صن تزو والمأساة الفلسطينية
د. مصعب أبو عرقوب
انفجرت نساء القصر بالضحك عند سماع الجنرال صن تزو يصيح "لليمين درن"، وكان قد اقترح إجراء تجربة عليهن، ليثبت لإمبراطوره صحة نظرياته في الحرب وإدارة الجند التي وضعها في كتابه الشهير"فن الحرب"، عَقّب صن على عدم انصياع النسوة للأوامر بالقول "إذا كانت كلمات الأوامر غير واضحة ومميزة وكانت غير مفهومة فهما شاملا، فإن اللوم يقع على القائد".
لقد كانت الأوامر بسيطة، تلك التي أعطاها الجنرال صن تزو، لكنه كان حازما في وضع نظرياته التي حازت على الثقة والتقدير، و دفعه الإخلاص لأمته لأن يكون صادقا مع نفسه فألقى اللوم على القائد، إذا كانت الأوامر غير مفهومة وغير دقيقة، واللوم يصل إلى حد التجريم، إذا كانت الأوامر على مستويات أرفع وأعقد من قيادة سرية وتدريبها،
فالأوامر على مستوى أمة ومستقبل أرض مقدسة، وشعوب تهدر ثرواتها وتحتل أرضها، يجب أن تكون واضحة ومفهومة فهما شاملا حتى تنفذ و تترجم إلى واقع يضع الأمة على طريق النصر وتحرير المقدسات وصون الدماء.
وعدم الوضوح في القرارات والأوامر يفضي إلى التراجع والانتكاس، وتضييع الحقوق وتثبيت الواقع المرير والمأساة التي نعيش، وتعمد الغموض في إصدار الأوامر والقرارات في القضايا المصيرية يتجاوز حدا أبعد من مجرد إلقاء اللوم على القادة والحكام إلى البحث عن حقيقة الأنظمة والنخب الحاكمة وارتهان قراراتهم بأوامر وتعليمات سلبتهم كل معاني السيادة والإرادة السياسية، ونزعت عنهم صبغة القيادة لتجعلهم أقرب إلى وصفهم بالمحكومين أو المنفذين لسياسات لا تخدم إلا مصالح الدول الاستعمارية وأطماعها، ولا يمكن وضع ذلك الغموض إلا في خانة التضليل وإيهام الشعوب بوجود قيادات تصدر قرارات وأوامر قد تحل قضايا أمة تذبح وتحتل أرضها وتنتهك مقدساتها وتحرق مساجدها، وتعيش فقيرة على قارعة الحضارة بثروات أصبحت نهبا لكل طامع في انتظار قرار يعيد الأمور إلى نصابها، إلا أن القرارات تأتي دوما جوفاء غامضة في محاولة للتستر على عجز الأنظمة وتبعيتها للغرب.
فالقرارات و الأوامر المتعلقة بالقضية الفلسطينية كواحدة من قضايا الأمة الإسلامية الرئيسية يلفها الغموض والضبابية، فبعد الإعلان عن نية "إسرائيل" طرد عشرات الآلاف من أهل فلسطين، أصدرت الجامعة العربية أمرا لأهل فلسطين "بعدم الانصياع لأوامر الطرد"!!، في تطبيق نموذجي لقاعدة صن تزو، فالأمر الصادر غير واضح وغير مفهوم ولا يلام أهل فلسطين إن أفرطوا في الضحك ولم ينفذوا أمر الجامعة العربية، وذلك ليس هروبا من المقاومة والتصدي للاحتلال بقدر إدراك مرارة الواقع، فلو كان باستطاعة أهل فلسطين التصدي للاحتلال وحدهم لما احتلت فلسطين، ولا هدمت البيوت في القدس ولا حفرت الأنفاق تحت المسجد الأقصى ... لو كان باستطاعتهم لما تركوا آلاف المعتقلين من خيرة شباب فلسطين في سجون الاحتلال يصارعون الموت البطيء أمام أعين أمهاتهم وزوجاتهم و أطفالهم، لو كان باستطاعتهم لفكوا الحصار عن غزة، ومنعوا قنابل الفسفور من اختراق أجساد أطفالهم وصواريخ الطائرات من هدم بيوتهم ومساجدهم، لو كان باستطاعتهم لصلوا الجمعة في المسجد الأقصى واستجموا على سواحل حيفا وعكا، لو كان باستطاعتهم لفعلوا ذلك كله، ولم ينتظروا أمراً من احد.
وتدخل تحت قاعدة صن الكثير من الأوامر والتصريحات الغامضة، التي تطالب أهل فلسطين بالتصدي والصمود في وجه الاستيطان والتهويد والقتل والطرد والحصار والجدار والاعتقال، فعدم الوضوح يخرج قضية فلسطين من بعدها الإسلامي، و يلقي المسؤولية على الكتيبة المحاصرة من الأمة في فلسطين ويحملها ما لا طاقة لها به، ويسلط الضوء على نوعية القادة وتقيدهم بأوامر ورؤى تخط بحروف أجنبية وبلغة لا تفهمها الشعوب ولا تعبر عن آمال الأمة وطموحاتها في إيجاد حل جذري ينهي الاحتلال ويحرر المقدسات.
وعلى جانب آخر تتجلى الأوامر واضحة وتنفذ بدقة، فتحفر الأرض ويسكب الفولاذ وتقفل المعابر وتحاصر غزة، وتعلن الحرب على "الإرهاب"، وتصدر الأحكام الواضحة بالسجن المؤبد لمن يحاول فك الحصار، وتجتمع لجنة متابعة المبادرة العربية لتقر البدء في مفاوضات غير مباشرة في تنفيذ سريع لأوامر وسياسات رسمت في البيت الأبيض.
وفي تجسيد درامي لعلاقة الحاكم بالمحكوم على مسرح القضية الفلسطينية، أصبحت الرؤية الأمريكية المتمثلة بحل الدولتين دستورا للأنظمة و تنفذ كأوامر واضحة لا يمكن العدول عنها، حتى وإن كان ذلك يتناقض مع رؤية الأمة المستمدة من عقيدتها، رؤية تقيد بها حكام وقادة كصلاح الدين وقطز والظاهر بيبرس انطلقت الأمة خلفهم وبدون تردد باتجاه تطبيق أوامرهم الواضحة.
فالحقائق التاريخية والسياسية تدلل على أن الأمة الإسلامية لن تبخل بالتضحيات ولن تخطأ في تنفيذ الأوامر عند تلقيها أوامر واضحة من قادة حقيقيين، وستغير مجرى التاريخ وتحرر المقدسات وتسود الدنيا، فذلك طبعها وتاريخها، فالأمة مطالبة بإيجاد ذلك النوع من القادة الذين يأمرون ولا يأتمرون ...فتتوحد الأمة بهم على قرار واحد و في دولة واحدة، ولا بد للمؤثرين وأهل القوة والمخلصين من أبناء هذه الأمة تقدم الصفوف وحمل راية القيادة الحقيقية للأمة، حتى لا تستمر المأساة، وتتحول قضايا الأمة في هذا العصر وعلى أيدي هذه الأنظمة والقيادات إلى...مجرد ملهاة.