إدارة أزمات أم حلول وتسويات
صبحي غندور*
ما الذي يسعى اليه الرئيس الأميركي من سلسلة دعواته لعدد من زعماء منطقة الشرق الأوسط لزيارة واشنطن، وما الجديد لديه ليعرضه أمام زوّاره العرب والإسرائيليين؟
أعتقد أنّ إدارة أوباما ستحاول قبل نوفمبر القادم، وهو موعد الانتخابات النصفية في أميركا، التعويض عن عدم القدرة على إحداث تغيير جذري بالاقتصاد الأميركي، باللجوء إلى معالجة أزمات السياسة الخارجية والقضايا الدولية الشائكة المعنيّة بها الآن واشنطن.
ولدى إدارة أوباما الأسباب الكافية لتأكيد أولويّة الاهتمام أيضاً بقضايا السياسة الخارجية. فالتورّط الأميركي العسكري في العراق وأفغانستان استنزف ويستنزف الميزانية الأميركية إضافةً إلى الخسائر البشرية والسياسية الناتجة عن هذا التورّط.
طبعاً ستكون الاتفاقية الأمنية مع الحكومة العراقية بشأن جدولة انسحاب القوات الأميركية عنصراً مساعداً لإدارة أوباما لكي تبني عليه في تنفيذ الوعد بالخروج من العراق. لكن الأسئلة التي ستفرض نفسها على الإدارة الجديدة هي: ماذا بعد الانسحاب من العراق؟ وما هي ضمانات الأوضاع السياسية والأمنية فيه؟ وكيف ستطمئنّ واشنطن إلى عدم توظيف خصومها الإقليميين هناك لمرحلة ما بعد الانسحاب؟
هذه التساؤلات ستدفع حتماً إدارة أوباما إلى عدم الإستمرار في التصعيد مع إيران وإلى تجديد طلب المحادثات المباشرة معها حول العلاقات الثنائية، إضافةً إلى شبكة مترابطة من الأزمات الأخرى. فطهران معنيّة أيضاً، إضافة إلى الموضوع العراقي، بمستقبل الأوضاع في أفغانستان وفي تحالفاتها مع أطراف عربية مقاومة لإسرائيل، فضلاً عن مستقبل الأمن في عموم منطقة الخليج العربي.
ولا تنطلق إدارة أوباما في تعاملها الآن مع أزمات الشرق الأوسط من فراغ سياسي أميركي. فما نصّت عليه توصيات لجنة بيكر/هاملتون في العام 2006 هي الأرضية السياسية لكل التحرّك الأميركي الحاصل في الشرق الأوسط منذ تولي الرئيس أوباما الحكم؛ إن بشأن المحادثات مع طهران ودمشق، أو بالجهود التي يقوم بها موفد الرئيس الأميركي جورج ميتشل من أجل إحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية كتمهيد لتسويات شاملة للصراع العربي/الإسرائيلي على الجبهات السورية واللبنانية، ومن خلال مؤتمر دولي على غرار مؤتمر مدريد السابق.
وهناك جملة مؤشّرات تدلّ على هذا التوجّه الذي سيحكم مصير التسويات مع إسرائيل، إذ ليس في الأفق من إمكانية الآن للاتفاق حول القضايا النهائية المرتبطة بحدود الدولة الفلسطينية وبالقدس وبمصير اللاجئين والمستوطنات. وقد تجمدّت أيضاً المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا، في الوقت الذي انتعش فيه من جديد الحديث عن المبادرة العربية الشاملة لكل جوانب الصراع مع إسرائيل، وظهور مواقف أميركية وأوروبية تصبّ في فكرة المؤتمر الدولي.
فالتطبيع العربي الشامل والكامل مع إسرائيل مشروط حسب المبادرة العربية باستعادة الأراضي المحتلّة عام 1967 وبقيام الدولة الفلسطينية، لذلك تصبح التسوية على الجبهة السورية/الإسرائيلية، وما سيرافقها على الجبهة اللبنانية من اتفاقات، تعني شمولية التسويات لكلّ الدول المحيطة بإسرائيل، ممّا سيسهّل أميركياً ودولياً بعد ذلك التعامل مع القضايا الكبرى في الملف الفلسطيني والتي تعيق إعلان الدولة الفلسطينية.
وقد أجمعت الحكومات العربية في قممها الأخيرة على المبادرة العربية للسلام، لكن التوافق الحكومي العربي على هذه المبادرة كان توافقاً على الغاية لا على الأسلوب أيضاً. فكيف يمكن تطبيق هذه المبادرة، ثمّ ما البديل عنها أمام رفض إسرائيل لها؟ وهذا ما حدث منذ إطلاق المبادرة عام 2002 في قمّة بيروت. ولماذا لم تقرّر الحكومات العربية إستراتيجية شبيهة بقمّة الخرطوم عام 1967 التي جمعت بين قبول القرار 242 وبين الاستعدادات لعمليات عسكرية أدّت إلى حرب أكتوبر عام 1973.. أو أن تتضامن في الحدّ الأدنى كلّ الحكومات العربية مع حركات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي!.
