النهضة المشلولة والأوهام الخارقة
النهضة المشلولة والأوهام الخارقة...
ميرا جميل
لم تبدأ نهضة أي شعب من شعوب الأرض من الصفر، ولم ينجز أي شعب نهضته بالانغلاق عما أنجزته ثقافات وحضارات سبقته في التاريخ أو في التقدم. أو بالادعاء انه يملك في موروثاته الثقافية أوالدينية كل ما يلزمه للتقدم العلمي أو الاقتصادي او الفكري أو التكنلوجي .
العلوم الانسانية والطبيعية لا هوية قومية أو دينية لها.حتى لو حملت أسم مكتشفها . بمعنى ان اكتشاف العالم الانكليزي اسحق نيوتن لقانون الجاذبية ، لم يجعله قانونا بريطانيا لا يسقط التفاح بموجبه الا على رؤوس البريطانيين.. والعالم الألماني ألبرت أينشتاين ، الذي وضع النظرية النسبية ، لم يحصر النسبية بالفكر والعلوم الألمانية فقط .. و العالم والطبيب العربي ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية في جسم الانسان ، لم يوقف هذه الدورة على أجسام العرب فقط..وتاريخ الثقافات مليء بالتفاعلات والنقل والتطوير ، وكل محاولات حصر الثقافة او العلوم بأسبقية في هذه الثقافة ألقومية أو الدينية أو تلك ، هي محاولات تقترب من التهريج الفكري والغباء المطلق.. لكل مكتشف قيمته ومكانته في تاريخ العلوم وتاريخ تطور المجتمعات البشرية. ولكل علم اختصاصه غير المقيد بدين وثقافة وقومية.. ومقابله نجد التبرير غير العقلاني للتخلف ، والتمسك به ... في جميع مجالات الحياة ، وهذا يبرز بشكل جوهري في عدم تطبيق العلوم الانسانية والطبيعية والتقنيات عالية الدقة وتطوير مناهج التعليم.
صحيح ان عصورا مختلفة قدمت شخصيات احتلت مكانة عظيمة في التاريخ . وهذا نجده في مثلا في الثقافة الاغريقية ، في الثقافة الرومانية ، في الثقافة الفرعونية في الثقافة الفارسية وفي الثقافة الاسلامية.. وبالطبع هناك ثقافات وحضارات أخرى أثرت مجمل العقل الانساني والمجتمعات البشرية في انجاز التقدم ... وقد أحدثت كل ثقافة دفعة حضارية واصلت فيها ما أنجزته ثقافات تاريخية متعددة وبالغة الاتساع.
ان محاولات بعض "المتذاكين" ، تصوير انجازات العلوم وكأنها مساحة محصورة بفكر موروث هو أمر لا يوازي المهزلة والسخرية فقط ، بل الانتحار الحضاري أيضا!!
وهنا لا بد من الاشارة ، ان الفكر العربي في القرن العشرين ( الماضي) لم يشهد تحولات تخرجه من بوتقة الأوهام الطوباوية .. التي تبرز في معظم الطروحات التي يحري تداولها وتمحيصها وتأويلها .
ان الانجاز العلمي لا يُقيم الا بالتطبيق العملي له ، وعلى فرض ان بهلوانية ادعاءات "ملكية" العلم صحيحة..اذن كيف يمكن تفسير عدم الاستفادة من العلوم "الموروثة " والتخلف العلمي الآخذ بالاتساع ؟!. وهل من قيمة ترتجى من مخبول ، يحمل مليون شهادة دكتوراة في العلوم ، يدعي ان موروثاته سباقة لكل اكتشاف علمي جديد ، ولكل معرفة علمية جديدة؟ وماذا بعد هذا البيان ؟ هل من تغير في الواقع العلمي العربي ؟
هذه الادعاءات تتجاوز حدود العقل البدائي ، وتظهر بأنها محاولة لتبرير التخلف والاحباط ، وتقود الى التمسك بحالة متدنية من التفكير ، ومن فقدان الحوافز للتقدم النهضوي ، ومن دوافع وبرمجيات لا بد منها للحاق بحركة العلوم والتقنية ، بل وتقود الى استمرار الانغلاق الفكري والاجتماعي وتنمية عقلية لم تعد تصلح لعالمنا المعاصر.
