ما هي وضعية التدين في المغرب ؟
بداية نقف عند لفظتي " وضعية " ، و " تدين " . أما لفظة " وضعية ،وهي لغة مصدر صناعي ، تدل على الحال التي يكون عليها من تضاف إليها . وقد تلحقها هي الأخرى نعوت من قبيل وضعية جيدة أو حسنة ، أو وضعية سيئة ، أو وضعية صعبة ... إلى غير ذلك من النعوت سواء كانت مدحا أم قدحا .
وأما لفظة " تدين " ، فتدل على اتخاذ الإنسان دينا معينا يدين به . ولا يكون المتدينون بدين معين على شاكلة واحدة ، بل يكون تدينهم متفاوت الدرجات على قدر التزام كل واحد منهم بضوابط الدين الذي يدين به ،شريطة حسن استيعابها أولا ثم حسن الانضباط لها .
والحكم على تدين الأفراد ليس بالدقة التي يعتقدها كثير من الناس، لأنه في الغالب مجرد انطباع ينطلق مما قد يتكون لدى أصحابه من قناعات شخصية تتأجح بين حسن ظن في المتدينين أوسوئه ، ولهذا يقال غالبا في الحكم على تدين الشخص : " نحسبه مؤمنا ولا نزكيه على الله عز وجل" ، وهذا يدل على وعي بصعوبة أو لنقل باستحالة الحكم على تدين الناس . وقد يحاول البعض التشكيك في هذه الحقيقة ممن يستشهدون بالحديث الذي رواه الترمذي وأحمد في مسنده وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم : " إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ، فإن الله تعالى يقول : (( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة )) "، ودون الخوض في درجة صحة هذا الحديث، يبقى المقصود هو أن الشهادة على إيمان مرتادي المساجد إنما هي حكم على ظاهرهم ، والله يتولى سرائرهم . ولا يستطيع أحد الجزم بحكم دقيق أو قاطع على طبيعة تدين مرتادي المساجد من حيث الكمال أوالنقص أو من حيث الحسن أوالسوء .
وما دام الحديث الشريف قد ربط بين ارتياد المساجد، وبين الشهادة بالإيمان على من يرتادونها استنادا إلى قول الله تعالى والذي قد جاء في أسلوب حصر ،فلا بد من وقفة عند المساجد التي يتفاوت حجم ارتيادها ، والذي يعزى لعدة أسباب يكون بعضها قابلا للتبرير كوجودها في أماكن نائية أو قليلة ساكنتها ، بينما توجد أسباب أخرى لها طابع الخصوصية والمحلية ، ذلك أن المساجد المجاورة للأسواق يكون حجم ارتيادها في بعض الصلوات أعلى ما دامت الأسواق مكتظة ، بينما يقل عند إغلاقها . ومما قد يتحكم في حجم الارتياد كثرة المساجد في مدن وقرى بعينها دون غيرها. وقد تكون لحركية الناس بسبب تنقلهم اليومي بين مساكنهم ومقار عملهم تأثير على حجم ارتياد مساجد دون أخرى . وتوجد أسباب أخرى لا يمكن حصرها، بل يمكن الإشارة إلى بعضها كعلاقة رواد المساجد بالأئمة والخطباء حيث يكون حجم ارتيادها عاليا إذا كانت هذه العلاقة جيدة ، أما إذا ساءت لسبب أو لآخر، فإن ذلك ينعكس حتما على حجم الارتياد . وقد يكون حسن صوت وأداء المقرئين أو كفاءة الخطباء والوعاظ ، وحسن تبليغهم سببا في ارتفاع حجم الارتياد . وقد يكون جمال الهندسة المعمارية لبعض المساجد ، وجودة مرافقها ، ونظافتها سببا في كثرة الإقبال عليها . ومن أسباب كثرة الإقبال على ارتيادها أو قلتها أيضا تجاورها. وقد تلعب بعض العصبيات دورا في التأثير على حجم الارتياد حتى أن بعض المساجد تشتهر بأسماء قبائل عوضا عن الأسماء التي تطلقها عليها الجهات المعنية .
