متى يثوب المسلمون إلى رشدهم ؟

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

كل يوم تطالعنا وسائل الإعلام المختلفة من صحف وفضائيات ، بأخبارعن واقع المسلمين المأسوي المرير في شتى بقاع العالم والأصقاع ، فلا يكاد يوم يخلو من مؤامرة تحاك أو مكيدة تدبر، أو لعبة تحبك خيوطها ، أو مجزرة تنفذ فصولها ، أو حرب تسعّر بين شعبين مسلمين .

إن أعداء الإسلام لا يكفون ليل نهارعن الكيد لهذا الدين والمكر بأهله ، وإن تغيرت أساليبهم وتنوعت حروبهم مع تغيرالزمان والأحوال وتبدل الظروف والأوضاع ، فلقد أسفرت عداوتهم في الأيام الغابرة مكشرة عن أنياب الحقد والكراهية ، فحشدت حشودها وجمعت صفوفها ودفعت بجحافلها إلى بلادنا بحروب صليبية ضارية ، وبعد أن اندحرت وعادت أدراجها تجر ذيول الهزيمة والعار خائبة خاسرة ، عادت إلينا أدراجها بستار آخر ، هو الإنتداب حينا  والوصاية حينا آخر ، وتارات أخرى بالإحتلال والغزو والإستيطان أو ... الإستعمار ! .

ثم تكشّف أمرها وتعرّت حقيقتها وبان خطرها وافتضح سرّها ، وانتفضت الشعوب الضغيفة المقهورة تعلن الثورة والجهاد ، وتقدم الشهداء والتضحيات لتتحرر من ربقتها وتطردها من أوطانها ، فراحت تعد الخطط وتكيد المؤمرات لتشويه جوهرهذا الدين ، مستعينين على ذلك ببعض أبناء جلدتنا الذين يعيشون بيننا بأجسادهم  ويقاسموننا خيرات  أوطاننا ، إلا أن رؤوسهم وعقولهم تربض هناك عند أعدائنا ترضع من لبان سمومهم ، وتتغذى بحقن الحقد والشبهات في محاولة للنفاذ إلى صميم هذا الدين بذاك الأسلوب الماكر الخبيث ، فيهيئون لهم مؤتمرات هنا واجتماعات هناك ومحافل مشبوهة في مكان آخر ، تبرز في ظاهرها أهدافا إنسانية ، وترفع شعارات براقة ، وهي في حقيقتها تبطن حقدها الدفين ، وأهدافها المعادية المشبوهة وعصبياتها النتنة ، ومشاريعها المسمومة .

فهنا بعثة طبية ، وهناك منظمة إنسانية ، أو مؤسسة اجتماعية ، أو هيئة تعليمية ، أو مساعدات إنسانية ، أو ندوة ثقافية ، أو محفل خيري !  وغيرها من هذه الأغطية الكاسية العارية والأغلفة الناعمة الرقيقة ، أكثر نعومة من جلد الأفعى  وأشد سما من لدغتها ،  ولكن حقيقة أمرهذه الواجهات المزيفة  ومكمن سرّها وشدة خطرها ، لا يخفى على كل مسلم واع متبصر .

 ولكنها وللأسف الشديد تلقى بعض الآذان الصاغية ، وأرضا مهيأة خصبة من بعض المتنفذين وأصحاب القرار ، مما يقدم لها من الأسباب والشبهات الكاذبة  للمضي في خطتها والإستمرار في مهمتها ، ومضاعفة نشاطها بشراء الذمم  والضمائر، ببعض مراكز ومسؤوليات هنا ، أو أموال تدس في الحسابات هناك ، والمسلمون يرقبون ذلك على مرأى ومسمع ، مكتوفي الأيدي كأنما خيّم الطيرعلى رؤوسهم وعقد ألسنتهم  ، وما ينطلق من احتجاجات هنا ، وشجب هناك لا يعدو زوبعة في فنجان ، فأغلب هؤلاء المحتجين والشاجبين هم أناس يملكون البصيرة ويتألمون لواقع أمتهم ، ولكن لا إرادة لديهم ولا يملكون قرارا للتغيير، اللهم إلا محاولة توعية الشعوب والجماهير .

حتى إذا ضمن الأعداء أصحاب الإرادة والقرار في صالحهم  ، برشوة كرسي لهذا  أو مال لذاك أوغسيل مخ وقلب الحقائق لآخرين ، أصبحت الأبواب أمامهم مفتوحة أكثر للتحرك في بعض المواقع  علانية واللعب على المكشوف ، فلقد شغلوا كل أرجاء  وشعوب العالم الإسلامي بمشاكل ومصائب ، لا تسمح للمرء أن يفكر أو يحتج  خارج منطقته ، هذا إن سمح له بذلك .

