دراسة أسلوبية في صورة الكاريكاتير الفلسطيني

(أمية جحا نموذجا)

د. عمر عبد الهادي عتيق

[email protected]

مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة

فلسطين جنين

دراسة مقدمة إلى

المؤتمر الدولي الثاني عشر حول ثقافة الصورة

جامعة فيلادلفيا  ( الدورة الثانية )  3010 – 111 2007

المملكة الأردنية الهاشمية

دراسة أسلوبية في صورة الكاريكاتير الفلسطيني

( أمية جحا نموذجا)

إعداد :

عمر عبد الهادي عتيق

مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة

فلسطين جنين

يعد فن الكاريكاتير خطابا إعلاميا شعبيا ، يسعى إلى تصوير أكثر المواقف السياسية والاجتماعية حرارة وقربا من الوجدان الإنساني ويمتلك قدرة على اختزال مساحات شاسعة من الرؤى ولكن هذا الاختزال لا يلغي سمة الشفافية التي ينبغي أن تتوافر في الصورة الكاريكاتورية، ولم يعد الخطاب في عملية التواصل مقصورا على اللغة اذ ان غاية الخطاب  تتحقق بالكلمة والصورة واللون واية اشكال اخرى من الدوال والرموز، فالصورة الكاريكوتيرية هي نص سيميائي اذ  "يرى السيميولوجيون أنه لاشيء خارج النص، فالعنوان والنص والإخراج الطباعي والإشارات  والصور أجزاء لاتتجزأ من الخطاب، فكلّها إشارات دالة يكمّل بعضها بعضاً، وبخاصةأن السيميولوجيا أشمل من المنطوق"  (1)    وقد تكون الاشكال غير اللغوية اقدر على ايصال الفكرة واحداث التاثير والاثارة كما ان صورة الكاريكاتير قادرة على اضاءة افاق  الفكرة بزمن قياسي مقارنة بزمن الادراك الذي يقتضيه ادراك اللغة  وبخاصة ان صورة الكاريكاتير تتسم بالبساطة والتلقائية والمباشرة لانها خطاب مفتوح للمتلقي مهما كان مستواه الثقافي او المعرفي  وقد برز عدد من الظواهر الأسلوبية في صورة الكاريكاتير لدى أمية جحا ، يمكن تصنيفها على النحو الآتي :

أولا:    التناص:

تبرز ظاهرة التناص في صورة الكاريكاتير الفلسطيني، وتمتاز بتقنية دمج عالية بين الصورة وعبارة التناص،ويكشف التناص عن مستويات ثقافية مختلفة ومنابع معرفية ذات أطياف شتى لدى الفنانة أمية جحا التي تمتلك آلية اختيار لافتة لعبارات التناص  التي تحدث تلاقحا بين الماضي والحاضر،وتحدث كذلك تأثيرا وإثارة لدى المتلقي،وتراعي آلية اختيار عبارات النص مدى حضور عبارة التناص في ذهن المتلقي .        

وقد جمعت الفنانة في لوحاتها أنواعا شتى من التناص ، ويمكن تصنيف التناص في لوحاتها على النحو الآتي:-

1-  التناص الديني:

تستحضر الفنانة في إحدى لوحاتها مشهدا من القرآن الكريم،إذ تصور أبرهة الحبشي الذي عزم  على هدم الكعبة المشرفة ويظهر أبرهة يهوديا تميزه النجمة السداسية يركب فيلا، وطيور الأبابيل التي اتخذت أسماء الشهداء ترميه بحجارة من سجيل وتضمنت اللوحة قوله تعالى:"وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل".إن اختيار القصة القرآنية في سياق الانتفاضة يحمل في حناياه وظائف سياسية ونفسية،فالحجر في المشهد القرآني هدم جبروت أبرهة حينما عجز أصحاب البيت العتيق عن حمايته ، والحجر في مشهد الانتفاضة أعاد للقضية الفلسطينية صدارتها في المحافل الدولية وفي الوجدان العربي والإسلامي،كما لا يخفى الإيحاء العقائدي الذي تضمنه التناص في أن التوكل على الله سبحانه وتعالى محور النصر القادم.

"إن تمركز لغة القرآن الكريم وهي تتناص وتتعالق مع لغة النص وأنساقه تظهر في جانبها المعجمي بمثابة كهرمان اللغة، أينما استقرت في النص أضاء ت أرجاءه, وفتحت قراءته على توقعات دلالية بفضل تراسلاتها وإلماعاتها, بين زخم الموروث ومنطقية النص الحاضر  " ( 2 )

ويغيب أحيانا النص القرآني ، إذ تكتفي الفنانة بالقدرة التعبيرية للصورة لاستحضار النص الغائب فحينما عجزت أم موسى عليه السلام عن حماية طفلها من بطش فرعون أوحى لها الله سبحانه وتعالى ان تضعه في الصندوق وتقذفه في اليم ليكون في رعاية الله سبحانه وتعالى ، وقد عمدت الفنانة إلى توظيف هذا المشهد القرآني حينما صورت عجز العالم عن حماية الشعب الفلسطيني من جبروت الاحتلال ، فصورت فلسطين  طفلا في صندوق في وسط البحر ، والعالم لا يملك إلا عبارة" روح يا ولدي الله يحميك". ويستحضر هذا الثراء الدلالي قول جوليا كريستيفا "ان النص ليس نظاماً لغوياً كما يزعم البنيويون، أو كما يرغب الشكليون الروس، وإنما هو عدسة مقعّرة لمعان ودلالات متغايرة ومتباينة ومعقدة في إطار أنظمة اجتماعية ودينية وسياسية سائدة " (3)

