إرث «الحركة التصحيحية»: ما تبقى من جثة البعث الهامدة
بعد حلقة أولى، ابتدأت نقاش قرارات صدرت عن إدارة العمليات العسكرية في سوريا، وتناولت إرث «الحركة التصحيحية» من زاوية جيش النظام كما أعاد حافظ الأسد تركيبه في أعقاب انقلابه على رفاقه يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1907، وورّثه لابنه بشار، سنة 2000؛ وحلقة ثانية تناولت الأجهزة الأمنية المختلفة، تحت إدارة الأسد الأب والابن؛ هذه حلقة ثالثة تتناول حزب البعث العربي الاشتراكي، في ضوء قرار حلّه رسمياً كنقطة انطلاق. ولكن، أيضاً، باعتباره ظلّ جثة هامدة خلال 14 سنة من عمر الانتفاضة الشعبية، ومُسخ أو تحوّل عشرات الآلاف من أعضائه إلى مخبرين أو عناصر أجهزة قمع واستبداد ونهب وفساد أو مجندين في ميليشيات فاشية و/أو طائفية تخدم النظام وتنخرط في شبكات التهريب وجباية الأتاوات وإنتاج وتصدير الكبتاغون…
وليس مضحكاً فحسب، بل مدعاة تأمّل فريد في أقدار تمزج المهزلة بالمأساة ،أنّ الحزب استبق، بنحو 50 يوماً، قرار الحلّ الرسمي، فلم ينتظر أكثر من 4 أيام أعقبت انحلال نظام «الحركة التصحيحية» وفرار بشار الأسد حتى اتخذ قراراً ذاتياً بـ«تعليق العمل الحزبي بجميع أشكاله وتسليم جميع الآليات والمركبات والأسلحة إلى وزارة الداخلية» فضلاً عن إجراءات أخرى تضمنت تسريح جميع الكوادر المتفرغة وإعادة الموظفين المعارين والمنتدبين، ووضع جميع أملاك وأموال الحزب تحت إشراف وزارة المالية، وتحويل العائدات إلى مصرف سوريا المركزي. وهذا، في نهاية المطاف، «جيش» من المرتزقة والانتهازيين الوصوليين والعملاء والفاسدين، يقدّر البعض أنّ أعداده وصلت إلى 900,000 ألف، والبعض يذهب إلى 1,200,000عضو أو نصير أو متفرغ.
هذا المآل هو الطرف المأساوي الظاهر من جبل جليد حزب سياسي بلغ من العمر 77 سنة ساعة تجميد أنشطته ذاتياً، وحكم في سوريا والعراق على مدى عقود، وانتشرت فروعه وأجنحته في مشارق الأرض العربية ومغاربها؛ إنْ لم يكن بسبب المزيج القوموي الميتافيزيقي وشبه/ الشوفيني شبه/ الفاشي الذي ابتدعه مؤسساه، ميشيل عفلق وصلاح البيطار، حين اختلطت أفكار ساطع الحصري مع مثالية فيخته وسوبرمان نيتشه؛ فعلى الأقلّ من باب الجاذبية، الطنانة الجوفاء والشعبوية الخادعة، لشعار «أمّة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة»؛ أو تلفيق غوغائي عالية التخدير، مثل «العربي سيّد القدر» حسب زكي الأرسوزي أحد الآباء المؤسسين للحزب.
طرف المهزلة، من جبل الجليد/ الجثة الهامدة إياها، تولاه الأسد الابن نفسه، بوصفه الأمين العام للحزب، خلال سلسلة اجتماعات عقدتها كوادر الحزب في أيار (مايو) من العام ذاته الذي سجّل انطواء صفة الحزب، ونظام «الحركة التصحيحية». يومذاك، وبعد أن انتُخب أميناً عاماً، وعيّن 45 عضواً من أصل 125 أعضاء اللجنة المركزية الموسعة؛ انخرط الأسد في تنظير، سقيم كالعادة وأجوف لا يبلغ حتى سوية الترهات، فامتدح تطوير عمل الحزب بوصفه «حاجة حسية ووطنية وطبيعية» مستذكراً أنّ «سياسات الحكومة يجب أن تنبثق من رؤية الحزب، من دون أن يلغي أحدهما الآخر».
بعض المهزلة كان يتبدى أوّلاً في اجتماعات أقرب إلى كرنفالات الضحك على الذات، قبل خداع أبناء سوريا من جهة أولى؛ ولأنها أيضاً، من جهة ثانية، كانت تردد أصداء ارتطام تنظيرات الأسد بعضها ببعض، خصوصاً تلك التي توهمت، ذات يوم، البناء على خديعة 2012 بصدد حذف مادة في دستور أبيه تنصّ على أنّ حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع؛ ثم انقلبت على التوهم ذاته، حين سعت إلى إعادة تكريس سلطة الجثة الهامدة من خلال انتخابات حزبية داخلية، لم تلحظ حتى تكرار هذا أو ذاك من سيناريوهات التزييف المعتادة.
