محمد أبو الغار .. مأساة مثقف!
لو أن الدكتور محمد أبا الغار الطبيب المشهور والأستاذ بجامعة القاهرة ، كان تلميذا كسولا ، وفضل أن ينجح في الثانوية العامة بمجموع ضعيف ( 50- 55% ) ودخل الكلية الحربية مثلا ، لصار اليوم جنرالا كبيرا ، يشد الجنود والرتب الأقل قاماتهم أمامه ويؤدون له التحية العسكرية ، ويسعى إليه الصحفيون الأمنجيون وأشباهم من العاملين بالتلفزة والإذاعة والمواقع الثقافية المختلفة لكسب وده وإسباغ حمايته وتلقي عطاياه من خيرات مصر التعيسة ، وفي الوقت نفسه كان محصنا ضد الانتقاد والمؤاخذة ، فضلا عن التأمين على كلامه مهما كان بعيدا عن الحقيقة والصواب ، فهو في كل الأحوال يملك ماسورة الدبابة وصندوق الذخيرة ودانة المدفع ، ومقذوفات الأباتشي ، وسجون مصر العامرة والأبواق المأجورة !
لكن أبا الغار فضل أن يكون تلميذا مجتهدا يحصل على أكثر من 90% في المائة ويتخرج في كلية الطب بتقدير ممتاز ، ويصبح أستاذا في تخصصه بعد سفر ومعاناة في البحث العلمي داخل البلاد وخارجها ، ويقدم نفسه لمصر والعرب في تخصص دقيق يدخل السعادة على قلوب المئات ممن يتعثرون في الإنجاب ، فتغزو الفرحة قلوبهم بضحكات الأطفال وغنائهم .
الدكتور أبو الغار أراد أن يشارك في الشأن العام وهو أمر حسن ومطلوب من أجل الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي ، وله أن يعتنق من الآراء ما يشاء ابتداء من الشيوعية ( صنيعة الصهيوني هنري كورييل ورفاقه اليهود ) حتى آخر درجة في اليمين الرأسمالي المتسلط مرورا بالنظريات والآراء الفاشية والنازية .
ولكن المشكلة أن الرجل لمع اسمه في مناسبة غير سارة وهي تدمير التجربة الديمقراطية المصرية بعد ثورة يناير العظيمة ، فقد شارك مع ما يسمى جبهة الانقاذ الخائنة التي كانت رأس الحربة في الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ، وخرج على شاشات التليفزيون عبْر لقاءات فردية أو في مؤتمرات صحفية ليستدعي العسكر الذين دمروا التجربة الديمقراطية وألقوا بإرادة الشعب في صندوق القمامة وخطفوا الرئيس المنتخب وحاكموه محاكمات ظالمة ، وذبحوا الآلاف في رابعة والنهضة والحرس والمنصة والفتح ورمسيس وغيرها ، واعتقلوا أكثر من ستين ألفا من أشرف الناس وأنبلهم ، وصادروا الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي جميعا ، ثم بعد ذلك ركلوا كل من ساندهم ووقف إلى جانبهم عدا الكنيسة ، وقالوا لا تسمعوا لغيرنا ، والكلام انتهى عند هذا الحد ، وخرس ضمير أبي الغار ولم ينطق !
كان أبو الغار يتوقع أن يستمر الحكم العسكري لمدة ثلاثة أسابيع ويعود العسكر بعدها إلى ثكناتهم ومهمتهم الأساسية في الدفاع عن حدود البلاد ، ولكن الأسابيع الثلاثة امتدت إلى ثلاث سنوات ، وستمتد إلى مدى لا يعلمه إلا الله ، ولعل هذا ما دفع الرجل بعد أن استيقظت أثارة ضمير ؛ إلى أن يكتب مقالا في المصري اليوم ٢٨/ ٦/ ٢٠١٦ بعنوان " مصر في خطر " يخاطب فيه الجنرال بلغة لينة هينة تختلف عن لغته مع الرئيس المنتخب محمد مرسي – فك الله أسره – قبل الانقلاب ، ويطلب أن يشرك معه المصريين المدنيين وليس المسلمين لأنهم غير مدنيين في مفهومه ، في إنقاذ مصر من الهاوية التي تنحدر إليها ، ويحذره في ضراعة من البديل الذي يمكن أن يكون جاهزاً للحكم في فترة قصيرة وهو الإخوان المسلمون (!) بمساعدة كبيرة من قوى شرق متوسطية وعربية ودولية، مما يمثل كارثة تعود بمصر إلى القرون الوسطى بأفكار شديدة الرجعية يتم تطبيقها بفاشية دينية !
أبو الغار يعتقد أن فشل الانقلاب كارثة على مصر تتحول بعدها إلى فوضى عارمة وانهيار اقتصادي كامل ومستقبل مجهول، وهو أمر لا يمكن قبوله من أي مصري وطني مدنى أي غير مسلم ! ونسي أن الفشل وصل إلى إدارة امتحان الثانوية العامة!