وتوظف الفنانة الحديث الشريف لتصوير ارتباط اللاجئين بالوطن الذي أكرهوا على الخروج منه فتصور فلسطينيا لاجئا يناجي الوطن ممثلا بصورة القدس والمفتاح معلق بجانبها ، بقوله :" والله يا فلسطين انك أحب البلاد إلي.......ولولا أني أكرهت على الخروج منك لما خرجت" وقد لجأت الفنانة إلى إحداث تغيير في نص الحديث بهدف التناغم بين التناص وخصوصية الزمان والمكان الفلسطيني فقد ناجى الرسول عليه السلام مكة بقوله:"والله إنك لأحب ارض الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت" حينما أكرهته قريش على الخروج منها،وتتضمن البنية العميقة للتناص في الحديث الشريف بعدا عقائديا سياسيا،فكما عاد الرسول الكريم إلى مكة فاتحا منتصرا فان عودة اللاجئين إلى وطنهم أمر حتمي.

"إن هجرة النص من نصّ إلى آخر أو من فضاء إلى آخر، أو من ماضيه إلى حاضره، هجرة اختراقية تحوّلية، فهو ينبثق من نصّه ليتكوّن في نصّ آخر وفضاء آخر وزمن آخر، وتتطلّب هذه الهجرة المتعدّدة الأبعاد أن يتحوّل، فقد كان في ماضيه يقول شيئاً، وعليه أن يقول شيئاً آخر مختلفاً وبطريقة مختلفة في حاضره أو وضعه الجديد، وتتطلّب هذه الهجرة أن يحيا النص في ظروفه الجديدة حياة أخرى من خلال الحوارية والتفاعلية، وتعني إعادة إنتاج النص إعادة إنتاج معناه ومبناه وشكله وحجمه" (4)

وتقلب أمية جحا صفحات التاريخ الإسلامي لتختار اقرب الأحداث صلة بالحدث الفلسطيني ، وتعقد أواصر القربى بين الماضي والحاضر حتى يغدو الحدثان حدثا واحدا وزمنا متواصلا،فها هو صوت أسماء بنت أبي بكر تخاطب  جثمان ابنها "عبد الله بن الزبير" الذي صلبه الحجاج بقولها:"أما آن لهذا الفارس أن يترجل"، وتوظف الفنانة هذه العبارة توظيفا سياسيا لإبراز معاناة المحاصرين داخل كنيسة المهد في بيت لحم . وبهذا يصبح التناص " تشكيل نصّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، بحيث يغدو النّص المتناصّ خلاصة لعدد من النصوص التي تمحي الحدود بينها، وأعيدت صياغتها بشكل جديد، بحيث لم يبق من النصوص السابقة سوى مادتها. وغاب (الأصل) فلا يدركه إلا ذوو الخبرة والمران. (5)                                            

ويبدو أن شخصية أسماء بنت أبي بكر تشغل حيزا في ثقافة الفنانة وتشكل مثيرا في اللا شعور الإبداعي لديها ، فهي توظف خطاب أسماء في لوحة أخرى ، حينما أجابت ابنها عبد الله الذي كان يخشى أن يمثل الحجاج به بعد قتله،بقولها:"وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها" ونجد النص ذاته مع تغيير كلمة (يضير) إلى (يضر) في رد الفلسطيني على مطالبة الرئيس الأمريكي "كلنتون" للفلسطينيين بتنازلات مؤلمة،فقد اختار الفلسطيني القبض على الجمر – كما يبدو في الصورة_ بدلا من التنازلات المؤلمة،فلم يعد الجمر يحرق بعد أن ذاق الفلسطينيون أصناف العذاب كذلك لا يضر التمثيل بجثة عبد الله بعد قتله  "  فالكتابة نتاج لتفاعل عدد كبير من النصوص المخزونة في الذاكرة القرائية، وكل نصّ هو حتماً نصّ متناصّ، ولا وجود لنص ليس متداخلاً مع نصوص أخرى" (6)

2-  التناص الأدبي:

تحرص الفنانة في اختيار النصوص الأدبية على شهرة النصوص المختارة وذيوعها على السنة الناس من جهة ، وعلى تناغم النص مع الحدث المصور ، والنص الأدبي في هذا السياق يختزل دلالات لا متناهية إذ يوفر للمتلقي أو المتأمل للصورة آفاقا تخيلية قادرة على استيعاب ما هو موجود في الصورة وما يمور في وجدانه وذهنه ، فهدم البيوت وإغلاق الطرق وقصف الطائرات واقتلاع الأشجار والحصار الشامل ، حلقات تؤدي إلى نتيجة واحدة، وهو ما اختزلته أمية جحا بعبارة " تعددت الأسباب والموت واحد " وهي شطر من قول المتنبي:

من لم يمت بالسيف مات بغيره                  تعددت الأسباب والموت واحد

"وهكذا يبدو (التناصّ) حواراً بين النصّ وكاتبه، وما يحمله الكاتب من خبرات سابقة. كما أنه حوار بين النصّ ومتلقيه، ومايملكه المتلقي من معلومات سابقة " (7).