بدل ان نطلق العنان لأصحاب الفكر والعلم والأدب والابحاث ليمهدوا الطريق امام نهضة حاسمة في انبعاثنا الحضاري، نقوم بزج المزيد من العراقيل ، وبعضها شديدة العنف.. لنبقى على تخلفنا وتبعيتنا الحضارية والاستهلاكية في جميع المجالات.
شعوب كرتنا الأرضية ، ودول عالمنا اليوم ، تكتسب مكانتها على الخارطة السياسية والاقتصادية ، وبالتالي ، تكتسب اتساع نفوذها وقوة موقفها ، وقوتها العسكرية ، ليس من الهرطقة الفكرية والادعاءات التي لا تشبع بقرة في حظيرة.انما لما تسهم به من انتاج حضاري ، وما تنجزه من بحوث علمية متطورة. وما تتوصل اليه من تقنيات متطورة ، وما ينعكس شرطا على تطوير معاهدها العلمية وجامعاتها ، لجعلها في مقدمة المعاهد والجامعات في العالم ، الأمر الذي يقود الى دمج الاقتصاد والاستثمارات بالتقنيات الجديدة ومردود ذلك الاقتصادي الهائل . وهذا المردود ينعكس على مستوى الحياة ومستوى الخدمات والتأمينات الاجتماعية المقدمة ومستوى حرية الرأي والتعددية الفكرية ونوعية النظام وحساسيته لمطالب المواطنين . والأهم قيمته في رفع مستوى حياة المواطنين .
لا شك ان عصر النهضة الاوروبي كان المعبر الذي ولجه عالمنا لنهضته الحالية . قد ينتقد البعض تصرفات اجرامية سادت عصور النهضة والثورات الصناعية والعلمية والتكنلوجية.. خاصة ضد الشعوب المستضعفة. الانتقاد صحيح . ولكن ان ننفي انجازات حضارة لم نعد نعيش الا على منجزاتها ، ولم نعد قادرين على القيام باي حركة دون تجهيزاتها ، ولم نعد قادرين حتى على ذمها دون ان نستعمل ما انجزته من أدوات تكنلوجية ، وحتى تصدير انتاجنا من الطاقة الذي جاءنا هبة من السماء ، لا ينجز الا بوسائل لا علاقه لها ب "علومنا الموروثة" والنائمة نومة أهل الكهف في عقول تبريرية هرطقية ، بل بمنجزات تكنلوجية ليس لنا فيها ولو جزء صغير من التخطيط والانجاز . ومع ذلك نصر على وجودها في موروثاتنا ، حسب هرطقات يبشرنا بها "علماء" بلا علوم وبلا منطق فكري بسيط .. يعيشون بهرطقتهم وليس بعقلهم ، ببرامجهم الفضائية وليس بأبحاثهم العلمية .
بالطبع لا ننفي دور علماء الحضارة العربية الاسلامية في النهضة العلمية والفكرية والانسانية التي شهدتها اوروبا ، ومنها انتشرت الى كل أطراف المعمورة متجاوزة عالمنا العربي ، الذي خضع وما زال يخضع للتخلف منذ ستة قرون على الأقل ، ويبرره بهرطقات لا بد من تقديم أصحابها لمحاكم جنائية لما يرتكبوه من أكبر جريمة بحق شعوبهم . جريمة التجارة بالدين والتضليل المبرمج ، وما يفرزه ذلك من عدائية مستهجنة لكل انسان لا يمارس نفس العقائد البالية الدخيلة التي لا يربطها رابط بحقائق عالمنا المعاصر..
الفيلسوف الألماني هيغل لم يكن معاديا للايمان المسيحي ، بل مسيحيا مثاليا، وطرح رؤيته حول "الفكرة المطلقة" التي عبر بها عن الله. ومع ذلك نجد انه كان عقلانيا ولم يغرق بالغيبيات التي سادت الايمان المسيحي . قال: " ان اسس الدين يرجع الى الشعور بالعجز عن تصور المثل الأعلى في الوجود ، وبالرجوع الى العنصر الأساسي في الدين ، وهو الألوهية ، نجد انها ظهرت مع البدايات المبكرة للوعي الانساني ، وكانت في جوهرها انعكاسا وهميا عن العالم لأنها وجدت في غياب الوعي العلمي في مرحلة اتسمت بأدنى مستوى لتطور العلوم " .
