المبادئ الثابتة لنظام الحكم وتنظيم المجتمع : (4)
( 6 ) التكافل الاجتماعي : التكافل هو التضامن بين أبناء الأمة ، أو بين مجموعة من الأفراد والأسر في وقت الشدائد والمصائب ، كالفتن والحروب ، والوباء والفقر والحاجة والمجاعات الناجمة عن الجفاف أو الحصار الاقتصادي ... ليكونوا جبهة واحدة قوية ، تمكنهم من تحقيق العدل الاجتماعي فيما بينهم وتوفير حاجات الضعيف منهم والتغلب على الظلم والعدوان وعلى معالجة مشاكلهم الاقتصادية والتنموية والسكنية والتعليمية ... كحد أدنى لحقهم الاجتماعي كمواطنين . وهذا المبدأ أساسي في تنظيم المجتمع المسلم وحكمه ، وتدبير قضاياه السياسية والاجتماعية والدينية ، بل شرط للإسلام والإيمان ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم { لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه } ( رواه البخاري ومسلم ) وهذا يعني أن الوطن للجميع وثرواته مشتركة بين الناس ، فهو ميدان يتعايش ويشترك فيه الفقراء والأغنياء ، بغض النظر عن الدين الذي يتبعونه ، ويتعاونون من أجل التنمية ويساعد الجميع بعضهم بعضا بقوة العمل التطوعي ( التويزة ) لقوله صلى الله عليه وسلم { ... الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه } ( رواه مسلم ) وبالزكاة والصدقة في سيل الله والإحسان وبفتح دور العجزة واليتامى وبالمساهمة في بناء المدارس التعليمية ودور العبادة لنشر العلم وتعميم وتطوير التعليم في الأوساط الفقيرة لقوله سبحانه وتعالى : [ والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم ] ( سورة الذاريات آية 19 ) وقد حثت السنة هي الأخرى على التضامن والتكافل الاجتماعي ، إذ قال صلى الله عليه وسلم : { المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا } ( متفق عليه ) وقوله مثل المومنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى } (رواه البخاري ومسلم ) .
إن الفرد جزء أساسي في البنية المجتمعية الإسلامية ، بدونه ينهار المجتمع كله فهو مسؤول عن الجماعة ، كما أن الجماعة مسؤولة عنه ، إن الفرد والجماعة يكونان بنية اجتماعية ، فأي خلل في هذه البنية يجعل البنية تنهار بكاملها . وبهذا يشترك الجميع في مراعاة المصالح الكلية ويحافظون على الدين والشريعة والقيم الاجتماعية ، ويقاومون الفساد والظلم والضلال ، ويحققون التضامن والتكافل المادي والمعنويبينهم ، وينزعون ما في قلوب الناس من غل وحقد وحسد قد تنتجه الفوارق الاجتماعية والتفاوت والتمايز الطبقي ، كما يشيعون جوا من التراحم والتآخي والتواصل بين المواطنين .
إن أي غياب لمبدأ التكافل في المجتمع الإسلامي ، معناه انهيار النظام الإسلامي المنشود الذي أقره الله ورسوله وفتح باب الفتنة والفساد والإرهاب ، لأن النفس إذا جاعت كفرت بربها وبمبادئ مجتمعها وكرهت جماعتها والتجأت إلى العنف لتشبع حاجاتها غير مكترثة بالنتائج الضارة للمجتمع ، ولذا تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم من أي جماعة أو قوم أو مجتمع فيه جياع ولا يهتم بهم ولا يلتفت إليهم ، درء للمفاسد واستباقا لكل ما من شأنه أن يشكل ما ينغص على المجتمع المسلم حياته الطبيعية أو يتسبب في انعدام الاستقرار وانتشار العنف والاعتداء على أعراض وأموال الناس بغير حق فقال : { أيما أهل عرصة (بقعة) أصبح فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله } ( رواه ابن عمر رضي الله عنه ) وعلى هذا الأساس وانطلاقا من هذا الحديث الكريم ، تكون نفقة الفقراء ، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وإنارة وتعليم وصحة وكل الحاجات الضرورية ، التي لا تستقيم الحياة الكريمة إلا بها ، واجبة على الدولة تأخذها من الضرائب ، فإن لم تكن كافية بعد الزكاة والصدقة والإحسان ... وجب فرضها على الأغنياء كل حسب إمكانياته . يقول الإمام ابن حزم ( ... وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا سائر أموال المسلمين بهم ، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك وبمسكن يكنهم ( يقيهم ) من المطر والصيف والشمس وعيون المارة ) ( كتاب المحلى بالآثار كتاب الزكاة ـ قسم الصدقة ) ويقول الإمام علي رضي الله عنه ( إن الله تعالى فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم ، فإن جاعوا أو عروا وجهدوا فيمنع الأغنياء ، وحق على الله تعالى أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذبهم عليه ) ( ومن طريق سعيد بن منصور عن أبي شهاب عن أبي عبد الله الثقفي عن محمد بن علي بن الحسين عن محمد بن علي بن أبي طالب ) وورد مثل هذا عن ابن عمر وعائشة والحسن بن علي وسواهم من الصحابة رضي الله عنهم جميعا . والدليل على هذا قوله تعالى [ وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ] ( سورة الإسراء آية 26 ) ، وقوله تعالى [ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويامرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فصله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا ] ( سورة النساء أية 36 ـ 37 ) . إن كرامة الإنسان واستقرار المجتمع وتنمية الاقتصاد وازدهاره ، لا يتم إلا بهذا التكافل وليس بالمذاهب والنظم المادية الحديثة ، كما أن التكافل سبب لتقوية الروابط الاجتماعية ، بين كل أفراد المجتمع وهو من يشعرهم بالوحدة والتضامن ، من أجل تحقيق الأهداف العليا والمصلحة العامة للوطن ، بعيدا عن التنافر والصراع الاجتماعي والنظرة الضيقة الشخصية ، التي تقصي الأخر ولا تطمئن له ، مكتفية بالبحث عن تحقيق المصلحة الخاصة . إن التكافل الاجتماعي في الواقع هو تنزيل للعدل والإنصاف وتطبيق له ، ومن هذا التصور يجب على الحاكم أن ينفذه بالقوة والسلاح إن تطلب الأمر ، لأنه من مسؤولياته كحاكم وقائد للأمة عليه إقامة العدل بين المحكومين . يقول الإمام الغزالي: ( ... أن يبادر إلى قضاء حاجات المحتاجين ، وألا يرد أرباب الحوائج ، ووقوفهم ببابه ، فتحقير انتظار أرباب الحوائج من أخطر الأخطار ) ( "التبر المسبوك في نصيحة الملوك " للإمام الغزالي : ص 22 ،) فالتكافل الاجتماعي إذن ، ملزم للحاكم والمحكومين على السواء ، لأنه حق اجتماعي وهو واجب ووفاء للمسؤوليات التي التزم بها الحاكم أمام المحكومين ، وفوق هذا هو حق من حقوق الله لا يجوز إهماله أو التغاضي عن تنفيذه ، وإلا سيتحول الأمر إلى ظلم وقهر وهضم لحقوق المحتاجين وهذا لا يقبله الإسلام ويحرمه ويحاسب عليه ويعاقب . فليحذر الذي يخالفون أمر الله وليتقوا الله في المحتاجين والفقراء . ( يتبع )
وسوم: العدد649