وتعمد في بعض اللوحات إلى تغيير طفيف في النص الأصلي ، وذلك في لوحة مجدت فيها الحجر " وفي الليلة الظلماء ينير الحجر إذ إن النص مأخوذ من قول أبي فراس الحمداني :

 سيذكرني قومي إذا جد جدهم                         وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ولا يخفى أن التصرف في النص الأصلي ضرورة دلالية فلو بقي الفعل الأصلي "يفتقد" لما استقامت دلالة الصورة.

   ويبدو أن هذه العبارة تلح على اللا شعور الإبداعي لدى الفنانة ، إذ نجدها بنصها الأصلي " وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر" في لوحة جمعت صلاح الدين الأيوبي والقدس .

ويمكننا أن نسمي هذا التناص تناصا مركبا، إذ يحوي نصا أدبيا وآخر تاريخا اذ ان  " المعطيات السابقة تقود إلى أن يغدو كل معنى مؤجلاً بشكل لا نهائي، وكل دال يقود إلى غيره في النظام الدلالي اللغوي، دون التمكن من الوقوف النهائي على معنى محدد، وتغدو عملية التوالد للمعاني مستمرة انطلاقاً من اختلافاتها المتواصلة، التي تبقى مؤجلة ضمن نظام الاختلاف، وتظل محكومة بحركة حرّة لا تعرف الثبات والاستقرار، وكل هذا يشحن الدوال ببدائل لا نهائية من المدلولات، وهذا يكشف أنّ هناك بناء وهدماً متواصلين من أجل بلوغ عتبة المعنى.‏(8)

وتوظف الفنانة النص الأدبي لإبراز جوانب من الهم الفلسطيني الداخلي وبخاصة هموم الموظفين الذين يعانون من ا لضائقة المالية وغياب القوانين التي تحمي حقوقهم المهنية والنقابية ، ويظهر المعلم وهو يكتب على السبورة "انصفوا المعلم ووفوه التبجيلا كاد المعلم أن يكون ذليلا".  والنص مقتبس من قول أحمد شوقي:

قم للمعلم وفه التبجيلا       كاد المعلم أن يكون رسولا

وتضيف الفنانة للتناص الأدبي إطارين موشحين بالحداد ، أحدهما لقانون الخدمة المدنية ، والآخر لقانون التأمين والمعاشات ، ولم تغفل إبراز الفقر والعوز حينما أظهرت جيبيه فارغتين مقلوبتين. ولا يخفى اننا "  عندما نقتطع الكلمات من سياقها اللغوي وغير اللغوي الذي قيلت فيه لندخلها في علاقة حوارية جديدة بكلمات محيطة أخرى سرعان ما تضفي عليها دلالة جديدة مغايرة وبالإضافة إلى ذلك فإننا عندما ندخل في كلامنا كلمة لشخص آخر نخلع عليها لا محالة شيئا من صوتنا" ( 9 )

3-  التراث الشعبي:

تحشد الفنانة عددا من مقومات التراث الشعبي لتصوير الحدث السياسي، فكسر الجرار الفخارية وراء شخص ما يدل في المعتقدات الشعبية الفلسطينية على الفرح برحيل ذلك الشخص والكراهية له ، وهو ما بدا جليا في اللوحة التي يكسر الفلسطيني الجرار الفخارية وراء الإدارة الأمريكية تعبيرا عن رفض المقترحات الأمريكية المتعلقة بالقضية الفلسطينية . "وأكثر المبدعين أصالة هو مَنْ كان في تكوينه رواسب من الأجيال السابقة)" 10)

ويبرز المثل الشعبي الفلسطيني في غير لوحة في سياق الحوار الفلسطيني الأمريكي،وهو يجسد خيبة الأمل من الموقف الأمريكي كما في حوار الرئيس الفلسطيني للإدارة الأمريكية ، إذ إن رد الجانب الأمريكي على اتفاق 13شباط بقولهم:"إشباط ما عليه رباط" يجسد تقلبات الموقف الأمريكي وضبابيته ، ومن المعروف في الثقافة الشعبية أن شهر شباط لا يثبت على حال من حيث الحالة الجوية والعوامل المناخية ، وفي الذاكرة الشعبية مثل آخر " شباط الخباط ساعة شمس وساعة أمطار".

وللأغنية الشعبية وبخاصة النشيد الوطني حضور في لوحات أمية جحا ، وتعمل تقنية الدمج بين نص الأغنية والصورة على إثراء نص الأغنية بدلالات جديدة لم تكن متوافرة في النص المجرد، إذ إن مكونات الصورة تتحول إلى نصوص متداخلة تؤدي وظيفة متكاملة، فالنشيد الوطني(بلادي بلادي) تصدح به الحناجر في كل حين ومن كل مكان ، ولكنه يكتسب دلالات جديدة ، ويشحن بمؤثرات نفسية حينما يصدر من طفل يقف بجانب سارية العلم الصاعد من بين جماجم الشهداء ودبابات الاحتلال تحكم الطوق عليه.

4-التناص الرقمي :

يجسد الاختيار الرقمي لدى الفنانة أمية جحا  قضايا وطنية كبرى إذ إن كل رقم منها يحمل في حناياه تاريخا مشبعا بالمعاناة ، ولا تقدر أية صورة أخرى على النهوض بدلالات الرقم مهما كانت تقنية الصورة فالأرقام (1948)و (1967)التي تظهر في الصورة تمثل أيقونات سياسية في أجندة التاريخ الفلسطيني وهي أيقونات مشبعة بالحزن والحسرة لذا جاءت خلفية الصورة سوداء.اذ" ان اللون يؤثر على الذات الإنسانية ويظهر ذلك بتسارع دقات القلب وحركات الجفون وإفراز العرق واختلاف حركة النفس وهذا ناتج عن ارتباط الألوان بمعان راسبة في عقلنا الباطن نتيجة لخبرات بعضها موروث في الجنس البشري وأخرى مررنا بها في الحياة العامة. وكل واحد منا يشع بثلاثة أو أربعة ألوان رئيسية ويمنحنا هذاا الاتحاد الكلي الإحساس بماهيتنا ونعرف من نحن، فلقد مثل اللون ولازال يمثل وسيلة للتعبير والوصل بين الأحاسيس والأفكار وتبعاً لذلك يترتب معرفة السمات الخاصة بكل لون ومدى تأثيره على النفس الإنسانية".‏( 11 )

وحينما يستأثر الاختيار الرقمي بمساحة اللوحة فانه يغني عن وجود صور أخرى ، وقد يتخذ الرقم نفسه شكلا فنيا ايحائيا فالرقم (54)سجل تاريخي يختزل أربعة وخمسين عاما من المعاناة وقد اتخذ الرقم (5) شكل منجل تصويرا لحصاد تلك السنوات كما أن اللون الأحمر إيحاء بدموية الحدث.

5- التناص السياسي:

تختار الفنانة عناوين ذات توتر سياسي عال، وهي عناوين ذات قدرة على تجسيد الموقف السياسي الراهن، فالبندقية التي تتحول إلى قلم إسرائيلي يكتب اتفاق غزة بيت لحم تصور مخزونا من الأحداث التراجيدية التي جرت أثناء حصار كنيسة المهد في بيت لحم ، وإبعاد عدد من المحاصرين إلى غزة ، والمتلقي حينما يقرأ عنوان اللوحة فإنه يشرع باسترجاع الأحداث ، ومتابعة تطوراتها .

وقد يجمع التناص السياسي بين المضمون الرئيس للعنوان المختار وسياق سياسي آخر، فالمضمون الرئيس للعنوان المختار في هذه اللوحة هو بنود اتفاقية وثيقة الأسرى للوفاق الوطني ، والسياق السياسي الآخر هو الفلتان الأمني الذي يعد سببا رئيسا لموت الوثيقة.و "الإعلام اليوم يتوسع كثيرا بل يتضاعف ويدخل في حياة الناس وشؤونهم أكثر من الأخبار والإعلان والترفيه، فهو أيضا يتحول إلى خدمة تعليمية وتثقيفية وبوابة حوار وتأثير وتفاعل وجزء من العمل السياسي والتجاري والثقافي( 12)

ثانيا:   الرمز

من التقنيات الفنية التي تجلت في الكاريكاتير الفلسطيني لدى أمية جحا الرمز الذي عبر عن الثوابت الوطنية في مسيرة النضال الفلسطيني ، وقد أبدعت الفنانة في اختيار أكثر الرموز نبضا في الوجدان الفلسطيني بحيث تؤدي رؤية الصورة الرمزية إلى إثارة ذهن المتلقي للقضايا التي يختزلها الرمز يقول الشاعر الايرلندي وليم بتر ييتس: " اننا بحاجة الى الرمز الذي هو التعبير الوحيد عن خلاصة الحقيقة اللامرئية " (13 )

ويمكننا رصد ابرز الرموز في الإبداع الكاريكاتيري على النحو الآتي:-

1-  المفتاح:

ما زال كثير من اللاجئين الفلسطينيين يحتفظون بمفاتيح بيوتهم التي أكرهوا على الخروج منها في نكبة 1948 ونكسة 1967 ، ونشاهد في كثير من الأحيان فلسطينيين يقبضون على مفاتيح بيوتهم عبر شاشات القنوات الفضائية في بعض المناسبات وذلك في مخيمات الشتات الفلسطيني تعبيرا عن رفضهم لسياسة التوطين ، وتصميما على حق العودة..

ولم يعد اللاجئون إلى الوطن على الرغم من مرور أربعة وخمسين عاما على النكبة ، لذا أصبح المفتاح الرمز إرثا ، تتوارثه الأجيال تمسكا بحق العودة ، فالأب الفلسطيني - كما يظهر في الصورة – لا يجد شيئا يورثه سوى المفتاح ، ونلاحظ اللمسة الفنية الإيحائية في حلقة المفتاح التي اتخذت شكل قلب تعبيرا عن ارتباط الفلسطيني بحقه في العودة إلى الوطن.

وإذا كان الإرث قد تحقق في سياق الموت على فراش المرض في اللوحة السابقة ، فإن المفتاح الرمز إرث كذلك في سياق المقاومة والمعركة ، فالمفتاح الذي يسقط من يد الأب الشهيد يتلقفه الابن المقاوم استكمالا لمسيرة العودة.

وتجسيدا  لاعتزاز الفلسطيني بالمفتاح الرمز فقد ظهر قلادة تتدلى على الصدر  في أكثر من لوحة ، وتعليق المفتاح في الرقبة كان مظهرا اجتماعيا سائدا في كثير من الأماكن الفلسطينية ، وبخاصة مفاتيح الخزائن التي تحوي مدخرات أصحابها ، فالمفتاح حول العنق دلالة على الحرص عليه وأن العودة إلى الوطن أغلى ما يملك اللاجئون. ويبدو التصميم على العودة جليا في اللوحة وذلك من خلال نبات الصبار الذي نبت من رأس اللاجئ من طول الانتظار.

ويظهر المفتاح الرمز صورة جدارية في منزل عائلة فلسطينية في أحد المخيمات في مشهد في مشهد مأساوي يفيض فقرا وبؤسا.

وإذا كان المفتاح رمزا للوطن المنتظر ، فإن بعض اللوحات تجسد المفتاح وطنا ، إذ تعمد الفنانة إلى تفريغ فوهة المفتاح لتحوله إلى ملجأ تأوي إليه عائلة فلسطينية وذلك تعبيرا عن ديمومة الرحيل واستمرارية التشتت من مكان إلى مكان. فالرمز  " وسيلة ادراك ما لا يستطاع التعبير عنه بغيره فهو افضل طريقة ممكنة للتعبير عن شيء لا يوجد له أي معادل لفظي، هو بديل من شيء يصعب او يستحيل تناوله في ذاته( 14)

وتعمد الفنانة إلى تشكيل جسم المفتاح من أجساد اللاجئين إذ تتحول قضية اللاجئين في هذا التشكيل من مشكلة إنسانية وفق بعض الرؤى السياسية إلى قضية وجود تضرب جذورها في أعماق الوطن ..

ويتحول المفتاح من مستوى الرمز الإيحائي إلى الرمز المقاوم إذ يظهرا لمفتاح جبارا يتغلب على دبابة الاحتلال . وما هذه القدرة الخارقة للمفتاح إلا تجسيدا للإرادة والعزيمة التي يتسلح بها الفلسطيني ومن الرمز المقاوم يتحول إلى رمز نفسي يتكئ عليه

اللاجئ ويتخذه مصدر قوة وثبات للتغلب على تتابع الويلات ، فها هو العجوز الفلسطيني يتخذ من المفتاح عكازا يتكئ عليه حاملا الوطن على ظهره الذي حنته الأحداث التاريخية الجسام من وعد بلفور إلى النكبة إلى النكسة.

 ويتحول المفتاح الرمز الى  مجداف لسفينة العودة التي طال انتظار الفلسطيني لإبحارها، وهي عودة محفوفة بالمخاطر، وتقف في طريقها عقبات تمثلت في اللوحة بالحوت الإسرائيلي الذي يهاجم سفينة العودة.

2- البحر::

 يشكل البحر مساحة مضيئة في الذاكرة الفلسطينية وبخاصة اللاجئين الذين اجبروا على الرحيل عبر البحر من سكان الساحل الفلسطيني.فالبحر حافظة للحكايات التي يرويها الأجداد للأحفاد عن تفاصيل المعاناة التي ما زالت بصماتها ماثلة في وجدانهم.

وتوظف الفنانة أمية جحا الموروث البحري لإبراز الأبعاد السياسية للقضية الفلسطينية ، إذ يبدو في اللوحة الفلسطيني وهو يمخر عباب البحر في قاربه الصغير في جو عاصف يهدد حياته ، وما العواصف الأمريكية والأوروبية إلا مواقف سياسية تعصف بالقضية الفلسطينية ، ولا يخفى أن الخوف والخطر في سياق اللوحة البحرية مستوحى من الموروث البحري للاجئين في زمن النكبة.

وتوجه الفنانة رمزية الخطر والخوف للبحر نحو الآخر ، فنجد غزة تتحول إلى بحر يبتلع الاحتلال وفي هذا التحول تصوير لفاعلية المقاومة وصمودها في غزة من جهة ، ونقل المكنون النفسي للبحر من الذات إلى الآخر .

 

وللبحر طاقة تصويرية تتوزع على الأنا والآخر، فتارة نراه حاملا مصورا للهم الفلسطيني ، وتارة نراه رمزا للآخر يدمر الأنا الفلسطيني ، كما في اللوحة التي تصورا لاستيطان بحرا هائجا يكاد يبتلع فلسطين وما حمامة السلام التي تحلق في سماء اللوحة إلا مفارقة صارخة ؛ فالمستوطنات تبتلع فلسطين على الرغم من جولات المفاوضات التي لا حصر لها.

وتتصف رمزية البحر بخاصية التوليد إذ ينتج عن البحر الرمز رمز آخر ، إذ يصبح البحر مساحة صيد لإظهار المفارقة السياسية ، فمياه البحر تمثل اتفاق way river

2- الحجر :

لم يقم الحجر بوظيفة في التاريخ البشري كالوظيفة التي أداها في الانتفاضة الفلسطينية وبخاصة الانتفاضة الأولى(1987). إذ كان سلاحا بدائيا فاعلا أعاد مؤشر ساعة الحدث الدولي إلى القضية الفلسطينية ، فهو قوة هائلة تكسر قيود الاحتلال كما يبدو في اللوحة ، وما كسر القيد أو السلاسل إلا تجسيد للمواجهة بين الحجر وآلة الحرب الإسرائيلية ..

ونجد الحجر رمزا مقترنا بالصمود والشموخ والإباء في إبداع اللا شعور لدى أمية جحا، فهي تجمع بين الحجر الرمز والإنسان الفلسطيني الذي تحول إلى شجرة تضرب جذورها في أعماق الأرض ، غير آبه بالقنابل التي تنهمر عليه ولسان حاله يصرخ :"عش حرا أو مت كالأشجار وقوفا".

وتبرز ظاهرة الأنسنة في رمزية الحجر ، إذ يظهر الحجر إنسانا ناطقا في لوحة يظهر فيها حجران يمثلان الانتفاضة الأولى والثانية من خلال التحديد الزمني ا لمنقوش عليها . ويتضمن القول الصادر من الحجر الأول " إوعى تكرر مأساتي ويخلوك مجرد ذكرى " بعدا سياسيا ، كما ظهر الحجر الثاني أكبر حجما من الحجر الأول ؛ لأن فعاليات الانتفاضة الثانية ووسائل المقاومة فيها وأبعادها السياسية أكبر حجما من الأولى .

ويمكن تصنيف الحجر الرمز الذي بدا كف يد يرفع شارة النصر في ظاهرة الأنسنة أو تشخيص الجماد ، ونلاحظ أن الشظايا المتطايرة من الحجر الرمز بفعل القنابل الإسرائيلية قد تحولت إلى أحجار رمزية ترفع هي الأخرى شارة النصر تجسيدا لمقولة :"إن الضربة التي لا تميتني تزيدني قوة".

ويتخذ الحجر الرمز بعدا دينيا في مواجهة أول المؤامرات الدولية على فلسطين، فهو قوة سماوية تدمر وعد بلفور الذي اتخذ صورة صاروخ إسرائيلي . وقد اتسمت اللوحة بلمسة لغوية فنية حينما جانست بين عبارة "وعد بلفور" وعبارة " وعد السماء.

4- القبر:  

تتجاوز رمزية القبر الدلالة المألوفة وهي الموت والحزن إلى دلالات يقتضيها السياق الفلسطيني، إذ يظهر القبر الرمز

مؤرخا لأبرز الأحداث دموية في    فلسطين ، إذ يؤرخ الشاهد الأول للقبر لمجزرة الأقصى التي وقعت في أكتوبر 1990 ويؤرخ الثاني لمجزرة الأقصى التي وقعت في أكتوبر 2000 ، ولا تخفى دلالة جمع المجزرتين في قبر واحد ، كما لا تخفى رمزية شقائق النعمان لشهداء المجزرتين.

وينتقل القبر الرمز من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية حينما يقرع طبل الأسرى بين أبرز مؤسسات المجتمع الدولي التي ينبغي أن تقوم بدورها تجاه قضية الأسرى في جانبيها الإنساني والسياسي.

وتلجأ الفنانة إلى أنسنة القبر لتصوير آلام الأمهات الثكالى وسماع أرواح الشهداء الذين ينعمون في جنات الخلود ، فاللوحة تجمع بين الحضور والغياب ، أو بين آلام الدنيا وفرح الآخرة وذلك ان " الرسم مجموعة من الشحنات يفرغها الفنان على الورق وترافقها موسيقاه مع نزيف داخلي وخارجي من خلاله يجد أنه أعطى ما يريد من خلال رسوماته وابداعه" ( 15 )

5- الطير:

يكتسب الطير وبخاصة الحمامة البيضاء بعدا إنسانيا ، إذ يتخطى حدود الجغرافيا واختلاف الأجناس فهو يرمز إلى السلام والحرية . وهو عنوان انساني والرمز هو " المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص، وتسهيل مأمورية الدخول في أغواره و تشعباته الوعرة" ( 16 )

ولكن هذه الخصوصية العالمية تتحول إلى خصوصية فلسطينية حينما نرى حمائم السلام سجينة باكية تعبيرا عن غياب السلام في فلسطين ولأن دلالة الرمز تكتسب توافقا إنسانيا عالميا فقد خلت اللوحة من عنصر اللغة فمشاهدة اللوحة تكفي لقراءة الدلالات الكامنة فيها " فالكاريكاتير عندما نجده من دون تعليق، يأخذ منا وقتاً للتأمل نظراً لأنه مشحون بأفكار انسانية وذو بعد جمالي وغير مرتبط باللحظة أو بالزمن أو بالظرف اطلاقاً  "(17 )    

وتحمل العلاقة بين الحمامة البيضاء وغصن الزيتون بعدا تاريخيا دينيا إذ يرتبطان بقصة الطوفان وسفينة نوح عليه السلام ، وهي لوحة خالية من اللغة ، ولكن التأمل فيها يؤدي إلى عقد موازنة بين الحضور والغياب للسلام ، فالقسم الأول من اللوحة يصور حالة السلام الغائب ، والقسم الثاني يمثل حالة السلام الحاضر . إذ يبدو غصن الزيتون أخضر يانعا وحدقة الحمامة تفيض أملا وفرحا  وذلك في القسم الأول ، ويبدو غصن الزيتون جافا ذاويا والحمامة باكية وذلك في القسم الثاني..

وتجسيدا للبعد الإنساني الأممي للحمامة الرمز، تظهر الحمامة قتيلة لم تحمها الخوذة الزرقاء ولا الدرع الأزرق لراعي السلام ، فاللوحة ترمز لدلالة مركبة ، إذ تدل على حالة السلام في فلسطين ، وتدل على الاعتداء على الشرعية الدولية والاستهانة بها.

وترمز إلى خطاب السلام النفعي ، حينما يُستغل الحديث عن السلام لمآرب حزبية، فتصبح حمامة السلام كرة يتقاذفها أقطاب السياسة وبخاصة في سياق الانتخابات الحزبية كما يظهر في اللوحة التي تصور مصير السلام في صراع الانتخابات الإسرائيلية.

وتوظف الفنانة رمزية الطير لإبراز ثنائية ضدية بين حمامة السلام والغراب الذي يرمز للتشاؤم والبؤس والشر في الوعي الجماعي ، وتعمد الفنانة إلى تخصيص عمومية الرمز ، فتصور حمائم السلام الموشحة بالكوفية الفلسطينية رمزا للعودة إلى الوطن ، وتصور الأغربة على الساحل الفلسطيني في حالة رفض ودهشة.

ولأن العلاقة في الوعي الجمعي بين الحمائم والأغربة علاقة تنافر وتضاد ، فقد أظهرت اللوحة الأغربة وهي تفترس حمامة السلام وقد خلت اللوحة من اللغة لأن الثراء الدلالي وشفافية الرمز لا يقتضيان وجود وسيلة توضيحية.

6- الطفولة:

يشغل الطفل مساحة واسعة في لوحات أمية جحا ، ويؤدي وظيفة سياسية تفوق مستواه العمري ، إذ يظهر سفيرا للسلام ومحاورا للآخر ، ويختلف خطاب الطفولة باختلاف المخاطب ، فحينما يخاطب الطفل الإدارة الأمريكية فان موضوع الخطاب الطفولي يكون الأب الأسير وفي تخصيص موضوع الخطاب وخزة ضمير من طفل محروم من أبيه إلى راعي السلام وراعي حقوق الإنسان الذي عجز عن تحقيق ابسط حقوق الطفولة.

وحينما يخاطب الطفل جنود الاحتلال فان موضوع الخطاب الطفولي يتخذ أبعادا سياسية ونضالية ، وتتصف لغة الحوار فيه بالقوة والتهديد ، كما يبدو في اللوحة إذ يقدم الطفل لجندي الاحتلال معادلة رياضية ؛ مفاوضات – تحرير الأسرى = مواجهة مستمرة ، ونلاحظ الطفل يخفي الحجر وراء ظهره ، وعلاقة الطفل بالحجر علاقة واقعية لأن الطفل يشكل محورا رئيسيا في انتفاضة الحجارة  .

ويتحول سفراء السلام إلى ضحايا حرب عمياء ، لا تفرق بين مقاوم وطفل، وتختار الفنانة اقل المستويات العمرية للأطفال الشهداء   فكلما كان الشهيد  صغير السن كان أكثر إثارة وتأثيرا ، لأن مشهد الطفولة ذو بعد إنساني بصرف النظر عن سياق المواجهات التي سقط فيها الطفل الشهيد ، وتختار الفنانة أسماء أطفال شهداء – كما في اللوحة السابقة ، إذ تبدو الطفلة الشهيدة – إيمان حجو – ملاكا يرفرف بجناحيه على طفل جريح باك ، وقد أضحت إيمان حجو في الوجدان الإنسان رمزا للأطفال الشهداء ،كما كان من قبلها – محمد الدرة – الذي استشهد في أحضان والده الذي عجز عن حمايته من رصاص الاحتلال. وقد اختارت الفنانة الصورة الفوتوغرافية الحقيقية لأنها تشتمل على مثيرات إنسانية قلما تتوافر في لوحة كاريكاتورية ، ومن المعلوم أن هذه الصورة الفوتوغرافية قد أحدثت زلزالا في الأعلام الدولي وسببت حرجا غير مسبوق لمنظمات حقوق الإنسان.

يسوق الأستاذ محمد حسنين هيكل مثالاً لقوة الصورة، في هذا العصر، بدلاً من قوة الدبابة، بصورة الشهيد الطفل محمد الدرة وهو يموت محاصراً بالنار في حضن أبيه " ان صورة الدرة ومثيلاتها من الصور زادت تعاطف الرأي العام في أوربا من ثلاثين إلى خمسين بالمائة، وفي الولايات المتحدة من واحد إلى عشرة في المائة" ( 18 ) وقد أضافت الفنانة لمسات نصية وفنية ، إذ ظهر نص الاستغاثة ( واعرباه) ، ورسم أزيز الرصاص كلمة "السلام" على الجدار لإبراز المفارقة بين السلام المزعوم والواقع الدموي.

وتتخذ الطفولة في سياق الحرب شكلا آخر حينما يظهر طفل يكتب بفمه بعد بتر يده  وإصابة الأخرى . كما تبرز لوحات أخرى الجانب النفسي لدى الأطفال اللذين يعانون من الخوف والهلع من تهديد الطائرات الحربية وضجيج الصواريخ أثناء القصف. وتعتني الفنانة بإبراز الحقوق المدنية للطفل الفلسطيني ، وبخاصة غياب الحق في التعليم ، إذ تبدو في اللوحة دبابة إسرائيلية تغلق مدرسة للأطفال الذين يقفون واجمين حائرين عاجزين أمام مدرستهم.