فبينما يتعرض المسلمون للغزو والإحتلال من جديد ! في العراق وأفغانستان ، وتحت شعارتحرير الشعوب من حكامها الذين لا يسيرون على هواهم ، لإعطائهم الحرية وزرع التجربة الديموقراطية على الطريقة الأمريكية  بقتل  مئات آلاف الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال ، وإثارة النعرات الطائفية والإثنية ، وتدمير البنية التحتية ، ونشر الفساد المالي والإداري والأخلاقي بكل أنواعه ، وشيوع البطالة والفقر والتسول ، واعتقال الأحرار ، واغتيال الطاقات  ، ووأد المواهب ، وتهجير العقول ، وتدمير وتخريب وإفساد كل ما في البلاد والعباد .

 أو يتعرض الفلسطينيون لاغتصاب أراضيهم وتهويد قدسهم والاعنداء على أقصى المسلمين ، وتهجيرهم من أوطانهم وتدنيس مقدساتهم ، وقتل الأبرياء من نساء وشيوخ وأطفال بطائراتهم وقنابلهم العنقودية والفوسفورية  وغيرها ، وممارسة الاضطهاد العنصري الصهيوني ، والمذابح الجماعية بحق العزل ، واغتيال مجاهديهم ، واعتقال أحرارهم ، وحصارهم في غزة ، ومنع الطعام والشراب والكهرباء والوقود عنهم  ، من قبل هذا الكيان الصهيوني الشائه الهزيل ، الموغل في الإجرام  والدموية  ، وللأسف فإن ذلك يحصل بمباركة أيد عميلة داخلية ، باعت ضميرها وجندت نفسها لمصلحة هذا الكيان ،  مقابل دريهمات رجسة يقبضونها من أعدائهم .

والمسلمون في أماكن أخرى تجدهم يتعرضون للذوبان العقائدي والفكري ، والإضطهاد العنصري والهيمنة بكافة أشكالها وأنواعها ، اقتصادية وسياسية وعسكرية .

 وفي الطرف المقابل مئات الجامعات والمعاهد في أمريكا وأوربا تخرج " المبشرين " ومعاونيهم ويدفعون بالتنصير بما أوتوا من قوة في بنجلادش وإفريقيا وجنوب آسيا ، مستغلين أوضاع الناس وأحوالهم مما هم فيه من فقر وجوع وجهل وتخلف .

وتنظر إلى واقع المسلمين فترى بعض الحكام في أرض المسلمين يعينون أعداء المسلمين في تنفيذ مخططاتهم مقابل تثبيت كراسيهم وعروشهم ، ويسيرون في نهج مستبد سافر ، يلجمون الألسن ويكمون الأفواه ، ويسحقون شعوبهم بالحديد والنار تحت اسم الديمقراطية ، وشعار الحرية ..... ! والويل الويل لمن يتجرأ على البوح  بأسرار النفس  وخلجات الصدر وحديث الضمير ، وآخرون منهم    مشغولون في مشاكلهم  الإقتصادية أو الإثنية أو الطائفية داخل بلدانهم ، والتي خلقها وغذاها أعداء المسلمين من أمبرطوريات الشر ، أو جعل هدفه الأسمى حفاظه  على  كرسيه ، وتوريثه من بعده لإبنه في أنظمتهم  الجمهورية، حتى حولوها إلى ممالك بلا ملوك !  .

 ولا بد من دفع الضريبة كاملة  وتقديم التنازلات ليشتروا دعمهم للإضفاء على الوريث الجديد حلة الشرعية الدولية  ، متجاهلين ما يدعونه  ويطالبون به من شورى ... وحرية .... وديموقراطية ،  فهذه ألفاظ  مطاطة تأخذ المقاس الذي يناسب مصالح هذا المشرع الظالم ، الذي يطبق هذه المعايير في بلادهم ، ويدعمون الإستبداد في بلادنا .

