الوجه الاقتصادي للعولمة
الوجه الاقتصادي للعولمة
(اقتصاديات الشركات المتعددة الجنسية)
هايل عبد المولى طشطوش
لاشك إن العولمة ووفقا لأراء الكثيرين من المفكرين والباحثين هي بالدرجة الأولى اقتصادية المنشاء والأصل كان الهدف منها في البداية هو تحويل العالم كله إلى سوق واحدة يسود فيها النظام الرأسمالي المبني على المنافسة الهادفة إلى تحقيق الأرباح والمكاسب ، تسود فيه الحرية الاقتصادية والسوق المفتوحة للشركات الكبرى العملاقة للتنافس بالحصول على الوارد والمواد الأولية من كافة مصادرها من أنحاء العالم المختلفة بأثمان بخسة مما يشكل استنزافا لموارد هذت الدول ( الضعيفة ) أمام هيمنة هذه الشركات العملاقة التي تتخذ من النظام الاقتصادي السائد في العالم حائطا قويا تتكئ علية دون خوف أو وجل .
وما وجود المنظمات الاقتصادية العالمية الكبرى مثل منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي (I.M.F )، إلا أدوات تستخدم لتسخير اقتصاديات وإمكانيات الدول الصغيرة الضعيفة لصالح الأقوياء .
والعولمة الاقتصادية بداءت تتضح معالمها وتتجلى إمكانياتها بأوضح صورها بعد أن انهارت الأيدلوجية الاشتراكية كنظام سياسي واقتصادي كان سائدا في أجزاء واسعة من العالم ، وبانهياره أصبح الميدان العالمي خاليا إلا من النظام الرأسمالي الذي تتزعمه الولايات المتحدة والدول الغربية وتحاول فرضه على العالم ولو بالقوة ، - وأضنها قد نجحت في ذلك - ، وتسعى الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية إلى تكريس اقتصاديات دول العالم كلها للمعسكر الأوحد في العالم وهو المعسكر الغربي ، وهذه الهيمنة تهدف إلى جعل أجزاء العالم المختلفة ودولة المتعددة مسرحا اقتصاديا لها بقصد جعل هذه البلدان مصدرا للمواد الأولية أو المواد الخام الهامة كالنفط والذي لا تقوم الصناعة الغربية إلا به كونه عصب الحياة الاقتصادية الحالية يضاف لذلك جعل العالم كله سوقا استهلاكية لسلع والخدمات التي تقدمها الشركات الكبرى العملاقة ذات الفروع المنتشرة في كافة أنحاء العالم ذات السطوة السياسية والاقتصادية .
ويجب أن لا يغيب عن البال أن العولمة الاقتصادية وفي ظل روح المنافسة التي تهدف إلى تحقيق الربح لجاءت إلى استغلال الأيدي العاملة الرخيصة في البلدان النامية والفقيرة من خلال إقامة مصانعها ومعاملها في هذه البلاد وجعلها مناطق تجارية خاضعة لهيمنتها من حيث رؤوس الأموال ، وإعادة التصدير بأغلى الأثمان مستفيدة من الحوافز والاجراءت التي تفرضها منظمة التجارة الدولية على الدول التي تسعى لإزالة القيود والحواجز العوائق أمام حرية حركة السلع والخدمات ورؤوس الأموال وجعلها صناعة متطورة تنافس الصناعة الوطنية الضعيفة والتقليدية في هذه الدول ، إضافة إلى عائد ومردود هذه الصناعات يعود إلى المقر الرئيسي للشركة الأم في وطنها حيث تهيمن هذه الشركات على ثلثي التجارة العالمية حيث أن هناك حوالي (350) شركة كبرى للدول القوية تحظى بحوالي 40% من التجارة الدولية .
ويجب أن لا يغيب عن البال أن هذه الشركات العملاقة بدأت تلعب أدوارا سياسية رغم قالبها الاقتصادي ، والناظر في سجل حرب الخليج الثانية والثالثة يدرك ذلك تما ما ، لان الغاية رغم أنها عسكرية إلا أن الأهداف الإستراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى إحكام سيطرتها على المنطقة الغنية بالنفط لاستمرار تدفقه إلى المصانع الأميركية عشرات قادمة من السنين لتنافس بذلك أوروبا واليابان وتبقى متفوقة في كافة المجالات.
