تسييس الأدب (وغزو الفكر الإديولوجي)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

-1-

تحدثنا في المقالات السابقة عن قيمة الالتزام في الأدب، وعن وظيفته الحقيقيَّة، كما يرى منظِّروه. ولم نسُق الحديث عن (الالتزام الوجوديِّ) في تلك المقالات إلَّا على سبيل النموذج لنزعة الالتزام في العصر الحديث، التي لم تقتصر على (أوربا)، بل غزت العالم، ومنه العالم العَرَبيَّ. في عصرٍ طغَى فيه التسييس، والأَدلجة، وتوظيف الطاقات لخدمة دولٍ أو أحزابٍ أو تيَّارات. وإلَّا فإنَّ للأديب وظيفته التي يعرفها جيِّدًا، منذ كان الأدب، لُحمتها الحُريَّة الفرديَّة، وسَداها استشعار المسؤوليَّة الإنسانيَّة والثقافيَّة، بعيدًا عن الاستقطاب، تحت أيِّ مظلَّةٍ أو شِعارٍ، خضوعًا للوصايا والتوجيهات. تلك كانت هويَّة الأديب التي ما انفكَّ يلتزم بها لا بسِواها؛ إنْ هو خرج عن التزامه ذاك، أو أُخرِجَ، استقال عن هويَّته، ليتحوَّل إلى موظَّفٍ في شركةٍ قابضة، بمرتبة بوقٍ ترويجي!

-2-

في عام 1985 عُقِدت ندوة حول "الالتزام في الأدب الإسلامي" في إحدى الجامعات، تسعى- كما أعلنتْ- إلى رسم "الخطوط العريضة لمذهبٍ إسلاميٍّ في الأدب والنقد"(1). وهنا يَنْبُت لنا مصطلحٌ جديد، ومذهبٌ خاص، ونظريَّةٌ مدَّعاة، تَحتكِر لتُقصِي. على الرغم من أنَّ الشِّعار المرفوع هو أنَّ الإسلام جاء إلى الناس كافَّة، والاتِّصاف به للمسلمين جميعًا، لا لفئة دون أخرى، أو لتيَّار، أو توجُّه، أو جماعة. إنَّ المصطلح، من أساسه، مغالطةٌ كُبرى، تحاكي تسميات التيَّارات الأدبيَّة الإديولوجيَّة، الغربيَّة أو الشرقيَّة، الفاشلة أدبيًّا. لذلك جاء المصطلح بدعة، لا سابقة لها في التاريخ الإسلامي. وكان يمكن أن يُسمَّى هذا الاتجاه بـ"أدب الدعوة الإسلاميَّة"، مثلًا. لولا هوس التصنيف، الذي ينطوي على الاستئثار، ولا يبرأ من اتهام الآخَر. على أنَّه قد أوقع هذا التوجُّه نفسَه في مأزق التصنيف، لا مع المعاصر فحسب، ولكن مع التراث أيضًا؛ من حيث إنَّه يفرض التساؤل: تُرَى هل نَعُدُّ شاعرًا كـ(المتنبِّي) إسلاميًّا، فضلًا عن (أبي تمَّام)، أو (أبي نواس)؟! وهل سُمِّي شاعر الرسول، (حسان بن ثابت)، "شاعرًا إسلاميًّا"، أو "شاعر الإسلام"؟ أَ وَحُرِم من ذلك النعت شاعر كـ(الحطيئة)، أو (ابن مُقْبِل)، أو (النجاشي الحارثي)؟ كلَّا! وإنَّما تلك ردَّات فعلٍ متأخِّرةٍ لبعض التصنيفات الإديولوجيَّة المنقرضة- إبَّان ما سُمي "الصحوة الإسلاميَّة"- مثل (الأدب الشيوعي/ الاشتراكي)، أو (الأدب الوجودي). ولقد فَطِنَ منظِّرو هذا التيار الأخير إلى ضرورة الحُريَّة الفرديَّة في الأدب، فنبَّهوا إلى أنَّ خدمة الأدب لقضيَّةٍ ما يجب أن لا تكون إلزامًا، بل التزامًا، نابعًا من الذات المبدعة. وكان (سارتر) لا يرى وجوب الالتزام على الشاعر، بل على الناثر. وكذا كان بعض نُقَّادنا العَرَب القدماء ينبِّهون إلى: أنَّ "الأدب بمعزلٍ عن الدِّين". ومن هؤلاء (القاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني)(2)، الذي قال: "لو كانت الدِّيانة عارًا على الشِّعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لِتأخُّر الشاعر، لوجب أن يُمحَى اسمُ أبي نواس من الدَّواوين، ويُحذَف ذِكْرُه إذا عُدَّت الطَّبَقات، ولَكان أَولاهم بذلك أهلُ الجاهليَّة، ومَن تشهد الأُمَّة عليه بالكُفر، ولوَجَبَ أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعري وأضرابُهما، ممَّن تناول رسولَ الله، صلى الله عليه وسلَّم، وعاب من أصحابه، بُكْمًا خُرسًا، وبِكاءً مفحمين؛ ولكنَّ الأمرَين متباينان، والدِّين بمَعزلٍ عن الشِّعر." إنَّ الأدب يجب أن يكون أدبًا أَوَّلًا وأخيرًا، ثمَّ من بعد ذاك تأتي مهمَّاته الأخرى. هذه طبيعة الأدب، وتلك وظيفته.(3)

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) (انظر: (الأربعاء 20 رجب 1405هـ= 10 أبريل 1985م)، (مجلَّة "اليمامة"، (الرِّياض)، ع849)).

(2) (1966)، الوساطة بين المتنبِّي وخصومه، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم وعلي محمَّد البجاوي، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي)، 64.

(3) (انظر حوارًا أُجرِي معي حول هذا: (الجمعة 22 جمادَى الآخِرة 1428هـ= 7 يونية 2007م)، "الدكتور عبد الله الفـَيفي: مصطلح (الأدب الإسلامي) من أساس وضعه مغالطة كُبرى وبدعة لا سابقة لها في التاريخ الإسلامي"، أجراه: ساري الزهراني، (ملحق "الرسالة"، صحيفة "المدينة"، (جُدَّة)، ع16130): https://bit.ly/3jIDURU

وسوم: العدد 995