دفاع عن المشروع الإسلامي

(قل آمنت بالله ثم استقم)

زهير سالم*

[email protected]

عندما كتبت مقالي ليس دفاعا عن العلمانية أردت أن انوه إلى أن العلمانية كرؤية ومنهج حياة هي أكمل وأجمل وأقوم مما يقدمها به بعض العلمانيين. ربما يكون لحالة الكبت التي يعيشها المواطن العربي دور في تشكيل خطاب مأزوم بأبعاد مجتزِئة مستفزة، يتفجر غضبا على رؤوس الأقلام.

 يتطلب المشروع النهضوي الوطني لكي ينجح جسرا من التلطف  للتواصل بين حوامله المتفقين المختلفين. العبء ثقيل، وهو على البعض أثقل. وتقول العرب: (اللطف رشوة من لا رشوة له)، حكمة نحتاجها في هذا المقام . وفي الحديث الشريف ( لم يكن الرفق في شيء إلا زانه ولم ينزع من شيء إلا شانه ). وقالوا في علوم القرآن إن كلمة (وَلْيَتَلَطَّفْ) الواردة في سورة الكهف تقع وسط القرآن، تضع شطر القرآن الأول بين يديها، وشطره الثاني عن يمينها..

 ماذا يضرنا جميعا أن نتلطف في عرض بضاعتنا؟! وأن نثق بعقول المخاطَبين.  كان الصحابي مصعب بن عمير داعية الرسول في المدينة وأجمل وأنهد فتى في قريش، يقول، لمن يُنكر عليه من زعماء الأوس والخزرج مقدمه إلى المدينة ومقامه فيها ودعوته إلى الدين الجديد : تجلس فتسمع فإن أعجبك أمر قبلته، وإن لم كففنا عنك ما تكره. فلا يملك الرجل إلا أن يقول هذا هو والله النصف.

 دعني أسمعُ منك خير ما عندك بألطف عبارة من غير استعلاء ولا استفزاز واسمع خير ما عندي، بالشرط نفسه،  ثم دعنا نرى ماذا يكون.

 يقولون إن من التلطف في الدعوة، أي دعوة، أن لا يواجه المبشِر بها المدعويين بما يكرهون أو بما يسبق إلى عقولهم وقلوبهم إنكاره. قليلا ما تنجح الدعوة بالصدمة، إبراهيم عليه السلام، يكسر الأصنام. قالوا احرقوه وانصروا آلهتكم.

 وكما وجدنا في طرائق العلمانيين العرب في المقال السابق بعض ما أوردنا عليهم منبهين، نعود اليوم للحديث عن حملة (المشروع الإسلامي) ببعض التنويهات الأساسية في طرائق تقديمهم لهذا المشروع العظيم، وطرائق تمثل بعضهم له أيضا.

 فالثغرات في منهج هؤلاء وأساليبهم ليست أقل، مع إقرارنا بحسن القصد وسلامة النية، فلا أحد في دائرة العصمة، وليس في هذه الأمة بعد نبيها  إلا من رد ورُد عليه.

 والمشروع الإسلامي في أفقه الكلي، ولا نريد أن نستعمل الشمولي لما لحق بلفظ الشمولية من ظلال سلبية، هو مشروع: للإيمان بالله والعمل الصالح، في تجسدات العمل الصالح المفتوحة على متغيرات الزمان والمكان.

 تتعدد الشعائر وتتفرع الشرائع، وتتكاثر الفروع، ويختلف الناس حول الجزئيات، ويبقى جُماع المشروع الإسلامي وجوهره وقوامه ومناطه: إيمان بالله وعمل صالح. بهذا التعميم المفتوح على المسلم أن يؤسس لمشروعه، وأن يعلن عنه.

 بضع وخمسون  آية في القرآن الكريم تربط الفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة  بالإيمان والعمل الصالح، في أفق مفتوح على أركان الإيمان وسنن العمل الصالح: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) .

