لِنصُمْ عن سيئ الكلام مع صيامنا عن الشراب والطعام
العلاقات الزوجية
قال الله تعالى في خطابه إلى مريم عليها السلام حين أجاءها المخاض إلى جذع النخلة: "فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا". مريم (26)
وحين بشَّر الله سبحانه زكريا عليه السلام بيحيى؛ طلب زكريا من الله تعالى أن يجعل له آية: "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ". آل عمران (41)
وفي سورة مريم: "قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا". (10)
وتعدّدت أقوال المُفسرين في بيان الحكمة من إمساكه عليه السلام عن الكلام، وأختار ما قاله الزمخشري: وإنما خصَّ تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة، مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله، ولذلك قال: "وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ" أي في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة.
فإن قلت: لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت: ليخلص المدة لذكر الله لايشغل لسانه بغيره، توفّراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يُحبس لسانك إلا عن الشكر. وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مُشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه.
ويُمكن أن يُقال إن المراد بقوله تعالى: " قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا "، أن زكريا عليه السلام عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذي بشَّره الله به، أخبره سبحانه أن العلامة على ذلك أن يُوفَّق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى إنه ليجد نفسه متجهاً اتجاهاً كُليّاً إلى ذِكر الله وتمجيده وتسبيحه؛ دون أن يكون عنده أي دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك. وعلى هذا يكون انصراف زكريا عليه السلام عن كلام الناس ليس اختياريّاً.
على أي حال، ما أريده هنا للاستفادة من هذا الصوم عن الكلام، أو الإمساك عنه، تعويد الإنسان نفسه على ضبط لسانه، والتحكم في إطلاق كلامه، وخاصة بين الزوجين.
إن فوائد الصمت كثيرة، فهو يمنح الإنسان قدرة على التفكير في ماسيقوله من كلام، فيُحسِن اختيار الألفاظ، وصياغة العبارات، بحيث لايصدر منه كلام لاينبغي، فيندم عليه.
والصمت يُعين الإنسان على ذِكر الله، وذِكر الله من خير الأعمال، إذ يكون الذاكر قريباً منه سبحانه، ويكون الله قريباً منه، قال النبي (ﷺ): (إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه). صحيح الجامع.
فكيف بمن كان الله معه؟ هل يزيغ، أو يضل، أو يعجز عن ضبط لسانه؟ إنه قويّ بالله سبحانه، الذي يهديه ويُبصِّره ويُسدِّده.
ومن ثم فإن صمت أحد الزوجين يمنع حدوث الجدال الذي يقع حين يتبادلان الاتهامات، ويطلقان الكلمات، فيثور النزاع، ويشتد الصراع.
إن صمت أحدهما يجعل الآخر يهدأ وينطفئ غضبه، وتسكن نفسه.
وقد تكون المحاولات الأولى في الصمت فاشلة، لكن تكرارها، دون يأس من النجاح، يجعل الزوجين معاً متحكمين في كلامهما، قادرَيْن على الصمت متى أرادا.
بل إن بعض الناس نجحوا في الصيام عن الكلام عدة أيام، استعاضوا عن الكلام خلالها بالكتابة للتعبير عن حاجاتهم، أو بالإشارة، وذكروا أنهم استفادوا من هذا الصيام كثيراً، مثل اكتسابهم القدرة على ضبط ألسنتهم، وتحقيق صفاءٍ في نفوسهم، وزادوا في نشاط عقولهم.
وما أريده من الزوجين في شهر الصيام؛ أن يُدرِّبا نفسيهما على الصيام عن سيئ الكلام، مع صيامهما عن الشراب والطعام، وأُبشِّرهما إن فعلا ذلك برحمة لهما، وصفاء عيشهما، وزيادة مودَّتهما.
ولعلَّهما يواصلان صومهما عن سيئ الكلام، بعد انتهاء شهر الصيام، حين يذوقان لذة ما سَادَ حياتهما من سلام ووئام.
وسوم: العدد 722