لعلّ تاريخ هذه الجثة الهامدة لا يُستكمل، كما يليق به، إلا إذا ذًكر التعديل الجوهري الذي أدخله الأسد الأب على بنية الحزب المجتمعية، وربما الديمغرافية والمناطقية والإثنية والطائفية
وليس بعيداً عن اختلاط المأساة بالمهزلة ذلك «التنظير» لوذعيّ اللغو والترهات بدوره، الذي خرج به الأسد الابن نفسه في خطاب مشهود أواخر العام 2011، حين كشف عن خطط لتجييش المواطنين المدنيين، ليس اعتماداً على ما اعتاد حزب البعث تصنيفه تحت مسمى «المنظمات الشعبية» أي اتحادات الطلاب والشبيبة والعمال والفلاحين ونقاباتها، فضلاً عن موظفي فروع وشُعَب الحزب في المناطق الأكثر التفافاً حول النظام، فحسب. بل كذلك ضمن تشكيلات مستحدثَة خصيصاً لهذه الغاية، فاشية في الشكل كما في المحتوى. ولن يعفّ النظام عن استخدام طرائق الفرز الدقيقة، الطائفية أو المناطقية أو العشائرية، التي أتاحت تشكيل تلك الوحدات المدنية، وعسكرتها وتسليحها وتدريبها، بحيث اهتدت بفلسفة معمار الفرقة الرابعة إياها، إذْ أنها في نهاية المطاف عملت فعلياً تحت إشراف ضباط تلك الفرقة، مباشرة أو بالإعارة والتكليف.
وكان الأسد الابن قد أطلق صفة «القفزة الكبيرة» على مؤتمر البعث القطري العاشر، أواسط 2005، فاتضح سريعاً أنه لم يكن قفزة بأيّ معنى، حتى إلى وراء! فالمؤتمر ذاك شدّد، في الشؤون الداخلية وحدها، على «تنظيم علاقة الحزب بالسلطة» ودوره في «رسم السياسات والتوجهات العامة للدولة والمجتمع» و«تحديد احتياجات التنمية». وفي مسائل «تطوير النظام السياسي وتوسيع دائرة العملية السياسية» أوصى المندوبون بمراجعة أحكام الدستور «بما يتناسب مع التوجهات والتوصيات الصادرة عن المؤتمر»؛ وأكدوا «أهمية دعم أجهزة السلطة القضائية واستقلاليتها» و«تكليف الحكومة بوضع آليات ناجعة لمكافحة الفساد، والحدّ من ظاهرة الهدر في المال العام». وهكذا: في القاعات كان الهذر والإطناب اللفظي والارتزاق والتجييش، وفي الشارع الشعبي كان البؤس والقهر والاستبداد والفساد.
وأمّا في الأصل، أي خلال عهد الأسد الأب والمؤتمر القطري السابع أواخر 1979، فقد كان رفعت الأسد، شقيق رأس النظام وقائد «سرايا الدفاع» وجزار سجن تدمر، هو الذي تولى (من موقع عضو القيادة القطرية للحزب) التبشير بالفاشية الأكثر وضوحاً في حينه: مَنْ ليس مع «الثورة» هو في صفوف أعدائها حكماً، والحاجة «الثورية» تقتضي شنّ حملة «تطهير وطني» ترسل المعارضين إلى معسكرات عمل وتثقيف في الصحراء. بذلك كان الأسد الشقيق يستبق حركة الاحتجاج الشعبي التي سوف تتبلور ضمن إطار الأحزاب المعارضة غير المنضوية في جبهة السلطة، وفي النقابات المهنية للأطباء وأطباء الأسنان والمهندسين والصيادلة والمحامين، الذين أعلنوا إضراباً ليوم واحد (31/3/1980) احتجاجاً على غياب الحريات وشراسة آلة القمع وانتهاك حقوق المواطن. وكان ردّ السلطة الفوري هو حلّ هذه النقابات، واعتقال عدد من أبرز قياداتها؛ وبعد أشهر سوف تشنّ السلطة حملة واسعة ضدّ أحزاب المعارضة.
ولعلّ تاريخ هذه الجثة الهامدة لا يُستكمل، كما يليق به، إلا إذا ذًكر التعديل الجوهري الذي أدخله الأسد الأب على بنية الحزب المجتمعية، وربما الديمغرافية والمناطقية والإثنية والطائفية؛ تماماً كما سارع، فور نجاح انقلابه، إلى إعادة تركيب وحدات الجيش النظامي وإعادة تكوين الأجهزة الأمنية، موضوع الحلقتين السابقتين من هذه السلسلة. فقبل انقلاب الأسد الأب كان النهج التنظيمي في الحزب يحذر من التنسيب العشوائي للأعضاء، بمعزل عن دراسة ما عُرف آنذاك تحت مصطلح «المنبت الطبقي» بوصفه ضمانة نقاء الحزب طبقياً وضمان هيمنة «الكادحين» في صفوفه. ما فعله الأسد الأب فقد كان العكس تماماً، أي فتح أبوب التنسيب على مصراعيها، بل تعمُّد إشاعة «تمييع» طبقي يخدم تحويل فروع الحزب وشعبه إلى مخافر أمنية ومراكز وشاية واستخبار وكتابة تقارير.
وتلك، بين أنساق أخرى من الانحطاط، كانت حال جثة الحزب الهامدة؛ التي اتضح أنّ حلّها نفسها، مثل حلّها بيد الإدارة العسكرية، مجرد تحصيل حاصل اهتراءٍ وتفسخ وامّحاء.
وسوم: العدد 1116