 وإنه من الظلم الكبير لكلمات الله أن يُحاصر تصورُنا  للعمل الصالح في أنماط طقسية محدودة، نرضى بأدائها عن أنفسنا، أو نلقي بالقيام باستحقاقاتها عن كواهلنا عبء الاستخلاف الثقيل.

 مرة أخرى إيمان وعمل صالح هو الذي يبشر به المسلم ويدعو إليه، ويختصر الفروع والأصول تحت عنوانه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم. كلمتان جامعتان مبشرتان يمكن أن تكونا محط المشروع الإسلامي ونقطة لقاء يلتقي عليها من أبناء هذا الدين الكثير.

 ومهما يكن في حوامل المشروع الإسلامي من أفراد وجماعات وقوى وأحزاب ومدارس واجتهادات، فإنه لا يجوز لفريق، أي فريق، أن يعتبر نفسه صاحب المشروع، أو المهيمن عليه، أو الناطق الوحيد باسمه، أو المحتكر للصواب والرشاد في رؤيته والقيام بحقه، والدفاع عنه. الإسلام ليس ثوبا ولا دارا ولا عقارا يتنازع عليه الناس. وقوله تعالى (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) تقرر أن الحظوظ في الاستيعاب أو في التفاعل أو الأخذ ومن ثم العطاء تتفاوت. ولنقبل أنه من صح منه الأصل قُبل منه العمل الصحيح وإن قل.

 وحين ينفي الداعية المسلم عن نفسه (غريزة الاستئثار) بالدائرة. وأقول غريزة لأن حب التملك والتفرد بعض سجايا الإنسان الأولية؛ فإن على هذا الداعية أن يعلم أن واجبه الأول هو إدخال الناس إلى هذه الدائرة وليس نفيهم أو نبذهم عنها. عليه أن يحتال لإبقاء الناس فيها لا أن يتفنن بالبحث عن الدواعي التي تقطع ما بينهم وبينها.  ليست هذه دعوة لتمييع محيط الدائرة، ولكنه فقه دعوي مقرر ومؤصل أن الإنسان لا يخرج من دائرة الإسلام إلا بجحود ما أدخله فيها. ومن هنا يكون  على الداعية المسلم واجبان الأول الحفاظ على شركائه في هذه الدائرة، من خلال الاعتراف بشراكتهم اعترافا يؤهلهم فيكرمهم ويشعرهم بالمسئولية والأهمية والدور وينتقل  بهم من خلال كل ذلك من محيط الدائرة وهامشها إلى مركزها.

 في منهجية الحوار أقصر الطرق إلى العقول والقلوب أن تقول لمخاطبك:  ربك... دينك... قرآنك ... نبيك.. تاريخك... أمتك وطنك... قومك.. عشيرتك..هذا الخطاب هو الجسر نحو الشراكة التي نبحث عنها، وليس خطاب الاستئثار والنبذ بالتفسيق والتضليل والتبديع والتكفير.

 خلاصة مهمة هنا ينبغي أن نركز عليها أكثر أن المشروع الإسلامي الذي ينبغي أن يبشر به كل العاملين في الحقل الإسلامي على اختلاف الموارد والمشارب، ليس مشروع فئة ولا حزب ولا جماعة ولا فرد، بل هو مشروع الأمة كل الأمة، هو مشروع الثوب تُمسك كل بطون قريش بأطرافه ليرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه الشريفتين الحجر الأسود إلى مكانته.