أما الدور الذي لا يقل أهمية عن هذه الأدوار جميعها والذي تلعبه هذه الشركات العملاقة ألا وهو البحث العلمي والتطوير المعرفي وهو ما اسماه بعض الباحثين ( الاحتكار المعرفي ) ، حيث يرى الباحثون بان من القواعد والمرتكزات التي بدأت تنشا عليها هذه الشركات ، هو العلم والمعرفة والبحث والتطوير لإنتاج الأفضل لمواكبة العصر ولمنافسة غيرها من الشركات ، وهذه المعرفة والأبحاث أصبحت محتكرة من هذه الشركات خوفا من الاطلاع عليها ، ووضعت لذلك القوانين اللازمة للحماية وجعلت ( حقوق الملكية الفكرية ) من أهم القواعد التي تنشا عليها هذه الشركات ، ومن الأدوار الهامة لهذه الشركات أيضا هو إلغاء دور الدولة القومية وذلك لقدرتها على التأثير على صناع القرار السياسي والاقتصادي معا بما تملكه من كم هائل من الأموال المتحركة والتدفقات الاستثمارية والتجارية بالإضافة إلى نشاطها الهائل في حقول المضاربات المالية حيث وصلت إيرادات اكبر (500) شركة متعدية الجنسية من قطاع البنوك والتامين ومؤسسات الادخار والاستثمار 22.5% من جملة إيراداتها، وقد بلغت النسبة المئوية لإيرادات اكبر (10) شركات في قطاع الاتصالات مثلا 86% من السوق العالمي ، وحوالي 70% من قطاع الحواسيب و35% من قطاع الأدوية 34% من قطاع البذور التجارية ، وهذا كله يدلنا دلالة واضحة على قدرة هذه الشركات على الاحتكارات التجارية والمنافسة للدول حتى على مستوى العالم ومدى سيطرتها الاقتصادية وبالتالي السياسية وهذا ما يمنحها حجما ضخما من الهيمنة تتجاوز الهيمنة الاستعمارية التقليدية وقد وصلت الأمور ببعض هذه الشركات إلى القيام بعملية نقل العمال والفنيين الذين تستقدمهم للعمل لديها بطائرات خاصة من موطنهم الأصلي وذلك في إطار ما سمي بعملية( شراء العقول).
ومما يزيد من تقليص دور الدولة القومية في ظل العولمة الاقتصادية الهائلة التي تتزعمها الشركات المتعددة الجنسية والمؤسسات التجارية العالمية هو أنها سوف تتعرض – بل تعرضت – لحصارات سياسية واقتصادي وثقافية وإنسانية تشبه حالة الاستعمار الحقيقي وهذا يدفع الدولة القومية الصغيرة إلى الكثير من المتاعب والمشاكل لان ما تواجهه هو اكبر من حجمها وإمكانياتها وخاصة أن هذا التيار الاقتصادي الجارف تقوده قوى لأتعرف سوى لغة الربح المسطرة بلغة دولاريه هدفها الهيمنة والسيطرة دون مراعاة القواعد الخصوصية للشعوب والدول مما ينتج عنة خسائر كبيرة قد تؤدي إلى تغيير الخرائط والأنظمة السياسية ، ما الأوضاع التي تعيشها بلادنا في الخليج المشتعل بنار النفط التي تلتهم الأخضر واليابس إلا خير، دليل على أن الهجمة العولمة الاقتصادية هدفها الربح والمنافسة حتى ولو كان وقود نار هذه المنافسة هو الأنظمة الحاكمة والبشر المسالمين الذين لأحول لهم ولا قوة
من خلال ما سبق نستطيع أن نجمل أهم الآثار السلبية للعولمة الاقتصادية بما يلي :
1. استنزاف موارد وطاقات الدول الصغيرة والضعيفة من خلال جعلها موردا للمواد الأولية اللازمة للصناعات وذلك بشرائها بابخس الأثمان وإعادة تصديرها بأغلى الأسعار ، بالإضافة إلى جعلها قواعد اقتصادية تعود خيراتها وإرباحها إلى الشركات العملاقة في مقر إقامتها في وطنها الأم .