وكأني به يتحدث عن واقع مجتمعاتنا العربية اليوم !!
ونجد ان ماركس ( الملحد ) يقول :" ليس وعي الناس هو الذي يقرر كيانهم ، انما كيانهم الاجتماعي هو الذي يقرر وعيهم ".
عمليا ماركس لم ينف هيغل بما قاله ، بل أكد على رؤية هيغل العبقرية .. تطور المجتمع ( كيانهم الاجتماعي ) .. يزيد الوعي العلمي.. وبالتالي يخلص المواطنين من الانعكاس الوهمي عن العالم.
حقا الاسلام قدم مبادئ اساسية هي أيضا ملزمة ، ولكنها عامة، وليس لحالة محددة. والمنطق في ذلك هو منطق كل الديانات ، اعطاء قواعد أخلاقية عامة ملزمة.يصلح مضمونها لكل زمان ومكان . ولا يتناقض مع رقي المجتمعات وتطورها .. وتشكل مبادئ انسانية يتفق عليها المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي ، وهي ليست صيغة خاصة بدين .. لأن فلسفة الأديان وعلم الأديان المقارن يوضح لنا ان كل الديانات نقلت عن بعضها بدءا من الديانات الوثنية حتى الديانات التوحيدية. وبعض القصص الدينية هي تكرار وثيق الصلة بقصص من ثقافات غير دينية.
ان المبادئ التي يناضل المسلم لتحقيقها ، لا أعني التحريفات الأصولية والوهابية على وجه الدقة ، تعبر عن مثل عليا لكل انسان ولكل مجتمع . وبالطبع هناك الاجتهاد في كل دين لايجاد الطريقة المثلى لتطبيقها.. وفق معطيات العصر وليس ضده.
ان العلوم الانسانية تتطور باستمرار ، لأنه من المستحيل ادارة مجتمع صناعي علمي تكنلوجي متطور ، بنفس اساليب ادارة مجتمع ، افضل وسيلة تنقل فيه هي الجمال. وأفضل وسيلة اتصال فيه تستغرق اسبوعا لقطع 50 كيلومترا. وأفضل انجاز علمي فيه ايجاد بئر ماء..
ان تاريخ الحضارة الاسلامية يشير ان اسلافنا استلهموا من الحضارات السابقة لهم ، واستفادوا من انجازاتها وتطبيقاتها ., وغالبية هذه الحضارات لم تكن عربية. مثلا أبو هريرة نصح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بقوله : " اني رأيت الفرس يدونون ديوانا يعطون الناس عليه " فدون عمر ديوانا ( طبقات ابن سعد ). وعندما فكر عمر بن الخطاب بوضع ضريبة على الارض الزراعية ، لم يجد حرجا في تطبيق شريعة وضعها كسرى انو شروان الفارسي المجوسي. ويعرف هذا التشريع الاقتصادي بالتراث الاسلامي باسم " وضائع كسرى" أي القانون الذي اتفق عليه الناس .
وقد أدى التوسع بالفتوحات الاسلامية لنشوء أوضاع اجتماعية اقتصادية جديدة ، مما فرض تغيير تنظيم الدولة البسيط ( فترة الرسول ) الى تنظيم مركب أكثر .. ولم يعترض أحد من الصحابة والانصار وسائر الشخصيات الاسلامية البارزة. فشكل عمر الجيوش الاسلامية المحترفة. . حسب ما كان سائدا في الشام قبل فتحها : " يا أمير المؤمنين قد جئت الشام فرأيت ملوكا قد دونوا ديوانا وجندوا جنودا " كما قال الهشام بن المغيرة ( طبقات ابن سعد ) .
هل ما ساد أيام السلف يعتبر خروجا عن الدين اليوم ؟ لم يقل أحد وقتها ان هذا النظام جاء في الأحاديث او نص الدين .. كما صارت العادة اليوم . بل نقل ما هو لصالح المجتمع واقتصاده ونظامه وتطوره.