 ثم يقلقنا في موقف البعض أن يتحول الالتزام بالمنهج إلى مجرد إعلان  وشعار. وسنكتفي بالإشارة الرمزية إلى اللحية والحجاب. هذه الرمزيات الشعائرية إعلان طيب يشكل أحيانا ألوانا من الاستجابة لجملة التحديات المفروضة على الأمة، التحديات الحضارية والقومية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية.  ولكن لابد أن تنتظم في سياق الإعلان عن هذه الشعائر الشعار، منظومتان من القيم؛ الإيجابية التي تقترن، والسلبية التي يجب أن تُنفى؛ تحلية وتخلية تسبق أو تصاحب، ويصح أن تتبع ولكنها لا بد أن تحضر. واعتقد أنها لو حضرت لأثمرت ما غير حال الشعوب والأوطان. من المنظومة السلبية التي ينبغي أن تنتفي من حياة حملة الشعار أضرب مثلا سريعا في عاهات مجتمعية استعاذ رسول الله منها: الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل. هل يعلم من يعلن انتماء للمشروع الإسلامي في أي صورة من صور الانتماء أنه لا يمكن أن يكون صاحب لحية أو صاحبة حجاب  وهو كسول عاجز متراخ (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ). قال لمثله عمر رضي الله عن عمر: (لا تمت علينا ديننا أماتك الله). وقالت لآخر مثله عائشة رضي الله عنها: رحم الله ابن الخطاب فقد كان والله زاهدا حقا، كان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع.

 أعتقد أن تحرير مفهوم العمل الصالح بأبعاده كافة هو بعض الواجب في مدرسة السلوك العملي وليس فقط في مدرسة التقرير النظري. ليصبح الإنجاز في كل مضاميره من العمل الصالح، والإتقان في أرقى مستوياته من العمل الصالح، مثله مثل العبادة بل ربما تقدم في بعض المقامات عليها، قال (ذهب المفطرون اليوم بالأجر )، وسأل عندما ذكروا من عبادة رجل وصلاته وصيامه: أيكم كان يخدمه؟ قالوا كلنا كان يخدمه، قال كلكم خير منه. هذا هو دينكم وهذا هو نبيكم يا مسلمون..

 ثغرة أخرى في موقف البعض من حملة المشروع الإسلامي أن تتضخم بعض الفروع من أمر هذا الدين في عقول بعض الدعاة إلى هذا المشروع، فيختزل هذه الدوحة العظيمة في هذه الشعيرة أو تلك من شعائر الإسلام. وقد تكون الشعيرة في حد ذاتها أدبا من الآداب، أو مندوبا من المندوبات، أو من المكروه لغيره، أو من المحرم سدا لذريعة، فإذا هي فجأة الإسلام كله!! من أحرزها نجا وفاز، ومن ضيعها وصف بالكفران وباء بالخسران.

 منهجية اختزال أو اجتزاء دوحة الإسلام العظيم تصدر عن نفس العقل الذي اختزل واجتزأ العلمانية في عنوان مثل (فصل الدين عن الدولة )، أو في تمكين صاحب إرب من إربه على رؤوس الناس؛ لأن طبيعة العقل الإنساني تتشابه في أطوارها وإن اختلفت توجهاتها أو محمولاتها. ورحم الله الدكتور الجابري الذي أتحفنا منذ عقود بما قدم تحت عنوان نقد العقل العربي. وهكذا يختزل المشروع الإسلامي المتمثل كما أسلفنا في مشروع (للإيمان والعمل الصالح)، أي إيمان بالله الواحد الأحد والتزام أخلاقي راق على الصعيدين الفردي والجماعي، هكذا يُختزل الإسلام  في بعض المظاهر الشكلية: طقوس ومظاهر؛ طول ثوب وسواك ولحية و برقع وحجاب.

 من حيث المبدأ أعتقد أن الإسلام وكذلك المسيحية لم يكونا أبدا دينا لشكل. وحين نتابع المظاهر الاحتفالية الطقسية الدينية والزي الديني لبعض علماء الإسلام، وكذا اللباس الكهنوتي المسيحي ندرك أن هذه (الأنماط الشكلية) لم تُؤثَر لا عن عيسى ولا عن أحمد عليهما السلام.

