عمل تاريخي مبتكر

د. محمد موسى الشريف

د. محمد موسى الشريف

كنت في زيارة لتركيا هذا الصيف لحضور مؤتمر النورسيين السنوي ، واستغللت الفرصة لزيارة عدة مواقع أثرية وتاريخية مهمة ، وأعظم ما لفت نظري وأعجبني مشروع لطيف مبتكر اسمه تركيا الصغرى ، حيث قد جمعت كل آثار تركيا في مكان واحد !! .

حيث جسم المهندسون الأتراك كل الآثار التاريخية المتناثرة في البقاع التركية الواسعة ، ووضعوها في مكان واحد في العاصمة اسطنبول ، وهو مكان فسيح مكشوف يدخله الداخل ليسير في مسار محدد له ، يشاهد به جميع هذه الآثار في نسق مرتب بديع ..

 

 وتذكرة الدخول تتضمن مفتاحا (شفرة) بعدة لغات ، فإذا أخبرت بائع التذاكر بلغتك أعطاك التذكرة ، فتقف أمام الأثر ، وتدخل التذكرة في آلة صغيرة ، فتتحدث عن الأثر باستفاضة باللغة التي اخترتها ، وها أنذا أصف للقراء أهم المعالم التي سررت بها ، حيث سررت بمسجد السليمية أعظم الآثار في مدينة أدرنة القريبة من الحدود البلغارية ، وهو باسم السلطان سليم الثاني ، بني بين سنتي 1568-1575 تحت إشراف المهندس المبدع المعمار سنان الذي بنى معظم الآثار التركية الفاخرة ، وهذا المسجد يعد من جملة آثاره الفاخرة .

 

ثم مررت بالجامع الضخم ( أولو جامع ) في بورصة ، وكانت عاصمة للدولة العثمانية قبل اسطنبول ، وافتتح الجامع سنة 1400 بأمر يزيد الصاعقة ، ولما دخل تيمورلنك بورصة منتصرا على الدولة العثمانية أمر بإحراقه ، وجدد بعد ذلك في عهد محمد الأول .

 

ثم مررت بمسجد علاء الدين في قونية ، وهو من الآثار السلجوقية الباقية ، فالسلطان علاء الدين هو سلجوقي ، وبدأ بناء المسجد سنة 1155 وانتهى سنة 1200 !! في عهد السلطان كيقباد الأول ، وجدد مرات كثيرة عبر القرون ، وأضيف إليه أبنية ، وهو أقدم مثال على هيئة البناء العربي للمساجد في الأناضول .

ثم مررت ببناء غريب ، بني في جوف جبل ، وهو مخبأ فيه بحيث أن القائم على الجبل البالغ ارتفاعه (1300م ) لا يدرك أن تحته بناء هائلا على هذا النحو ، وهو معبد بني سنة 385 ، وهو بناء عجيب غريب .

 

ثم مررت بمدينة ماردين ، وهي مدينة قائمة منذ عهد الرومان ، ومرت بعهود الفرس والبيزنطيين والسوريين والعرب ، وبيوت المدينة مبنية من الصخور ، وهي متراصة على هيئة غريبة بحيث لا يحجز بيت بيتا فكل البيوت في الواجهة !!

 

ثم مررت بمسجد السليمانية نسبة إلى السلطان سليمان القانوني أكبر سلاطين آل عثمان ، وإن لم يكن أفضلهم ، وقد توفي سنة974هـ بعد أن حـكـم 50 سنة ، والجـامع الضخم في اسطنبول ، وبني بأمر السلطان سليمان ، وبناه المعماري المميز سنان في ذروة أستاذيته ، وبني من سنة 1550 إلى سنة 1559 ، وزخرف المسجد من قبل فناني عصره ، والمسجد مشهور بنظام التهوية المبدع ، وفيه أربع منارات فيها عشر شرفات ترمز إلى أن السلطان سليمان هو السلطان العاشر العثماني ، وقد جلب الرخام الأبيض من جزيرة مرمرة ، والرخام الملون من بقايا مدينة بلقيس من اليمن ، والرخام الأخضر من جزيرة العرب .

 

ومررت بمسجد السلطان أيوب كما يسمونه ، وهو الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري ـ  رضي الله عنه ـ  والذي أمر ببنائه هو السلطان محمد الفاتح حين فتح اسطنبول ووقف على قبر أبي أيوب ـ رضي الله عنه ـ  وكان قد أوصى بدفنه عند أسوار القسطنطينية حين كان يحاصرها مع الصحابة والتابعين زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ وهذا المسجد هو أول مسجد بني في اسطنبول ، ثم أعيد بناء المسجد زمن السلطان سليم الثالث .

ثم مررت بمسجد السلطان أحمد الأول الذي بني سنة 1609 وسماه الأوربيون (الجامع الأزرق ) وذلك لكثرة وجود البلاط الأبيض والأزرق داخل جدرانه ، وهو المسجد الوحيد في تركيا بست منارات ، وقد أقيم على أنقاض قصر بيزنطي قديم ، وقد صليت في المسجد مرارا ، وهو آية في الجمال ، سواء في بنائه أو في موقعه الفريد أمام مسجد أيا صوفيا ، ويطل على البسفور .

 

ثم مررت بقصر توب كابي ( الباب العالي ) حيث كان يقيم السلاطين ، وهو مبني على مساحة 700 هكتار على تل في اسطنبول ، وقد بدأ بناؤه في زمن السلطان محمد الفاتح سنة 1461 – 1468 ، ومنذ عهد السلطان محمد الفاتح عاش في هذا القصر 24 خليفة أو سلطانا مع أزواجهم وأطفالهم وخدمهم إلى منتصف القرن التاسع عشر ، واليوم هو متحف يضم بعض الآثار النبوية الشريفة ، وكثيرا من الآثار التاريخية الأخرى.

 

ثم مررت بمجسد أيا صوفيا ، وهو كنيسة ضخمة بناها جستنيان الأول البيزنطي سنة 537 ، وقد سقطت قبتها عدة مرات ، وآخر مرة أعيد بناؤها سنة 1346 وقد أجريت عدة تقويات وترميمات للمبنى في العهد العثماني ، وقد غير السلطان محمد الفاتح المبنى ليكون مسجدا ، وأضاف إليه منارة ، ثم أضيف إليه منارة أخرى زمن السلطان بايزيد الثاني ، وقد كان أيا صوفيا مسجدا لمدة 481 سنة ليحوله أتاتورك اللعين إلى متحف سنة 1934 .

 

وهناك مجسمات عديدة أخرى أضرب عن ذكرها صفحا للإيجاز ، لكني لا أستطيع أن أنهي مقالتي دون ذكر المسار الفربد الذي ضم أهم آثار العثمانيين خارج تركيا ، فمنه مجسم لقلعة أجياد في مكة التي هدمت قبل ثلاث سنوات ، ومجسم للمسجد الأقصى الذي أعيد بناؤه في عهد السلطان سليم لما دخل مصر والشام فاتحا ، وجسر موستار العظيم الذي ليس مثله جسر في الدنيا ، لكن هدمه الصرب في حرب البوسنة ، وبقي مجسمه !! ..

وبهذا أتيت على سرد أهم ما مررت عليه من مجسمات في ذلك المكان الجميل ذي الفكرة الرائعة ، فقد مررت على كل آثار الدولة العثمانية في أقل من ساعتين !! .

وهناك متحف ملحق بأرض العرض لم يتسع وقتي لزيارته ، وأحيل زيارته لمن يزور تركيا بعدي إن شاء الله .