العقل النقلي والعقل النقدي
د. خالص جلبي
يروي (كون كوجان) في كتابه (صدام الحياة السرية) نهاية عبد الكريم قاسم، ورحلة التآمر البعثي لالتهام العراق قبل أن يعاد التهامه في بطن الحوت الأمريكي، من بطن سمك قرش ضاري إلى ديناصور في السفاري، كيف عرض التلفزيون العراقي ليلة بعد ليلة، كيق ثقبوا جسده بالفشك .. كيف تهاوى .. كيف أمسك برأسه وغد يملأ وجهه بالبصاق.. عرضت الصورة ليلة بعد ليلة.. ولأنه جثته وضعت في عمق غير كافي فقد أكملت الكلاب البقية بنهش لحمه، وإذ روع الفلاحون فعمدوا إلى ستره فجاءت شرطة عارف والبكر فدفنت الجثة الممزعة في مكان سري..
تناوبت هذه الفصول المروعة العراق ومازالت في شاهد على ثقافة عنف لاعقلانية تسيطر على شعب فقد بوصلته التاريخية..
والعراق نموذج من نماذج شتى في عالم العروبة الغارق بالعنف والتعصب والأصولية والتجمد بل وموت الثقافة التدريجي كما مات عارف وانتهت العائلة الملكية في العراق بحفلة دموية ملكية تذكر بنهاية الأمويين من قبل على يد السفاح ..
علل الثقافات وموتها
تصاب الثقافات بثلاث علل بالتطرف كما في الفاشية والنازية والبعثية والصهيونية؛ فالجميع من نفس ملة العدوانية والسمية.
وتصاب بالتجمد كما في السلفية والأصولية فتصاب بالشلل.
أو تصاب الثقافة بمرض الموت فتذوب في ثقافة أعلى وأقوى منها كما يحصل مع دول الخليج والثقافة الأمريكية..
وموت الثقافات أمر يصعب أن يراه الإنسان في حياته القصيرة ولكن يطلع عليه من بطون كتب التاريخ، كما حصل مع الثقافة الفرعونية والغالية والقرطاجية، فلم يعد فرد واحد يصلي لآتون وآمون، ولم يبق فرد واحد ينطق الهيروغليفية والديموطيقية.
أو قد تتطور الثقافة بحيوية غير عادية، فتنتعش وتولد ولادة جديدة، ولكنها لعبة خطيرة، يشبهها المؤرخ دون آرنولد توينبي بتبادل الخيل لفريق يجتاز ممرا مائيا شديد الانحدار والتدفق.
ويعتبر مالك بن نبي أن نموذج (محمد إقبال) أفضل ماتفعله الثقافة بامتصاص النسغ الحي من حضارة مغايرة لأخراج ثمرتها بالذات على نحو أفضل، وهي تقنية يفعلها البستانيون، حين يضعون نباتا مقتلع على جذع نبات آخر، فيخرج المزورع بثمرته وهويمتص أفضل ما عند الجذع الغريب المغاير.
إنها فلسفة عميقة لحياة الثقاقات أو موتها.
ويبقى الحزبي أعمى أيا كان، من أي فصيلة وملة، وكل حزب بما لديهم فرحون ومن أراد الطهارة والصفاء العقلي، عليه توديع حزب الشيطان وحزب الرحمن، والدخول في دين الإنسانية كما فعل سقراط ومحمد ص وسبينوزا وايراسموس وابكتيتوس والمسيح ومارتن لوثر وغاندي وعبد الغفور خان وجودت سعيد.
والعالم الإسلامي في عمومه اليوم ما زال في رحم التقليد يتعرض لتسونامي من رياح التغيير، وهو يواجه هذا التحول الكوني بآليت من التي ذكرناها، ولعل المرضين الذين ابتليت بهما المنطقة بين التطرف والجمود هما تعبير حاد لجسم ينهار بالصدمة الثقافية..