ومع أنه لا يمكن إنكار دور ارتياد المساجد في تدين الأفراد ، فإن ذلك لا يعني أنه المعيار الوحيد من أجل الحكم على وضعية التدين في بلادنا والجزم بالقول هي سئية أو هي جيدة ؟ علما بأن المعيار الأنسب للحكم على التدين هو السلوك اليومي حيثما حل المتدينون ، فهو المحك الذي يكمّل شهادة ارتياد المساجد . وقد يحصل المتدينون على شهادة ارتيادهم المساجد ولكن تنقضها سلوكاتهم ومعاملاتهم عند المحك .
وهنا نشير إلى أن الحكم الذي ورد في كلمة وزير الأوقاف، وقد ألقها بمناسبة حديثه عما سمي خطة تسديد التبليغ ، و الذي مفاده أنها توجد هوة بين الدين في بلادنا وبين تدين المواطنين ، هو حكم لا ندري هل استند على دراسة علمية ميدانية دقيقة وذات مصداقيا أم هو محض انطباع كالذي يصدر عن عامة الناس حين يتبرمون من بعض السلوكات الشائعة في بلادنا فيقولون " ما بقي دين أو ذهب الدين " وهم يقصدون التدين ، وإلا فالدين باق ،ولا زوال له حتى وإن زال التدين .
وعلى افتراض أن منطلق الوزير في الحكم على اتساع الهوة بين الدين والتدين في البلاد، كان هو الواقع المعيش بما يعج به من سلوكات منحرفة عن الدين ، وليس حجم ارتياد المساجد، فأية دراسة يمكنها الإلمام الدقيق بهذا الواقع ، وأية صدقية لهذه الدراسة ؟ فهل أخذ الوزير في الاعتبار انشغال الناس بارتياد الأسواق، والمقاهي ،والمطاعم ،وأماكن الاستجمام ، وأماكن اللهو على اختلافها بما فيها أماكن الإقبال على المحرمات ... وغيرها أثناء أوقات أداء الصلوات كي يصدر حكمه ؟ أو أنه اختبر الناس في بيوتهم وأعمالهم ووظائفهم .... ؟
ومع صعوبة الجزم بخصوص وضعية التدين في بلادنا بسبب تداخل المؤثرات فيها ، فلا يمكن لأحد أن يحدد جازما هذه الوضعية بدقة ، ومن ثم لا يمكنه أن يتحكم فيها عن طريق اقتراح خطط مهما كانت يجزم قطعا بنجاعتها ، كما هو الحال في خطة تسديد التبليغ على سبيل المثال أو غيرها ما لم يتوفر شرط يعتبرغاية في الأهمية ، وهو أولا استعادة الوزارة الوصية على الشأن الديني ثقة المواطنين فيها والتي فقدت بسبب ما انطوت عليه عبارة الوزير " تسديد التبليغ " إذ التسديد يستدعيه بالضرورة الانحراف والاعوجاج . فهل قصد الوزير انتقاد التبليغ الذي هو مهمة ومسؤولية الخطباء والوعاظ ، وحملهم وحدهم المسؤولية عن اتساع الهوة بين الدين وبين التدين ؟
وهل الخطباء والوعاظ في بلادنا لهم هامش حرية التعبير التي يتمتع بها غيرهم من الحداثيين والعلمانيين الذين يفسح لهم الإعلام المجال واسعا لتسويق أفكارهم المناهضة للدين والتدين على حد سواء . ألم يتجاسر إنسان ـ لا يتجاوز مستواه التعليمي السنة الثالثة إعدادي ـ على أمير المؤمنين في الحديث الإمام البخاري رحمة الله عليه ، وجعله مجرد أسطورة ، و مع ذلك وجد الحرية الكاملة ، والدعم الكامل ليقول وينشر ما شاء وفق هواه ، بل تبوأ مكانة إلى جانب من أوكل إليهم النظر في مهمة إصلاح مدونة الأسرة ، وغيره كثير ، في حين يتعامل وزير الشأن الديني مع الأئمة والخطباء والوعاظ بمنتهى صرامة ، فيصرفهم بجرة قلم يضخ مداده على ورقة فترسم عبار ة إدانة مصحوبة بقرار توقيف من كل نشاط ديني . فأي مكيال هذا الذي يكال به في بلادنا يقول الحداثيون أو العلمانيون ما يشاءون ، ومتى يشاءون ، وأنى يشاءون دون رقابة أو عقوبة ، في حين يحاسب الخطباء الوعاظ بالعزل لمجرد إنكار منكرات صارخة هي من أفعال أو أقوال المتجاسرين على الدين، والتي لا يتناطح كبشان في كونها منكرات تهدد التدين في الصميم. وأي تسديد يكون للتبليغ وأفواه الخطباء والوعاظ مكممة ، وحرية التعبير عندهم مصادرة ؟ وأي تدين يسدد والحالة هذه ؟ ولم يكتف وزير الشأن الديني بتكميم أفواه الخطباء والوعاظ ، ومصادرة حرية تعبيرهم، بل فكر في تقنين خطب الجمعة عن طريق إصدار خطب من شأنها قتل الإبداع فيهم، علما بأن الخطابة فن يتطلب الموهبة المبدعة ، وليس كل من تسند إليه الخطابة خطيب أو يتوفر على هذه الموهبة كما يخيل للوزير أو لبعض بطانته الذين يتعمدون استبدال المواهب والكفاءات بشرائح من حفظة كتاب الله تعالى ـ مع كامل الاحترام لهؤلاء تقديرا للقرآن الكريم ـ وذلك في محاولة لمحاصرة بطالة هؤلاء التي قد تحرج الوزارة الوصية على الشأن الديني لكن على حساب الخطابة .وربما كان إسناد الخطابة لهؤلاء من أهداف أو مأرب يغض من يشرفون على بعض معاهد التعليم العتيق ، وهم يريدون من وراء ذلك إعطاء انطباع بأن خرجي هذه المعاهد هم من يصلحون للخطابة والوعظ دون غيرهم حتى لو شهدت لهؤلاء شواهدهم العلمية والمهنية بأنهم أولى من غيرهم بالخطابة والوعظ ،علما بأن الخطابة فن لا بد لها من مواهب وكفاءات وتميز . وهذا الرهان الذي رهن عليه أصحاب هذه المعاهد له أثر واضح في ضحالة التبيلغ الذي تروم خطة الوزير تسديده ، وهم يرتاحون كلما سلط الوزير سوط العزل على ذوي الكفاءات من خطباء ووعاظ ،لأن في رحيلهم شغور مناصب ينقضون عليها مستغلين مناصبهم في الوزارة الوصية على الشأن الديني بمحسوبية صارخة ومدوية ويسندونها لمن شاءوا دون أدنى اعتبار لكفاءة أو موهبة . ولئن أثبتت الأقلية من خريجي التعليم العتيق كفاءة خطابية جيدة لا تنكر، فإن الأكثرية لا صلة لها بالخطابة ، ولو رصدت لها لجان تفتيش كما هو الحال في وزارة التربية الوطنية على سبيل المثال لا الحصر، لكان في إسناد الخطابة لهما قول آخر . وفي هذا الصدد أنصح الوزارة الوصية أن تعتمد مركزا وطنيا لتكوين الخطباء والوعاظ، لا يلجه إلا أصحاب المواهب والكفاءات الذين يتقنون هذا الفن ، كما أنصحها باعتماد لجان تفتيش نزيهة بعيدة عن المحسوبية والزبونية ، والمجاملة ،وعن عقلية الشاعر الجاهلي :
هل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وأخيرا، نكرر أن وضع التدين في بلادنا ليس من السهل تحديده، بل لا بد من مراجعة كل المؤثرات فيه، وأول ما يجب أن يراجع هي وضعية الوزارة الوصية والتابعين لها، لأنه لا تسديد للتدين دون تسديد التبليغ ، ولا تسديد للتبليغ دون تسديد للأوصياء على من يبلغون ، والذين يكممون أفواه المبلغين ، ويصادرون حرياتهم في التبليغ. اللهم قد بلغت ، فاشهد .
وسوم: العدد 1086