسية والقيادية، التي تأسس عليها مشروع صلاح الدين في تحرير القدس ومواجهة النفوذ الباطني.
إننا إذ نترنم بالتجارب النهضوية المعاصرة المختلفة، نتغافل عن هذا المشروع الإحيائي الضخم الذي قاده نظام الملك، وأدى إلى تغيير جذري في الأمة، كان من ثمراته استرداد القدس، واسترداد الجامع الأزهر من عبث الباطنيين، ليكون منارة وجامعة إسلامية عالمية، فهذه التجربة أحق بالدراسة، لأنها نشأت في واقعنا نحن، وقابلة للتكرار إذا ما وجدت القيادات والحكومات الحريصة على التغيير، لا التي تتمحور حول بقائها في السلطة بمطية التبعية والانكسار. هذا المشروع الإحيائي لنظام الملك الذي ارتكز على إحداث نهضة تعليمية علمية بالاهتمام بالناشئة، يقودني رغما عني لواقع الطفل العربي في أمتنا، في ما يراد له، ويراد منه، وفي ما يمارس عليه من تمرير لأجندات دولية تريد منا استلاب أطفالنا. أتحدث على وجه الخصوص عن قانون الطفل في الأردن، الذي أثار جدلا واسعا، بين مؤيدين ومعارضين، خاصة بعد حلقات نشرها الدكتور إياد قنيبي عبر قناته الرسمية على يوتيوب، ورأى فيها أن مشروع القانون يستند إلى اتفاقية حقوق الطفل التي وقعتها الأردن مع الأمم المتحدة، وهي اتفاقية تتضمن العديد من الإشكاليات المعارضة للإسلام، وتسلخ الطفل من هويته، وتفتح له آفاق الإباحية والتحلل من القيم الدينية والأخلاقية، وتنزعه من وصاية المنزل، كحق الطفل في التعليم الجنسي الشامل، واعتبار ممارسة الجنس من دون زواج حقا من حقوقه، ومنحه الحق في تغيير دينه. استمعت جيدا إلى حلقات الدكتور قنيبي، فرأيت أنها مادة لا تستند إلى تكهنات، ولا السقوط في نظرية المؤامرة، لأن الرجل بنى حديثه على أمرين:
الأمر الأول ما تعنيه حقوق الطفل المذكورة في منظمات الأمم المتحدة والمؤسسات التي ترتكز عليها في تقرير هذه القوانين، وقام بعرض التوصيات والمصنفات والمناهج والمواثيق التي تشرح هذه البنود، بما لا يترك مجالا للتأويل.
الأمر الثاني: عدم إمكانية الدول العربية الموقعة على الاتفاقية، الحيدة عن تنفيذ البنود، أو الالتفاف عليها، حيث تخضع لإشراف منظمات الأمم المتحدة.
وبالتالي فإن تضمين الدساتير لقانون الطفل، وفقا لإملاءات الأمم المتحدة بكتابة نصوص موهمة، لن يجدي في منع تمرير ما يراد للطفل من ثورة مبكرة على الإطار الديني والقيمي والأخلاقي والعرفي لمجتمعه. القانون الذي يجري تمريره في الأردن، وغيرها من الدول العربية، محصلته النهائية وآثاره التراكمية يمكن حصرها، في أنه سوف يكون لدينا جيل مصاب بالسعار الجنسي والإباحية المطلقة، بعد القفز على حواجز الدين والقيم والأخلاق والتقاليد، باعتبارها قيما بالية ظلامية، لا يلقي بالا لضوابط تشريعية، ولا لنظام أخلاقي أسري، ويتمحور حول نفسه وأهوائها فحسب. قطعا، المجال لا يتسع لمناقشة هذه المشكلة، لكنني أتساءل: لمصلحة من تتم الاستجابة لضغوط المنظمات الدولية لتمرير مثل هذه القوانين في بلادنا، التي تصادم الدين والتقاليد والأعراف السائدة؟ لماذا نتماهى مع هذه الاتفاقيات المدمرة لمجتمعاتنا في نطاق الأسرة والطفل والمرأة على هذا النحو؟ مسؤولية كل أصحاب الكلمة والمثقفين وقادة الرأي وأصحاب التوجيه الفكري، أن يعرّفوا الجماهير بهذه الكارثة، والضغط باتجاه منع تمرير مثل هذه القوانين التي تفتك بمجتمعاتنا في سياق خطة شاملة لهيمنة النموذج الغربي. وأقول للمؤيدين لمثل هذه القوانين، واتهام غيرهم بالوقوع تحت سطوة نظرية المؤامرة، لا مجال لإحسان الظن في بنود نضعها بشكل موهم، فما الذي يمكن أن يفهم أو يترتب على مفهوم الصحة الجنسية والتثقيف الجنسي للطفل؟ وما جدواه، وهل كانت كل هذه الأجيال السابقة عبر التاريخ تلقت ثقافة جنسية حتى تعيش حياتها كما ينبغي؟ لا مجال لإحسان الظن في تجييش الأمم المتحدة مؤسساتها المختلفة في تعميم بنود هذه الاتفاقية في ربوع أمتنا، واتخاذ التدابير العقابية اللازمة للتقصير في تنفيذها، وكيف نضع إدارة شؤون الطفل والمرأة والأسرة بيد غيرنا؟ بيد منظمات نعلم جيدا كيف نشأت، ولمصلحة من نشأت، ولصالح من تعمل، وبأي أيدٍ تُدار، فكيف لقلوبنا أن تهدأ وتطمئن لمثل هذه القوانين وتلك الأيدي، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 994