وعندما تقف لتستعرض واقع أحرار المسلمين ، من جمعيات ومؤسسات ومنظمات أو حكومات وشعوب لمواجهة تلك المؤامرات والمكائد والخطط المحدقة بهم ، فترى وتقرأ وتسمع كل يوم :

خطة جديدة للدعوة الإسلامية ، مكتب اسلامي لمقاطعة الأنظمة المعادية ، اعتبار فلان ... وحكومة كذا  ... ضمن القائمة السوداء ، دراسة جديدة للتنشئة الإسلامية ، لن نتسامح أمام اضطهاد الأقليات المسلمة ، ندوة إسلامية للذبح الحلال ، تدشين  متحف إسلامي ، مدينة كذا عاصمة للثقافة الإسلامية ، مناظرة تاريخية ....  ، نشجب .... نستنكر .... ندين ... ما يتعرض له المسلمون من قتل ... دما ر .... إبادة ..... حصار ...

هكذا خطط وجمعيات ومكاتب ومناظرات ومتاحف وندوات وشجب وتنديد واستنكار بالرد على ما يحصل من القتل والدمار والخراب والحصار ، وعندما تستقرأ الواقع فلا تجد ذلك  الشجب والإستنكارأكثرمن حبر على ورق ، فيعتصرنا الأسى والألم ونسخر من أنفسنا ، ونتحسر على أيام خلت من تاريخ أجدادنا الأشاوس بمحاولة هروب من هذا الواقع المرير ، بعدما آلت إليه أوضاعنا وتحولت إليه أحوالنا من الضعة والمذلة ، وبين ما كان عليه أجدادنا من القوة والعزة  ، والمنعة  والسؤدد .

لقد اصبحنا في واقع كثرت فيه الأقوال واستفحل فيه الجدال ، وقلت معه الأعمال ، وندرت بطولات الرجال وإخلاصهم وتضحياتهم ، وركن المسلمون إلى الدنيا وألمّ بهم الوهن .

أما آن لحكام المسلمين أن يعودوا إلى شعوبهم ويوثقوا صلحهم معهم ، ويركنوا إلى دينهم  وقيمهم ، ويتحرروا من ربقة الأعداء ، ويتمردوا على تعليماتهم ، ويتجاوزوا توصياتهم ، التي لا تأتي على المسلمين بغير المصائب والمآسي ، فتنظر الشعوب إلى الحكام نظرة التعاون والشراكة ، فتعود اللحمة بينهم  ويتحدون معا لبناء الوطن الواحد ، لإعلاء كلمة الإسلام  والحفاظ على سيادة  الوطن وعزته ، والتصدي بقوة  وحزم ضد أعدائه ، وإفشال جميع مخططاته ، والسعي معا لأمنه وسعادته واستقراره .

أما آن للمسلمين أن يعوا ويستوعبوا حقيقة ما يدبرمن حولهم  فيكفوا عن الجدل الذي لا ينتج عنه غير الخلافات والفرقة  والشقاق فيما بينهم ، فيجندوا القوى ويحشدوا الطاقات ويوحدوا الصفوف ، حكاما ومحكومين ، ليوجهوا هذه القوى مجتمعة ضد أعداء الأمة .

إن أعداء الإسلام مع اختلاف دياناتهم ومذاهبهم وأنظمة حكمهم ، وتباعد أراضيهم ، وتعدد قومياتهم  ، واختلاف ألوانهم ، وتنوع ألسنتهم ، قد جمعوا كلمتهم  ووحدوا صفهم وحشدوا طاقاتهم  ضد أمتنا وشعوبنا ، ليذلوا أبناءنا ويتقاسموا خيراتنا ، ويفرغوننا من ديننا وقيمنا ومبادئنا .

فمتى سيثوب المسلمون إلى رشدهم  فيتآزروا فيما بينهم ويتكاتفوا ويتعاضدوا ، ويوحدوا صفوفهم ويعدوا عدتهم ويجمعوا زحوفهم ليزجوا بها في مواجهة العدو المتربص بنا ، ويكفوا عن الخلاف السقيم والجدل العقيم والتشتت الأليم  والتعصب الذميم ، فإن دحر أعدائنا وقيام دولة اسلامية موحدة تتخذ من الكتاب والسنة تشريعا ومرجعا ، كفيلة بإنهاء كل تلك الخلافات الفرعية  التي يثيرها أصحاب النظرة القصيرة والتفكير السطحي والنفوس العجولة ، وتحول أقوالنا إلى أفعال ، وندواتنا ومؤسساتنا وجمعياتنا إلى أنشطة هادفة بناءة ، وإدانتنا وشجبنا واستنكارنا إلى مواقف جادة يتبعها ما يستوجب من حركة وتحرك ، ويحسب أعداءنا لها ألف حساب .

فمتي يثوب المسلمون إلى رشدهم  ؟ .