هي كلّها تساؤلات مهمّة لأنّ الاتفاق على "مبادرة السلام"، دون التوافق أيضاً على بديلٍ لها، فتح المنطقة أمام صراعات بين العرب أنفسهم، ومنح إسرائيل مزيداً من الفرص الزمنية لتكريس الاحتلال وبناء المستوطنات وتهويد القدس.
وبغضِّ النظر عن تفاصيل المكان والزمان، فإنَّ فكرة المؤتمر الدولي القادم حول الشرق الأوسط أصبحت المخرج العملي من الأزمة التي تلفّ عنق الصراع العربي/الإسرائيلي.
وسيجد في هذا المؤتمر كلّ طرفٍ من الأطراف المعنيّة بحضوره، ما يمكن اعتباره تجاوباً نسبياً مع طروحاته في هذه المرحلة.
وستسوِّق واشنطن فكرة المؤتمر بشكلٍ مُرضٍ لكلّ طرف، ففكرة المؤتمر تعني مشاركة الآخرين مع الولايات المتحدة في رعاية خطوات التسوية (الأمم المتحدة – أوروبا – روسيا- دول عربية)، وواشنطن سوف تقول للعرب إنَّهم لطالما طالبوا بمشاركة قوى دولية أخرى وبالأمم المتحدة في رعاية عملية السلام، والمؤتمر الدولي يشكّل استجابةً لهذا المطلب، وبأنّ المؤتمر هو القادر على التعامل مع مبادرة القمّة العربية في بيروت.
أيضاً، تريد واشنطن من المؤتمر مشاركة عربية ودولية في تغطية ودعم القرارات التي قد تأخذها السلطة الفلسطينية في القضايا الكبرى المرتبطة بالمسألة الفلسطينية.
تريد واشنطن إعادة إحياء اللجان واللقاءات الإقليمية التي كانت تحدث بعد مؤتمر عام 1991 في مدريد من أجل إقامة "علاقات طبيعية" بين العرب وإسرائيل، وإعادة الحياة إلى خطوات "التطبيع العربي" مع إسرائيل بشكلٍ شامل الآن لكلِّ الدول العربية اعتماداً على مبادرة السلام العربية.
تريد واشنطن إعلان الاتفاق على قيام "دولة فلسطينية" لكن ربّما من خلال أسلوب "الدولة على مراحل"؛ أي البدء في قيام الدولة الفلسطينية على المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية، ثمَّ توسيع دائرة هذه الدولة مستقبلاً من خلال المفاوضات مع إسرائيل.
في محصّلة الأهداف الأميركية المتوقعة من فكرة المؤتمر الدولي، نجد أنَّ واشنطن تراهن على مدخلٍ واحد لولوج باب هذا المؤتمر، هو مدخل ترتيب "البيت الفلسطيني" وتأمين "شرعية فلسطينية" لأي وفد فلسطيني مفاوض. وسيكون تحقيق هذا الهدف مقترناً لاحقاً من خلال المؤتمر بخطواتٍ سياسية واقتصادية وتأمين مساعدات عاجلة للفلسطينيين، وإنهاء حصار غزّة، بحيث تكون هذه "المكاسب الفلسطينية" سبباً أيضاً لمطالبة كلّ العرب وغير العرب بإنهاء أيّ دعمٍ سياسي أو مالي لمن يرغبون باستمرار المقاومة المسلّحة ضدَّ إسرائيل.
إذن، أمام المنطقة العربية استحقاقات عديدة قادمة في خريف هذا العام، لكنّها استحقاقات مبنيّة على ما هو قائم على أرض الواقع من قوًى ومصالح وصراعات.
ولن يكون التحرّك الأميركي الجديد منطلقاً من مصالح أي دولة أخرى غير المصلحة الأميركية وما فيها من تشابك في معظم الأحيان مع مصالح الدولة الإسرائيلية.
فإذا جاءت مواعيد استحقاقات الانسحاب التدريجي الأميركي من العراق، وحسم مصير ملف الأزمة مع إيران، وإعلان صيغة مؤتمر دولي جديد بشأن الشرق الأوسط، وأمور العرب على ما هي الآن عليه، فإنّ ذلك ليس بمؤشّر خير للمنطقة وقضاياها. فالصراعات ما زالت قائمة بين الأطراف العربية الأساسية المعنيّة في كلِّ هذه الأزمات، ولا يمكن تحقيق مصالح عربية في ظلِّ انقسامٍ عربي.