2. إن وجود صناعات ومراكز صناعية تابعة لهذه الشركات في الدول الفقيرة يعني القضاء التام على صناعاتها الوطنية كونها ضعيفة بالأساس وتفتقر إلى التكنولوجيا المحتكرة أصلا مما يعود سلبيا على اقتصاديات هذه الدول .
3. ربط اقتصاديات الدول الفقيرة بالأوضاع الاقتصادية الولية وهذا الأمر يجعلها كالريشة في مهب الريح وذلك لعدم قدرة هذه الدول على مجاراة اقتصاديات الدول الصناعية كونها اقتصاديات ضعيفة وهشة مما يجعلها غير قادرة على التحكم بأوضاعها الاقتصادية وجعلها عرضة للتذبذب وتصبح تابعة للمؤسسات المالية الدولية ومنفذة لأوامرها فقط .
4. احتكار العلم والتكنولوجيا والمعرفة من قبل الشركات الكبرى أو الدول الصناعية والتحكم في تدفقها إلى الأسواق العالمية مما يبقيها قوية اقتصاديا ويجعل الدول الصغيرة متلقية فقط وغير قادرة على التطور والبحث العلمي .
5. ربط التنمية ومشاريعها في الدول النامية بما تقدمة المؤسسات المالية الدولية والشركات الكبرى من مساعدات ومنح مما يجعل هذه التنمية غير قادرة بل عاجزة عن تلبية الاحتياجات ومتطلبات الإفراد مما يفقد الدول القدرة على كسب ثقة شعبها مما يعرضها بالنهاية لمشاكل سياسية واجتماعية هي في غنى عنها .
6. ساهمت العولمة الاقتصادية بجعل الدول الدول ألعوبة بيدها لدرجة أنها أصبحت تتدخل في القرارات السياسية فيها وتتحكم بمجريات حياة المواطن العادي مثل : رفع الأسعار ، والتحكم في زيادة الرواتب أو عدمها أو إقامة مشروع معين ... الخ ، وها بالتالي يشكل هدرا للكرامة الوطنية.
7. إن الحرية المعطاة للشركات المتعددة الجنسية من قبل الدول المضيفة قد تفتح الباب إمامها لإساءة استعمال تلك الحرية من حيث :التهرب من دفع الضرائب ، تلويث البيئة ، حيث كانت هذه الشركات مسئولة في كثير من الأحيان عن الكثير من القضايا البيئية الكبرى مثل : تسرب الغاز في مصنع ( يونيون كاربايد) في الهند ، بالإضافة إلى عمليات سكب النفط على السواحل كما حصل مع شركة (Exxon Valdes ) التي سكبت عشرة ملايين غالون نفط مقابل سواحل ألاسكا بالإضافة إلى المبيدات الحشرية الضارة والأدوية الممنوع استعمالها ومخلفات المصانع التي تؤدي إلى تآكل طبقة الأوزون بالإضافة إلى استنزاف الأراضي والأملاك من خلال استغلالها بما تحوي من خيرات مثل قطع الأخشاب واستخراج النفط والخامات المعدنية .
والمدقق فيما سبق من السلبيات الاقتصادية يكاد يجزم أن العولمة الاقتصادية تكاد تخلو من الايجابيات ولكن نستطيع القول أن العزيمة والاعتماد على الذات يجعلان من الحلم حقيقة ويتلاشى معهما اليأس والقنوط ، لان عزيمة الدولة القوية اقتصاديا وسياسيا وفكريا وعلميا تستطيع ان تطوع العولمة وأدواتها وتسخرها لخدمتها وخدمة شعبها بل تستطيع أن تحول هذه السلبيات إلى ايجابيات نافعة ومفيدة لاقتصادها ولمواطنيها .
ولنرى بعضا من النقاط التي قد تكون ايجابيات نافعة تستطيع الدول أن تستغلها والتي تحمل بين طياتها بعض المقترحات التي تساهم في التخلص من السلبيات المذكورة أنفا ، من أمثلة ذلك :
1. إن موجة التكنولوجيا الهائلة المصاحبة للعولمة الاقتصادية يجب استغلالها وتطويرها وتطويعها للتخلص من ترهلات الماضي واستغلالها في مجال الصناعات والاختراعات والابتكارات من اجل النهوض بالواقع الاقتصادي ووصولا إلى تحسين حياة الإنسان ومجاراة للواقع الاقتصادي العالمي خاصة أن الدول العربية والإسلامية تمتلك الأموال الطائله والعقول الهائلة والموارد التي لا تنضب والتي قد تكون كلها أساسيات لتطوير التكنولوجيا من تشجيع وإقامة مراكز البحث العلمي .
