عندما عُدتُ إلى بَربَرة
لاحت لي بربرة من بعيد. كنا على وشك الوصول. من شدة الفرح والبهجة بالنصر والتحرير زحفنا مشياً على الأقدام. كنا آلافاً من أهالي قرية بربرة المهجّرين في عام 1948. لم تكن المسافة بعيدة كثيراً، فهي لا تزيد عن 17 كم شمال مدينة غزة، حيث تقع بربرة على جانبي طريق صلاح الدين المؤدي إلى مدينة المجدل.
كنا ملهوفين أن نرى أراضينا التي هُجِّر منها أهلونا. لقد اصطحبني والدي لزيارة بربرة مرات عديدة في طفولتي. وفي إحدى المرات زرت بدراجتي الهوائية أرض جدي في الجهة الشمالية من القرية، كنت وقتها في الثانية عشر من عمري.
عندما وصلنا لم تخطئني الخطى نحو أرض جدي؛ أعرفها جيداً. لم يكن فيها بناء ولا زرع. كانت أرضاً بكراً، تتخللها أشجار الكينيا التي حاول الاحتلال اليهودي أن يطمس بها معالم قرى فلسطين المحتلة. وقفت كل عائلة أمام أرضها تشكر الله على نعمة التحرير. لم يكن أحد ليقدم على إجراء أي تغيير في القرية في تلك اللحظة، فقد صدرت قرارات من الحاكم العام لأراضي فلسطين المحررة بعدم المساس بالوضع القائم لفترة انتقالية مدتها سنة تتولى فيها الجهات المختصة الحفاظ على أراضي وأملاك ومقدرات فلسطين. كان الاحتلال قد أقام سكة حديد تمر عبر بربرة وأقام في جزء منها مستوطنة صغيرة، كان الواضح من تعليمات الحاكم العام أن أراضي السكة الحديد لن تعود لأصحابها حيث سيبدلهم عنها أرضاً أخرى في نطاق القرية؛ وذلك للحفاظ على هذه السكة للنفع العام. امتثل الأهالي لتعليمات الجهات المسؤولة بشأن عدم المساس بالمحاصيل والمباني وأعمدة الكهرباء والطرق، حيث سبقتنا إلى بربرة لجان متخصصة تولت إحصاء وحماية هذه المقدرات كما تولت لجان زراعية عملية رعاية المحاصيل والأشجار المثمرة حتى يأتي أوان حصادها. بعض أهالي القرية توافدوا إليها من خارج قطاع غزة، فبعضهم جاء من الأردن وبعضهم جاء من مصر، ونظراً لبعد أماكن لجوئهم فقد قرروا أن يقيموا في القرية، وإذ بلجان متخصصة مكلفة من الجهات المسؤولة تقوم بإحصائهم وتصطحبهم إلى بعض العمارات السكنية التي هَجَرَها المحتلون وتم إسكان كل عائلة في شقة سكنية تناسب عددها وذلك في محيط القرية حيث كان هناك بعض الأبنية والعمائر، وذلك بشكل مؤقت إلى حين الانتهاء من الإجراءات الانتقالية. لاحظنا وعياً ملموساً من الأهالي بعدم المساس بأية مقدرات أو التصرف بأراضيهم نظراً لحملة التوعية التي قامت بها بعض اللجان التحضيرية التي سبقت وتزامنت مع عملية التحرير والتي أرشدت الأهالي إلى كيفية التعامل مع الأراضي المحررة وإفساح المجال للجان المختصة بالتدخل حيث باشرت لجان شعبية انتشرت في جميع أنحاء فلسطين بحماية كل ما هو على وجه الأرض. لقد كانت هذه خبرة اكتسبتها الجهات المسؤولة من مجريات إخلاء مستوطنات قطاع غزة في عام 2005م التي تعرضت للنهب والتدمير بشكل مسيء جداً؛ فظهرت الحاجة إلى الحيطة من عدم تكرار هذا المشهد المسيء.