 إن أحد مقاتل حملة المشروع الإسلامي انشغالهم بالفرع عن الأصل. فلا يمكن والعالم يموج بما يموج به من معطيات عقائدية وفكرية وعلمية تستهدف البنيان من القواعد  أن نجد بعض المسلمين يستنفر لحفر الخنادق وإقامة المتاريس ونصب المجانيق لمن خالفه في عدد ركعات صلاة التراويح!! أو أن يؤلف من يُسمى (داعية في الولايات المتحدة) رسالة في ( رفع العتب في النزول على الركب) وقد اختلفوا في الساجد ينزل أولا على ركبيته أو على كفيه..!!

 وهكذا تتحول الشكلية إلى قضية، والقضية إلى عقدة ولاء وبراء، ومفاصلة ولقاء. وما أكثر القضايا الشكلية أو الجزئية، أو الفرعية ولا أقول ذلك استهانة بشعيرة من شعائر هذا الدين، ما أكثر ما تحولت هذه الجزئيات التاريخية أو الحداثية مادة للصراع وسببا من أسباب التفتيت، وعنوانا من عناوين تقزيم المشروع الإسلامي، أو تخويف الناس منه. رحم الله الإمام البنا يوم قال لئن نجتمع على قليل من الخطأ خير من أن نفترق على كثير من الصواب. حتى هذا القول قرأت للكثيرين من الذين يدّعون الانفراد بالحقيقة، يفندونه ويردون عليه. والأخطر أنهم يفعلون ذلك باسم صاحب منهج: افعل ولا حرج.

 وثغرة أخرى  يفتحها بعض حملة المشروع الإسلامي على أنفسهم وعلى دينهم ، وهي لا تقل خطورة عما سبق : ثغرة إشعال الحرائق الصغيرة، وإطلاق النفير لإطفائها.

 أجد حرجا، خوف سوء الفهم من مقاربة هذا، ولكن لا بد من القول فيه. فلقد أصبح الكثير من حملة المشروع الإسلامي أشبه بالخشبة الطافية على سطح الماء، تتقاذفها أمواج أصحاب الأهواء. مع كل صباح صوت صفارة حريق؛ ودعوة صريحة يا للإسلام!!! ومن تخلف نُبذ واتُهم، ومن أجاب استُنزف وشُغل.

 كان الناس في  الأحياء الشعبية يطلقون على الحي اسم ( الصايح ). والصايح تعبير عملي عن المدى الذي يصل إليه صوت المستغيث إذا استغاث ( يا سامعين الصوت ). واليوم أصبح الصايح عالميا، فهذا ينادي عليك من الدانمرك وذاك من نيويورك وثالث من باريس ورابع وخامس..

 ثم ترى بعض الناس حمل مجهرا الكترونيا  يقلب ثنايا الحرف أو الصورة أو الرأي لعله يجد ما يدب من أجله النكير أو يعلن النفير!! فهذا رسام رسم ما نكره، وذاك شاعر شبه تشبيها غير لائق، وثالث مفكر يلزم من كلامه ما يلحقه بابن الرواندي، وهناك مغن تغنى بما لا يحق له؛ ثم يهيج الرأي العام، وتُستنفر همم أهل الإسلام، وترفع الدعاوى الحقوقية، حيث أمكن، خوفا وغيرة على الإسلام وأهله!! وكأن الإسلام بناء من طين تذهب بجبله الراسي قرون من عجين.

 يزعمون إن أبا العلاء المعري قد كتب كتابا سماه ( الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات )، وإنه قيل له: إنه ليس عليه طلاوة القرآن، فقال انتظروا حتى تصقله الحناجر في المحاريب أربع مائة عام!! ومع ظني أن الرواية موضوعة على العاقل الفيلسوف أبي العلاء. فإن الكتاب الذي وضع حسب الرواية لينافس القرآن أصبح من منسيات التاريخ، ومن أقلَّ ما ترك أبو العلاء ذكرا. وبلأي عثرت على نسخة منه في أيام فتوتي في المكتبة الوطنية في حلب وهو مطبوع تحت عنوان (الفصول والغايات في تمجيد الله). والكتاب على جمال ما فيه وقوة مبانيه وفرادة معانيه أصبح نسيا منسيا.