2. إن النجاح الاقتصادي في ظل هذه العولمة وكما هو واضح عالميا ، هو للتكتلات الاقتصادية الدولية والإقليمية وهذا الأمر بحد ذاته يشكل حافزا قويا لمجمعاتنا الغربية والإسلامية إلى إقامة تكتل عربي إسلامي وأقامه سوق عربية وإسلامية مشتركة ، فان تم هذا الأمر فأنة سيشكل حاجز الصد الذي يحمي اقتصاديات الدول العربية والإسلامية من الهجمة الاقتصادية الغربية ويمكنها من مواجهة التحديات الاقتصادية المتغيرة والمتقلبة بشكل شبة يومي ، وعليها أيضا أن تبني اقتصادياتها على الأسس الاقتصادية الإسلامية القائمة على الاعتدال والوسطية ومراعاة مصالح العباد وتحقيقها .
3. تطوير الأنظمة والتشريعات التي تشجع الاستثمار الوطني المحلي وذلك لحماية الأموال والصناعات المحلية ومنعها من الهجرة إلى الخارج وتشجيع إقامة المشاريع الصناعية وتوفير البنية التحتية لها والكوادر البشرية المؤهلة والمدربة وإعطاءها الحرية الكاملة في إدارة مشاريعها الإنتاجية وتزويدها بالتكنولوجيا المتطورة باستمرار .
4. أما الشركات المتعددة الجنسية ورغم الكثير من السليبات التي قد تحملها معها إلى الدول النامية، إلا أنها قد تحمل بعض الايجابيات المتمثلة بتوفير فرص العمل ، ونقل التكنولوجيا إلى الدول المضيفة من خلال استيراد الأجهزة الحديثة أو استقدامها أو إدخال أفكار جديدة من شاءنها أن تحسن وتطور صناعة السلع وهذا من شاءنه أن يرفع من سوية الصناعات المحلية والوطنية ،بالإضافة إلى قيامها بتدريب العمالة المحلية واستخدام أساليب متطورة في الإدارة والتسويق وضبط الجودة بالإضافة إلى قيامها بعمليات البحث والتطوير العلمي في الدولة المضيفة ، إلا أن هذه الأمور جميعها نسبية وليست مطلقة الحدود .
يبدو أنة مها تحدثنا عن العولمة الاقتصادية وأثارها على مجتمعاتنا فإننا لن نفي هذا الموضوع حقه من البحث والتمحيص خصوصا أن المعلومات والنسب المئوية المتعلقة بالتغيرات الاقتصادية العالمية هي في حالة تغير يومي بل لحظي لذلك فإننا في ظل الاقتصاد العالمي "المعولم " الذي زالت منة القيود وتحررت التجارة وأصبحت حرية انتقال رؤوس الأموال والسلع والمواد الخام هي بسرعة فائقة بين جنبات الكرة الأرضية وسيطرت فيه الشركات المتعددة الجنسية ، فإننا في ظل ذلك كله نحتاج إلى متابعة شبة يومية لوضع الاقتصادي السائد في العالم ذلك لان الاقتصاد العالمي أصبح اقتصادا متشابكا موحدا مترابط الأركان بحيث لم يعد بقدرة أي محلي أو قومي العمل بمفردة دون التأثر أو التأثير بغيرة من الاقتصاديات .
لذلك فان سيادة الفكر الاقتصادي الليبرالي الحر في العالم جعل سمة التغير المستمر هي الطاغية على النمط الاقتصادي السائدة في العالم ، والهدف من ذلك كله جعل العالم ميدانا واسعا فسيحا رحبا تنفرد بة القوى الاقتصادية القوية تلعب بة بالأسلوب الذي يحقق لها المنفعة والمصلحة على حساب الإطراف الأخرى الضعيفة.