تجولنا في أنحاء قرية بربرة. كان استغلال الاحتلال للأرض هامشياً، فقد أقام مستوطنة صغيرة لا تزيد عن خمسين دونماً، وزرع مئات الدونمات لصالح تلك المستوطنة، وأقام محطة للقطار وسكة حديد تمر عبر القرية. لقد تفاجأنا من أن الاحتلال وعبر احتلال دام لأكثر من سبعة عقود لم يستغل الأرض بشكل جيد، مما يعني عدم حاجته لها، فلماذا طرد الفلسطينيين منها وهو لا يحتاجها؟!
دعا الحاكم العام كل اللاجئين للتوجه إلى مقره في غزة لتسجيل ملكياتهم التي نهبها الاحتلال أو دمّرها وأتلفها، وتوكيل الحاكم العام بملاحقة المحتلين عبر العالم لتحصيل قيمة ممتلكاتهم التي أهدرها الاحتلال، كما أنشأ دائرة لتقدير قيمة استغلال الاحتلال للأرض ومقدراتها خلال كل تلك العقود من السنين. توجهتُ مع أشقائي العائدين من خارج فلسطين لتسجيل ملكياتنا، وتوكيل الحاكم العام لملاحقة المحتلين للتعويض عن استغلالهم لأرضنا، وفي غضون ستة شهور انتهت عمليات حصر الأملاك، وتقدير قيمة التعويضات؛ تلك التعويضات التي ستسددها الجهات السيادية من الأموال السائلة التي تم وضع اليد عليها في المؤسسات المالية المنتشرة في فلسطين المحررة، فضلاً عن ملاحقة مالية ذات طابع قانوني لكل اليهود الذين هرّبوا أموالاً إلى خارج فلسطين أثناء عملية التحرير، أو أنشأوا شركات مزدوجة الجنسية، ولما شعروا بقرب نهايتهم في فلسطين هربوا بأنفسهم نحو شركاتهم الخارجية التي ما كان لهم أن يؤسسوها لولا نهبهم لثروات فلسطين طوال تلك العقود.
أما الأهالي الذين توافدوا عائدين من خارج فلسطين وأسكنتهم اللجان المختصة في الأبنية القائمة بصفة مؤقتة، فقد انتهت عمليات الإحصاء كافة في أقل من سنة، ومن ثمَّ شرعت الجهات السيادية في تمكين كل عائلة من ملكياتها، أو مقايضتها على بعض الأبنية المكافئة كلما لزم الأمر. وأما أنا وأشقائي فقد عدنا إلى أرض جدي لأنه لم يكن عليها أية أبنية أو مؤسسات، فتقاسمناها وعزمنا على البناء فيها بجانب مزرعة، وتشاركنا في بناء مسجد في جزء منها عن روح جدي ووالدي.
لقد أصدر الحاكم العام قبل نهاية السنة الانتقالية قانوناً يحرم كل خائن من ملكياته، وإيداع هذه الملكيات لحساب الدولة، على أن تكون الأولوية لأولاد الخونة وأحفادهم في استئجار تلك الأراضي من السلطات لأغراض زراعية، وذلك تشجيعاً لهم للتمسك بأرض فلسطين، وإعلاناً بعدم رفع الصفة الفلسطينية عنهم ومنعاً لتكرار العقوبة. وأما أراضي الوقف الإسلامي التي أُقيم على جزء منها سكة حديد وطرق معبَّدة، فقد تم تخصيص أراضي مكافئة لها من الأراضي الحكومية، لتبقى تلك للنفع العام، والأمر نفسه حصل مع الملكيات الخاصة.
مع تمام عملية إعادة الأملاك لأصحابها، قرر كبار المُلّاك عقد اتفاق بينهم على زراعة العنب على وجه الخصوص، وتطوير هذه الزراعة التي اشتهرت بها بربرة قبل النكبة، لتكون الأولى فلسطينياً، واتفق الجميع على جعل بربرة مدينة عامرة بأهلها واتخاذ ورقة العنب الخضراء شعاراً لبلديتها.
{..فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيبًا)51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا}(الإسراء 52)
وسوم: العدد 738