يعترف أبو الغار بفشل القوى العلمانية في تكوين أحزاب فاعلة أو تقديم جبهة قادرة على الحكم أو المشاركة الحقيقية فيه ، ويدّعي أن الحكم العسكري لأكثر من ستة عقود حاربها بقوة واستخدم الأساليب غير القانونية والبوليسية لإضعافها (؟).
ويشير بلغة مهذبة إلى أن الانقلاب قد يؤدى بمصر إلى حائط مسدود، فالاقتصاد في حالة مزرية والاستثمار والسياحة في علم الغيب ومخاطر نقص المياه بسبب سد إثيوبيا على الأبواب، والخبراء يعتقدون أن كثيرا من المشروعات الكبرى تسير في طريق خاطئ. وهذه الأوضاع هي السبب الرئيس في مشكلة تيران وصنافير ...
المشكل المهم في كلام أبي الغار أنه لا يريد الاعتراف أن عزل الأغلبية الإسلامية من المشاركة في حكم الوطن على مدى ستة قرون من الحكم العسكري كانت من وراء الهزائم العسكرية والخيبات الاقتصادية ، والانحدار غير المسبوق في مجالات الصحة والتربية والتعليم والزراعة والصناعة والتصدير والسياحة والثقافة و ...
ولآن الرجل إقصائي بطبعه فهو يعتقد أن الأقلية الفكرية العلمانية على تعدد مشاربها وأهدافها هي الوطن ، وهي القوي السياسية التي يحق لها أن تحكم الوطن ، أما الأغلبية الساحقة من المسلمين فيجب أن يساقوا سوق العبيد ، لا حق لهم ، ولا دور في مجتمع يشكلون نواته الصلبة لأنهم في اعتقاده إرهابيون يجب استئصالهم!
الدكتور أبو الغار لديه اشمئزاز واضح من الفكرة الإسلامية ،ولذلك يرى أن البديل الجاهز وهو الإخوان سيعود إلى الحكم في حال فشل الانقلاب بتطبيقات دينية ظلامية رجعية تعيد مصر إلى القرون الوسطى . وهذا الكلام يدلل على أن الرجل لا يعلم شيئا عن طبيعة الإسلام وإن كان ملمّا بالنظرية الماركسية وأبعادها ، ويتعامل مع الإسلام على أنه كنيسة ، والكنيسة لها تجليات فيما يسمى الحكم الإلهي وامتلاك صكوك الحرمان والغفران حتى يوم الناس هذا ، وأنها حكمت أوربة في العصور الوسطي الوسطى بالظلام والخرافة ، على العكس من الإسلام الذي كان نورا وهدى للناس في كل مكان حط به ، وصنع حضارة كانت أساسا للمدنية الأوربية الحديثة .
من المعيب على كثير من المثقفين الذين يعدون صفوة المجتمع ألا يدركوا طبيعة الحكم العسكري ، وأن يشبهوا الإسلام بالكنيسة ، وأن يخرجوا على الناس بمزاعم عن الحكم الديني ، مع أن الإسلام جعل الأمر شورى بين المسلمين قبل ديمقراطية الغرب بقرون طويلة ، وهناك سورة اسمها الشورى يتعبد بها الناس في صلواتهم اليومية ، ثم إن هؤلاء المثقفين في سبيل شهوة الحكم وليس الحرية لا يقبلون التزامات الديمقراطية ، ويستدعون أعداءها للإطاحة بها !
مأساة الدكتور أبي الغار ليست قاصرة عليه وحده، فهناك كثيرون مثله دفعتهم كراهية الإسلام وليس الإخوان إلى الترحيب بالفاشية العسكرية والتصفيق لها ، ولم يتوقعوا أن تدير لهم ظهرها ، وتطلب منهم أن يسمعوا لها وحدها ، وهو ما اضطر أبو الغار إلى إعلانه تطليق الكتابة في الشأن العام والاكتفاء بتناول القضايا الثقافية والتاريخية مالم تقع الواقعة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم !
الله مولانا . اللهم فرّج كرْب المظلومين ، اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم !
حاشية :
كتب أبو الغار بعد أسبوع من مقاله المشار إليه يمتدح الطائفة اليهودية في مصر بمناسبة مائدة إفطار أقامتها اليهودية ماجدة هارون في المعبد اليهودي بشارع عدلي لكبار الشيوعيين المصريين . نسي أبو الغار أن يقول لقرائه : إن ماجدة هارون ابنة اليهودي الشيوعي شحاتة هارون أحد كبار مؤسسي الحزب الشيوعي المصري "حدتو" الذي أسسه وقاده الخائن اليهودي هنري كورييل وشقيقه راؤول ، وهذا الحزب بكوادره اليهودية وغير اليهودية وقف بكل قوة - وما زال - مع إنشاء الكيان الإرهابي اليهودي في فلسطين المحتلة ، واستنكر دفاع العرب عن شعب فلسطين وأرضه . هل هذا المقال مغازلة للانقلاب كي يرضى عنه بعد غضب ؟
وسوم: العدد 676