 على حملة المشروع الإسلامي أن يكونوا أكثر ثقة بدينهم وأكثر فهما لمشروعهم. وهذه ليست دعوة إلى البلادة، ولكنها دعوة إلى الرصانة. عندما يسير المرء قاصدا لا ينبغي أن تشغله الشواغل الصغيرة عن هدفه العظيم، ولو كان الشاغلُ ( أبا جندل) يوم الحديبية.  مرة أخرى لا يجوز أن تخطف بُنيَّاتُ الطريق المسلمين عن السير القاصد إلى الهدف الجامع..

 ثم تلمح في منهجية بعض حملة المشروع الإسلامي ما يمكن أن نسميه ( ذهنية أو ذُهان التحريم ) أو منطق الرفض. ذهنية التحريم عنوان مقتبس عن مفكر سوري، أؤكد في هذا السياق على البعد اللغوي لهذا العنوان، وهو يشير إلى حالة فقهية ظلت سائدة ربما منذ توقف علماء الإسلام عن الاجتهاد. ثمة خلاف أصولي إسلامي هل الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر؟ ذهنية التحريم التي أشير إليها أو مدرسة الحظر والمنع والرفض تناقض تماما المنهجية القرآنية (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا..) المنهج القرآني يؤكد طلاقة دائرة المباح، واتساع رقعة الحلال، وضيق دائرة المحرمات ومحدوديتها. منهجية قرآنية ونبوية يجب أن تسود عقول وقلوب المسلمين. كل الحديث عن سماحة الإسلام ويسر الشريعة تتلاشى أمام ذُهان مرضي يتفنن صاحبه  بالبحث عن علة للتحريم والإغلاق والتضييق. في الحديث عن الفتوى ينصون على أن (الفتوى رخصة تأتيك من فقيه أما التشدد فيحسنه كل أحد).  من التصورات الخاطئة أن يرى البعض أن الميل للتحريم أتقى لله وابرأ للذمة!! مع أن القرآن الكريم صريح وواضح: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ). وإثم التحريم من غير دليل نفس إثم التحليل بغير دليل.

 وفي الحديث الشريف: (وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تسألوا عنها). والإمام الشاطبي في كتابه الفريد الموافقات يتحدث بإسهاب عن دائرة العفو. وهي دائرة مفوضة للخيار الإنساني في استصحاب ما يحب الإنسان لنفسه ودرء ما يكره عنها.

 جلس نافع بن الأزرق بين يدي ترجمان القرآن عبد الله بن عباس في البلد الحرام والمسجد الحرام والأيام الحرم يسأله ويكثر عليه حتى سأله عن دم البراغيث يصيب ثوب الإنسان؟! قال ابن عباس له: يا أهل العراق قتلتم ابن بنت رسول الله وتسألون عن دم البراغيث؟!! ومر به عمر بن أبي ربيعة، فنادى عليه ترجمان القرآن: هل أحدثت بعدنا شيئا يا أبا الخطاب؟ قال نعم،  فاستنشده فأنشده رائعته في الحرم في الأيام الحرم وأقول هذا تأكيدا:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكـر     غداة غـد  أو رائـح فمهجــر

تحن إلى نعم فلا الشمل جامع     ولا الحبل موصول ولا أنت تقصر

ولا قرب نعم إن دنت لك نافع     ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر ..

وفي القصيدة أبيات أحفظها كما حفظها ابن عباس رضي الله عنه ولكنني لست في جرأته لأرويها.. نعم لا أجرؤ على روايتها حذرا وحيطة...

فهل في هذا من بلاغ.

              

(*) مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية