صدى الحكاية: وهذا وطني أنا

صدى الحكاية: وهذا وطني أنا

جمان محمد عكل

[email protected]

حين مرّرتُ مقالتي الوجدانيّة السابقة (ولهذا حكاية حزينة)، لم أتوقع هذا الكمّ من القراءة والتفاعل بالردود، ما أسعدني كثيراً. والحقيقة إني حين كتبتُ المقالة في بدايته الأولى كان أقرب إلى الخاطرة، وكان مكتوباً بانفعال وجدانيّ عميق، لكني في صياغته النهائيّة حذفتُ الكثير، وغيّرتُ أكثر، والأهمّ أني أضفتُ أسئلتي التي جاءتني عنها إجابات متفاوتة مختلفة تماماً.

لنقل إنّ المقالة كانت عبارة عن (استبانة) للآراء كُتبتْ بطريقة مختلفة، كما جاءتْ الردود مختلفة عن بعضها ومتباينة.

وحدث أن أرسلتْ لي رفيقتي (أسماء) رابطاً ممرّراً لرسالة من رسائل (نزار قبّاني)، فنسختُ هذا الجزء الذي يقول فيه:

"لماذا يهاجر العربي من وطنه ؟ سؤال بسيط جدا. وساذج جداَ، يمكن أن يجيب عليه أيّ عصفور تسأله: لماذا تركت الشجرة التي ولدت.. ولعبت .. وغنيت على أغصانها؟ فيجيبك والدمع يملأ عينيه :

 - تركتها بحثا عن الشمس، والرزق، والحرية.

وأتصوّر أنّ مطلب العصفور، ومطلب الإنسان واحد. فكلاهما يبحث عن الشمس حتى يكتشف طريقه، ويبحث عن الرزق حتى يبقى واقفا على قدميه، ويبحث عن الحرية حتى لا يتحول إلى صرصار في صندوق مقفل…

وحين تغيب الشمس عن وطن ما.. ويقل الرزق فيه… وتصبح الحرية سلعة لا تباع إلا في الصيدليات، أو السوق السوداء… يصبح الرحيل هاجسا لا يمكن مقاومته".

ربّما لم تكن في زمن (نزار) موضة هجرة الأوروبيين أيضاً من أوطانهم، فليس العربيّ وحده الذي يهاجر إذاً. والمهاجرون -عرباً كانوا أو غيرهم- يختلفون إلى فئات، من حيث الحنين والشوق، والدوافع.

وهذه الرسالة لا تجيب سؤالنا: لو سألنا العصفور، هل وطنكَ هو الشجرة التي ولد ولعب وغنى على أغصانها، أم الشجرات الكثيرات اللواتي غنّيتَ على أغصانهنّ لاحقاً؟.. ماذا سيجيب؟

أرجّح أنّ إجابة العصفور ترجع إلى (نوع) العصفور وفصيلته وسلالته العصفوريّة التي يتحدّر منها، فبعض العصافير تهاجر نصف السنة، تسترزق في أرض الله الواسعة، وتعود في النصف الآخر إلى موطنها الذي تكاثرتْ فيه لتتكاثر من جديد، فتكون رحلتها (مؤقتة وراء الرزق).

وهناك عصافير، من النوع الذي لا يستقرّ ولا يهدأ، فهو يرى أغنية جديدة في كلّ غصن يقف عليه.

وثمّة عصافير، إذا هاجرتْ.. ماتتْ! فهي تصاب بعسر هضم إن أكلتْ حبوباً غير تلك التي اعتادتْها.

ومثلها الإنسان، فالعصفور إن حبستْه مع عصفورة في قفص، ضيّق أو واسع، أكل وشرب وتكاثر، واعتاد أن يرى العالم من وراء القضبان، فالتعوّد يخلق إذاً نوعاً من الأُلفة، ولا يمنع هذا السجنُ العصفورَ من تحريك جناحيه وبناء عشّ وإثبات وجوده بالتكاثر. وكذا المواطن العربيّ تحديداً، فتجده في قفص أو في خيمة أو في الشارع، ولا يمنعه هذا من إثبات وجوده والتكاثر!

ومن الخطأ الاعتقاد أنّ العصافير تألف سريعاً، فهذا الذي يبدو أيّاماً بالنسبة لنا، يعتبر عمراً بالنسبة لعمرها القصير. وكذا الإنسان.. قد يألف بعد عام قفصه الجديد، أو شجرته الجديدة، أو بعد أعوام، وقد لا يألف أبداً إن كانتْ دوافع هجرته غير مقنعة بالنسبة له.

ويتابع (نزار): "فالوطن ليس مصطلحاً مجرّدا وغيبيّا.. كما أنه ليس خارطة معلقة على حائط.. أو نشيدا مدرسيا يغنيه تلاميذ المدارس كل صباح.. أو استعراضاً عسكرياً في عيد قومي.. ولكنه علاقة أبوية، وإنسانية، وأخلاقية، وحضارية، تقوم بين رب البيت وأولاده.."

إذاً فالوطن ليس رائحة الأرض، ولا لون السماء.. فهذه الأشياء هي ذكريات مختزنة في الروح والعقل، وإن غادر الإنسان المكان الذي فيه تلك الذكريات أو لم يغادره، فالأمر واحد، فالتعلق بالذكريات مبعثه التعلق بالزمن وبالمشاعر التي تتحرّك في النفس، عند استعادة هذه الذكريات.

إذاً مازال سؤالنا قائماً: ما هو الوطن؟ وما المعايير التي تحدّده؟

* جاء في (لسان العرب): وطن: الوَطَنُ: المَنْزِلُ تقيم به، وهو مَوْطِنُ الإنسان ومحلّه.

نقطة. انتهى الكلام.

هكذا؛ ما أجمل لغتنا، إنها تختصر عناءنا ومسائلنا ونقاشاتنا بتوضيحٍ لا يتعدّى نصف سطر!

فكلّ شجرة بات العصفور على غصنها، صارت وطناً، وكلّ (نُزُل) ولو كان مؤقتا، أقام فيه الإنسان، ومارس فيه نشاط يومه المعتاد، صار وطناً.

فمن أين جاءت (قضيّة الوطن) هذه إذاً؟ قضيّة أنّ لدينا قضيّة، وأنّنا لسنا كباقي الخلق؟

متى يعرف الإنسان أنّ لديه وطناً؟ حين يأتي من يحاول انتزاعه منه، بأيّ شكل من أشكال السُلطة.

لقد نشأتْ هذه القضيّة حين انتُزع من الناس حقّ أساسيّ يجده الإنسان في منزله الذي يقيم فيه: حقّ (الأمان)، أو حقّ (الرّزق)، أو حقّ (السعي والإنتاج). فمتى عادتْ هذه الحقوق للإنسان في أيّة بقعة من هذا العالم، صار له هذا المكان وطناً.

قضيّة الوطن، شيءٌ نشأ بنيّة صافية بداية، ثمّ تحوّلتْ عقاراً مخدّراً.

نشأتْ حين كان الناس إذ يدافعون عن أرضهم، فإنهم يدفعون عنها لحماية المبدأ أوالمعتقد أوالعِرض أوالرّزق والملك، لم يكونوا يدافعون عن حدود الأرض المرسومة في الخارطة، بل كانوا يعرفون أنّ من جاء جاء ليسرق شيئاً لا يملك حقّ الاستيلاء عليه، كانوا يدافعون بالفطرة والإيمان.

وصارتْ مخدّراً، لأني أرى أولئك الذين هاجروا حين لم يستطيعوا أن يدافعوا، قد عاشوا بعذابٍ وهاجسٍ انقلب عليهم، وصاروا أمواتاً وهم أحياء، وتوقّفتْ حياتهم عند الزمن الذي غادروا فيه، فصاروا كتلك العصافير التي أكلتْ الحبّ الجديد وأصيبتْ بعسر هضم شديد، لكنّ العصافير الرقيقة ماتت، وهم بقوا أحياء، كأنهم أموات.

صار هؤلاء الناس عالةً على أوطان جديدة، ما اعتبروها أوطاناً، رغم أنهم أصبوا وجودهم عن طريق التكاثر فيها! فما كان من تلك الأوطان إلا أنْ أصيبتْ بعسر هضمٍ هي الأخرى تجاه هؤلاء الذين لا يرَوْن فيها سوى محطة مؤقتّة كأنها (محطة بنزين)، بينما يبقون فيها حتى نهاية العمر.. وانعكستْ آثار هذه (الوعكة المعويّة) على نتائج التكاثر الطبيعيّة التي أقدم عليها هؤلاء البشر، فصارتْ النتيجة: أوطانٌ بلا ناس، وناس بلا أوطان.

شيءٌ أخير أردتُ قوله لوطن المولد والذكريات: إنّكَ ستبقى الوطن الأدفأ من أوطاني المتعدّدة، وربّما يأتي ذلك اليوم الذي أفهم فيه ما أردتَ قوله طيلة ثلاثة وعشرين عاماً.

شكراً لكلّ من كان هنا، وشكراً لأوطاني المتعدّدة التي دفعتني أن أكتب هذا: بدءاً من (الرياض) مروراً بـ (جدّة) و(الدمّام) و(حلب) و(عمّان) و(نيو شاتل) و(هامبورغ).. وبلا انتهاء.