العقلية النقلية والعقلية النقدية
يمتاز العقل (النقلي) بثلاث صفات: (تمرير الأفكار) بدون مناقشة و (تكرارها) بدون تمحيص و(تبريرها) بل والدفاع عنها حتى الموت.
فبالأولى يتحول العقل إلى (وعاء) يضم (كما) فوضويا من الأفكار بدون نسق معرفي (الابستومولوجيا).
وبالثانية تتشكل الدوغمائية (1) لأن أفضل تعريف لها هو حمل أفكار متضاربة تصل إلى درجة التناقض بدون شعور حاملها بذلك.
وبالثالثة تتشكل (العقلية أحادية الرؤية) المريرة، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص، مبني على الراديكالية (التطرف)، فالوجود أبيض أو أسود، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس أو دنس حقير، معنا أو ضدنا، كما زعم بوش في حربه على الإرهاب، أو بتقسيمات الآخرين إلى فسطاط الكفر والإيمان!!
ويفهم النشاط الإنساني بذلك ليس على تحرير العقل، بل اصطياد الإتباع، وبناء حلقات الدراويش الجدد، فمع العقلية النقلية تنمو الحافظة، ويزداد التقليد، يشتد التعصب، ويتعمق اتجاه العنف، ويتحنط العقل، ويتوقف النمو، ويتعطل التطور، وتصبح الحياة مستحيلة؛ بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد لا مجال فيه للمراجعة، فلا غرابة أن يتحول المجتمع (كمونياً) إلى ما يشبه الحرب الأهلية المبطنة، طالما كان البشر مستحكمين في خنادقهم الفكرية بحالة عداء مع الآخرين.
العقلية النقلية تسبح بين (الاطمئنان البارد) أنها ملكت مفاتيح الحقيقة الحقيقية المطلقة، و (كراهية الآخر) المارق.
ومع الكراهية تتبرمج (الحرب) سلفاً ، لأن رصيدها بالنفوس تشكل وتحدد.
أما العقل (النقدي) فيقابل المعطيات السابقة، بتحول العقل إلى آلة ذات وظيفة مزدوجة تقوم على (تنقية وغربلة) الأفكار القادمة من العالم الخارجي، كما تقوم على (تأمل) الكون والطبيعة الإنسانية وعالم النفس الداخلي.
وطالما قامت بوظيفة (المراجعة الدءوبة) فإنها تتحول إلى نسق فكري منهجي، وأداة وعي حادة، تشارك في بناء تراكمي للمعرفة، فتوليد النمو في الحياة وتحويلها إلى شيء جميل أخاذ.
ولأنها تحولت إلى نظم (تردد - FREQUENCY) يشبه سريان التيار الكهربي، فهي تكتشف أنها فقط وبالمحاولة يمكن أن تعي العالم، مع احتمال الخطأ اللازم والدائم في كل محاولة، والحياة مثل ( الطريق السريع) ذو اتجاه مزدوج، وهذا يقود بالتالي إلى الانفتاح على الثقافات والعالم والآخرين والحب؛ لأن جوهر الحب مشاركة، ولب الكراهية ارتداد على الذات ونفي الآخر، فالعقلية النقدية سلامية، تقود إلى السلام الداخلي والسلام مع الآخرين.
هذا التكوين (الطفلي) ببناء العقل النقلي للعقل له آثار اجتماعية مدمرة، فإذا اختلف السياسيون تراشقوا بتهم العمالة والخيانة، وإذا احتدمت المناقشة بين متبايني الآراء كفَّر بعضهم بعضاً وقذف كل فريق بالآخر إلى سقر!!
إما إذا ملك الشباب ليس (الكلام والفتوى) بل السلاح ؛ فنموذج (كابول) والصومال والجزائر والعراق جاهزة، فلا يُتْعب أحدهم ذهنه؛ في إمكانية أن الطرف الآخر مجتهد، وأنه قد يكون (مخطئ) لا أكثر، كما نقل عن الإمام ابن تيمية أن من عادة أهل البدع أنهم (يُكَفِّرون) ومن عادة أهل العلم أنهم (يُخَطِّئون).
نتائج مراجعة الذات
ويتولد من نموذج العقليتين إما فتح الطريق للحوار عندما يُفترض (الخطأ ) أو الطريق للحرب عندما تفترض (الهرطقة) .
إن القرآن لم يردد عبثاً وفي صور شتى، مصيبة مرض (الآبائية) التي تعني بكلمة أخرى تعطيل العقل عند مواجهة الحقائق الدامغة، فما لم ينكسر التقليد لا يبدأ العقل في النبض والخفقان والحياة، فضلاً عن الإبداع، وما لم يتخلص العقل من ضغط البيئة، عند مواجهة الكوارث والمصائب، بتحرير منهج (الشك) فإنه لن يصل إلى شاطئ اليقين، لأن هناك متلازمة بين الأسباب والنتائج، والعقلية النقلية لا ترى ربطاً بين الأمرين، والعقلية النقدية تقوم على الربط المحكم بين السبب والنتيجة، فلا صدفة في الكون ولا عبثية.
وعندما تحدث الأغلاط ؛ فإن خللاً في مستوى ما قد حدث؛ فإذا انهدمت بناية، أو مات مريض، أو توقف جهاز عن العمل، أو حلت هزيمة عسكرية أو تردي اقتصادي، أو نكبة حضارية، فيجب أن نفترض أن خطأً ما قد حصل، وليس لأن قوى لا نعلمها أو نحيط بها هي المتسببة في ذلك، فالعقلية الأولى تفضي إلى المراجعة، والثانية إلى تكريس الخطأ ونموه، وهذا مبدأ قرآني (قل هو من عند أنفسكم) ( 2)
ينكفيء العقل (النقدي) على الذات ليكتشف العالم الداخلي، لإنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي (الذات)؛ فالسعادة هي فيض داخلي، قبل أن تكون (جمعا) للأشياء خارجيا.
وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها، وهو ماهدف إليه القرآن في (التزكية) فزحزحة النفس من عالم (العفوية) وعدم المراجعة، أو بتعبير القرآن (الأمَّارة بالسوء) إلى عالم (الانضباط) والمراقبة، أو بتعبير القرآن (اللوَّامة)؛ فعندما يمسك الإنسان نفسه بـ (اللوم الداخي) وليس لوم (العالم الخارجي) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد.
ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع، فدخل عالم (الطمأنينة) القرآنية (رضي الله عنهم ورضوا عنه)؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس.
اللغة والواقع والنص والتاريخ
إن الحاسة (النقدية) التاريخية التي تمتع بها (ابن خلدون) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها، بل باستنطاقها هي بالذات، ومن خلال (الواقع) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على (الواقعات)، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها، أياً كان كاتبه ومصدره.
والسر سهل وبسيط، لإن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها، في حين أن وجود (الصخرة) و (واقعها الذاتي) يبقى مصدراً يضخ بالمعاني التي لاتنتهي.
وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها.
والأرض تحدث (بأخبارها) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها.
والهياكل العظمية التي (نبشت) في صحراء عفار بالحبشة تقول أنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين.
والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته، وكيف وضع نفسه في هذا العالم.
واللغة هي ترميز للأفكار، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى، والفرق كبير بين الأصل والفرع، بين السبب والناتج عنه، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير، والفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي (اللفظ) كي ترتديه، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق.
هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ، مثل الحصان والعربة، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس، والمعنى يسبق الكلمة وليس المقلوب، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه لنصحح الألفاظ، ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد.
إذا كنا في (منحلة) ووضعنا (رمزاً) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها، سواء في شكل كلمات، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل (فارغة) أو (مريضة) أو (ناقصة)، أو (مكتملة جاهزة للقطف)؛ فإذا اختلطت علينا (الرموز) بسبب أو آخر، نزعنا الرموز كلها، ورجعنا إلى كل خلية نحل، أي إلى (الواقع) كي نصحح رموزنا من جديد، أو أن نكتب رموزاً جديدة ؛ فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا.
الرواة والنصوص ـ عالم الأشخاص وعالم الأفكار
كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت؟ وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل؟
ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية، فالخبر (المنقول) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية، لا يعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع؛ وكوارث واقعية من خلف أحاديث ضعيفة، أو لا تأخذ مكانها في السير التاريخي تقود إلى عواقب وخيمة، وهو فصل وبوابة خاصة للبحث مثل وضع المرأة بين الحمير والكلاب السود والشياطين في قطع الصلاة، وقصة المحرم في رحلات الطيران، وحكاية قتل من غير رأيه تحت حكم المرتد وهي فضيحة كاملة، وقتل الفن والموسيقى بفنية تحت لا آية واحدة، وهي أمور تحتاج إلى تغيير الدم الثقافي بعملية جراحية لن تكون سهلة بغير محنة وصدم مروع لفكر الآباء، أي الفقهاء الذين يزداد خطرهم كل يوم مع شراء المحطات الفضائية، وغسل العقول المستمر، وحاليا ترتد مصر إلى عصر المماليك البرجية وأنت لاتصدق.
وكله تعبير (زيلوتي) في التصدي لطوفان الثقافة الغربية، كما تكلم توينبي عن هذه الظاهرة قديما، حين اصطدم المجتمع اليهودي السلفي مع المجتمع الروماني المتفوق فاتخد طريقان؛ أنهت المجتمع اليهودي إلى الدمار، بين (الزيلوتي) السلفي والهيرودوتي المنحل.
الأخبار والرواة والتاريخ ـ ست نماذج
يقول ابن خلدون أن (الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق)(3).
وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر؛ فالأهرامات لم يبنها العمالقة، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة، وإرادة البناء، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر، فضلاً عن الجبروت الفرعوني.
وموسى (عليه السلام) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط، متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك والعمل اللوجستي، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع، لعدم تطور نظام (الاتصالات) في ذلك الوقت، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه (خمسة ملايين جندي) في عملية بارباروسا لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، بسبب تطور نظام الاتصالات.
والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة (البرامكة).
وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير!!.
يقول ابن خلدون: (واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح)، ثم يخلص إلى هذه النتيجة:
(وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه)(4)
الفهم البنيوي التركيبي
إذا تبللور مامر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين : الأول هو ماأطلقُ عليه (الفهم البنيوي التركيبي)، والثاني ربطه بالواقع (في الآفاق وأنفسهم)، لإن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم، واقتلاع نص من مكانه، بدون سياقه العام، والحيثيات التي ولد فيها، والترابطات التاريخية، لايقرب من فهم النص، بل قد يكون خطراً ومعطلاً.
والأخ الذي كان (يقتلع) نصف آية من سياقها يبرر بها (العنف) الذي يمارسه (فقاتل في سبيل الله لاتكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) غاب عنه أولاً :
أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء، بل هناك تسلسل وترتيب بين نقطة بدء (كفوا أيديكم) مروراً بــ (كتب عليكم القتال) وانتهاءً بــ (قاتلوا المشركين كافة).
وغاب عنه ثانياً أن هذه (الوظيفة العسكرية) هي أداة خطرة للغاية، لإنها مرتبطة بسفك الدماء، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب - على حد تعبير ابن تيمية - يدور معه حيث دار ، فهي ( وظيفة - FUNCTION) وبيد ( الحاكم المسلم العادل) فقط، فهي ليست لــ (وظيفة فرد) كما أنها ليست (مهمة جماعة)، فالحاكم المسلم (العادل) هو الذي يقيم الشريعة، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح، وضمن السياسة الشرعية، التي هي لدفع (الظلم) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة، بل بالأحرى لدفع الظلم، سواء صدرت من كافر أو (مسلم) !! كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ.
وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحه قوة (الجهاد) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى، إنما يفجر الكوارث في كل مكان، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح.
وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولاتملقاً لآخر، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف؛ فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من (الفتنة) بأكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة، أو بإخراجه من بيته (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)(5)، فلايقتل الإنسان من أجل آراءه، ولايجبر على اعتناق مبدأ بالقوة، بما فيه الإسلام، لإن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللاإكراه (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (6) فالإسلام وفر نفس الصرب، الذين قتلوا المسلمين في البوسنة وأخرجوهم من ديارهم ، بأيدي الدول العظمى قبل أن تكون بيد جزاري البلقان الصرب .
ومن أعجب الأمور كيف توصل الفقهاء إلى حكم مضاد للآية تماما في موضوع الإكراه فركبوا فكرة قتل المرتد وبنصوص، في إسلام مزيف ضد الإسلام الصحيح. وهي آليات خطيرة يسميها القرآن يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون..
كي تفعل النصوص فعلها من خلال الفهم التركيبي فهي تشبه أموراً ثلاثة أرجو أن أوفق لشرحها.
الأول: عمل الجهاز الكهربي، فحتى يعمل لابد من وصل قطعه بعضها ببعض وفي أماكنها على وجه الدقة، فإذا وصلت فعملت كان دليلاً على أن عمليات الوصل صحيحة، كذلك يقوم العقل (النقدي) مع النصوص بعد وظيفة العمل التركيبي وربطه بالواقع، أي أخذ النتائج، والنتائج تختلف كما هو الحال في علم الجراحة فيما لو أردتُ أخذ النموذج التقريبي، فنتائج عملنا (جراحي الأوعية) فوري، فيجب أن ينبض الشريان ويضخ الدم بفعالية.
ونتائج جراحة البطن (تظهر) في مدى أيام، فبعد انسداد معوي لابد من حرمان المريض عن الطعام لأيام.
ونتائج جراحة العظام تحتاج لأسابيع، حتى يمد رجله ويحمل ثقله، أما جراحة الأعصاب فهي ممضة طويلة، طالما كان العصب ينمو كل يوم ميليمتر واحد، ويذهب صاحب الغيبوبة في رحلته أشهراً وسنوات، كما هو مع الشاب الذي أهداه والده سيارة فأصبح بعد الحادث عندنا جثة نباتاً، لاحي فيرجى ولا ميت فينعى، وبقي هكذا خمس سنوات وأمه تقرأ على رأسه المعوذات والمنجيات بدون فائدة حتى مات بالتهاب صدر.
كذلك الحال مع التغيرات والنتائج بين تربية إنسان وزراعة شجرة وتغيير مجتمع، فالزمن يمتد مع الشجرة عقداً من السنين، ومع البشر عقوداً، أما التغيرات الاجتماعية، فليس عندنا من (مطل) ننظر إليه من علو ونفهمه إلا من خلال (بانوراما ابن خلدون) أي الحقل التاريخي (أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)(7).
الثاني: هي الصورة المقطعة التي يُرَكِّبُها الأطفال (PUZZEL) فلايمكن إدراك مغزاها العام قبل ضم قطعها بالكامل، بحيث لو ضاعت قطعة واحدة أثرت في المنظر، فحتى تتشكل الصورة الشمولية (PANORAMA) التي تعطي للصورة منظرها البديع، لابد من اتصال قطعها بالكامل وفي أمكنتها على وجه الدقة.
الثالث: وكما أن الجهاز لايشتغل بدون وصل قطعه بدقة، والصورة لاتفهم إلا بانضمام وتكامل أجزاءها، كذلك لايفهم الفيلم السنيمائي إذا أوقف وتم تأمل صورة أحادية منه؟! فالفيلم لايفهم المغزى الخفي منه، والذي لايعلن عنه إلا برؤيته كاملاً وفي حال (حركة) ، كذلك النصوص والواقعات فيجب أن يتم فهمها كشريط متلاحق متصل الأجزاء، كل قطعة تؤثر بالتي بعدها كما تأثرت فيمن قبلها، وكل أحداث التاريخ يجب أن تقهم ضمن هذا الضوء الرائع.
نرجع إلى ابن خلدون مرة أخرى: (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده)( 8)
عالم البيولوجيا وعالم الأفكار
وفي حديث البايولوجيا نرى نموذجا ً عجيباً علينا أن نتأمله من داخل جسدنا، في معنى العقل (النقدي) الذي يُرَشِّح ويغربل الأفكار، والعقل (النقلي) الذي يمرر الأفكار بدون تمحيص، في نموذجين الأول في كيفية استفادة البدن من المواد القادمة إليه، فهي لاتدخل إليه مباشرةً بل لابد من تفكيكها إلى وحداتها الأولية الخام، وحروفها الأصلية ، ثم يقوم البدن بعد هذه الغربلة والفرملة والتقطيع بالتعامل معها في منتهى الحكمة والذكاء، وهكذا فالخبز يتقطع إلى الوحدات الأولى في صورة سكر الغلوكوز، واللحم إلى (الحروف الأولى) في صورة الأحماض الأمينية، بعدها يركب الجسم مايحتاجه وحسب الطلب، من الهورومونات والأنزيمات ومواد البناء المعقدة، أو إطلاق الطاقة من السكر.
إنه يفعل مايفعله (العقل النقدي) مع اللغة، فكلمة (فكر) تتكون من ثلاث حروف، ولكن حسب نظرية الاحتمالات يمكن أن تتشكل منها ست كلمات
(فكر - كفر - فرك - كرف - ركف - رفك) بمعاني عجيبة.
الأول:(فكر) عمل ذهني راقي صاعد بالكينونة الإنسانية.
والثاني ( كفر ) ضلال وشقاء.
والثالث ( فرك )عمل يدوي.
والرابع (كرف) (شم الحمار البول فرفع رأسه وقلب شفته العليا ؟!) والخامس والسادس (ركف + رفك) مبدئياً بدون معنى!!
الحاجز الدموي الدماغي:
والعقل النقدي يتجه إلى كلمة ( كفر) فيحيلها إلى (فكر وإيمان) كما يحول البدن الحمض الأميني إلى هورمون يضخ الفعالية والحبور في البدن.
كذلك تنقل إلينا أبحاث الفيزيولوجيا العصبية أخباراً عجائبية، عن وجود حاجز غير مرئي في الدماغ، سمي بالحاجز الدماغي الدموي (BBB = BRAIN- BLOOD - BARRIER ) طبيعته مجموعة رهيبة من خلايا عصبية دبقية، قد تخصصت في (النقد الذاتي) فالدماغ يتعامل مع مايأتيه من مواد؛ بشكل نقدي انتخابي اختياري كاحكم الحكماء وأعتى الدهاة، فهو لايمرر كل مادة تدخل البدن، بعد الحاجز الأول الذي أشرنا إليه، بل يتأملها بحذر بالغ ويقلب فيها النظر ويصعد، ويتمهل في اتخاذ قراراته، فمادة الصوديوم بعد دخولها الدوران في عشرة ثواني، تحتاج إلى ستين ساعة، قبل دخول الدماغ من خلال هذا الحاجز غير المنظور(9) فلنتعلم هذا الدرس البليغ من العضوية؟
وإذا وصلنا إلى حديث السكريات والبقلاوة التي سال لها لعاب القاريء قطعاً، فإن أخطر مجالات البحث لم نلمسها بعد، وهي كيف يمكن إجراء أخطر عملية جراحية، هي أفظع من زرع دسام صناعي في القلب، أو استئصال ورم خبيث في الحفرة الخلفية في المخيخ، يمكن التداخل على العقل لتصنيعه كي ينتقل من وضع (العقل النقلي) إلى وضع (العقل النقدي)؟؟
وفي ضوء هذا فإن (جراحة الفكر) لاتقل في أهميتها عن جراحة البطن أو الجراحة العصبية إن لم تتفوق عليها، لإن الخلل الذي يصلح هنا ليس انسداداً شريانياً، بل انغلاقاً عقلياً، ليس ورماً في الكولون بل سرطاناً اجتماعياً، فجراحة الأفكار تنزل إلى عمق الآليات العقلية، فتحطم الأغلال العقلية، وتطلق الطاقة العقلية النقدية التحريرية، فيبدأ العقل في النبض والخفقان بعد أن دبت فيه الحياة (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) .
توجد في المنطقة الممتدة بين سوريا والعراق عند جبل سنجار طائفة تعبد (الشيطان) تحت دعوى أنه مستخلف من الله بحكم الأرض لمدة عشرة آلاف سنة، ويسمونه (طاووس) فإذا سبَّ أحد الزوار أو لعن الشيطان وهو لاينتبه إلى معتقداتهم فقد يُفتك به!
ومن جملة معتقداتهم أن أحداً إذا رسم حول أحدهم دائرة على الأرض، شعر الرجل منهم أنها انقفلت عليه فسُجن داخلها؟ فلاينفك منها حتى يأتي من يؤشر بيده فيفك هذه الحلقة!
قد يضحك أحدنا من هذا السخف العقلي، لإن الرجل حبس من داخل عقله، وليس حقيقة بل وهماً، وبأفكار داخلية ضمن تلافيف الدماغ؟!
ولكن هل ندرك أن مثل هذه (الدوائر اليزيدية) لاتخلو منها أدمغتنا أحياناً؟ وأن لكل ثقافة دوائر يزيدية خاصة بها دون أن تعلم!!
هوامش ومراجع:
(1) الدوغما (DOGMA) كلمة لاتينية وتعني العقيدة المتصلبة، المترافقة بجمود العقل فلاتتراجع عن موقفها حتى لو تبين لها خطأ الفكرة، وهي أقرب ماتكون للفظة القرآنية (إنا وجدنا آباءنا على أمة) أي تصبح رديف مرض الآبائية الذي استنكره القرآن (2) سورة آل عمران - رقم 165 (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنىّ هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (3) المقدمة ص 9 (4) المقدمة ص 37 (5) سورة الممتحنة الآية 8 (6) سورة البقرة 256 (7) سورة الروم الآية 9 ( 8 ) المقدمة ص 27 (9) جاء في كتاب العقل البشري - تأليف جون فايفر - ترجمة م . عيسى ص 329 - 330 : فقد لاحظ (بول اهرلنج) أثناء التجارب التي قام بها لاختبار مقدرة مواد مختلفة على قتل الجراثيم، حقيقة فريدة من نوعها. لقد لاحظ أن الكثير من الأصباغ بعد حقنها في الدورة الدموية تنقل إلى جميع أجزاء الجسم فتصبغ بلون قاتم فعال فيما عدا أنسجة المخ، ويبدو أن هناك شيئاً يعيق تدفق الكثير من المواد للدورة الدموية إلى المخ يطلق عليه الباحثون
(الحاجز بين الدم والمخ) وهو مصمم بحيث يزود مايعادل( 1\8 ) جالون من الدم الذي يقوم بدورة دموية مخترقاً المخ في كل دقيقة، بكمية من تلك المواد الضرورية للمحافظة على الخلايا العصبية حية ومشعة. وهذا الحاجز الفاصل بين الدم والمخ هو بمثابة جهاز ترشيح فعال يتمثل آخره في الأرجل الماصة للبلايين من الخلايا المرصعة = النجمية وهي غير النورونات المفكرة).