وتحرص الفنانة على إبراز عنصر المفارقة في سياق تصوير حقوق الطفل الفلسطيني، إذ يبدو الطفل فقيرا مشردا يبيع الجرائد الموسومة بعنوان "يوم الطفل الفلسطيني" ويتكرر مشهد الطفل الفقير المشرد في غير لوحة ، وهذا التكرار تجسيد لظاهرة الأطفال الفقراء الذين يجوبون الطرقات يبيعون الجرائد وأشياء أخرى لكسب قوت يومهم .

وتختار الفنانة المناسبات الاجتماعية لتصوير حرمان الأطفال وبؤسهم ، وبخاصة يوم العيد الذي ينبغي أن يكون عنوانا للفرح الطفولي، ولكنه يظهر مصبوغا بالدم.

وتستثمر الفنانة يوم العيد لتشكيل لوحة مركبة ، لتصوير الضائقة الاقتصادية التي تسبب عجزا للكبار عن تقديم ما يعرف بـ " العيدية " كما تصور اللوحة حرمان الأطفال في عيدهم

6-  المرأة:

يجمع الإبداع الكاريكاتوري لدى أمية جحا بين المرأة الواقعية ، والمرأة الرمز، ومن اللوحات التي تصور الصنف الأول ، امرأة قلقة خائفة على أسرتها من قصف الطائرات بعد أن سمعت هديره ، وتحرص الفنانة في هذا الصنف من اللوحات على إبراز اللهجة الفلسطينية على لسان المرأة (الزوجة):"قوم يا أبو عايد فز الطيارات الإسرائيلية بتحوم الظاهر بدها تقصف" ويرد الزوج عليها :" يا ولية اطفي هاللمبة ونامي ما بشيل الروح إلا اللي خالقها ". واللهجة في اللوحة تعزز المستوى الواقعي للمرأة " ومن المعروف أن اللهجة والطريقة الخاصة تميز المستعمل وتشي بانتمائه لجماعة خاصة. وإعادة إنتاجها يعني قصد إبراز هذا الانتماء القومي أو الاجتماعي أو الثقافي . (19 )

ومن اللوحات التي تصور الصنف الثاني امرأة يشكل جسدها خريطة الوطن ، فتظهر بزيها الأسود وبعينيها الباكيتين تعبيرا عن الحزن المطلق، ولكنها تحمل وردة حمراء رمزا للغد الآتي.

وتتحول المرأة الرمز من الدلالة العامة إلى الدلالة الخاصة ، إذ تظهر بزي شعبي يمثل مدينة بيت لحم ، ومن المعلوم أن لكل مدينة فلسطينية زيا خاصا  بها ، يعكس انتماء جغرافيا.

ثالثا : ظاهرة الموازنة ( الثنائيات الضدية ):

اتخذت الفنانة من الموازنة وسيلة لإبراز الثنائيات الضدية في الجانبين السياسي والاجتماعي ، وتدرك الفنانة أن اللوحة التي تشتمل على علاقة ضدية هي أكثر تأثيرا وإثارة للمتلقي، كما أن العلاقة الضدية أكثر قدرة على النهوض بوظيفة اللوحة . وقد أدت اللوحات التي اشتملت على ثنائيات ضدية الوظائف الآتية :-

1- الكشف عن سياسة التفرقة العنصرية

يكشف عدد من اللوحات عن سياسة متعمدة تقوم على التمييز العنصري بين اليهودي والفلسطيني ،   إذ يظهر اليهودي في سياق المسموح ويظهر الفلسطيني في سياق الممنوع ، كما تصور اللوحة أن سجينا إسرائيليا سم له بزيارة زوج ابنة خالته لمدة ثلاثة أيام ( ولا تخفى السخرية هنا من بعد القرابة )، في حين يمنع السجين الفلسطيني من إلقاء نظرة الوداع على جثمان والده ، والموازنة هنا لا تقتصر على ثنائية المسموح والممنوع وإنما تشمل لغة الخطاب ، فاليهودي يخاطب المسؤولين بلغة الإملاء ، والفلسطيني يخاطب بلغة الرجاء ، وتشمل المدة الزمنية للإجازة ، فاليهودي يطلب ثلاثة أيام ، والفلسطيني يطلب إلقاء نظرة وداع ، وكذلك تبرز الثنائية في علاقة القرابة ، فاليهودي يريد زيارة زوج ابنة خالته ، والفلسطيني يرجو رؤية جثمان والده لحظة واحدة. 

وتتجلى التفرقة العنصرية في سياق الصراع ، فالمستوطن اليهودي الذي قتل فلسطينيا حر طليق يتقلد وشاحا تقديرا لجريمته وهو مغتصب الأرض ، والفلسطيني الذي جرح مستوطنا مثقل بالقيود والسلاسل وهو صاحب الأرض .

وتمتد التفرقة العنصرية إلى الحقوق المدنية ، فالمستوطنات الإسرائيلية تزرع في الأرض الفلسطينية بلا ترخيص ، وبيت الفلسطيني على أرضه يهدم بحجة عدم الترخيص" وإذا كان الفن محركاً أساسياً لوعي الجماهير وتطوير ثقافتها ومعتقداتها يبقى فن الكاريكاتير الشعلة المضيئة التي تعطي للأجيال الواقع المعيش من خلال المعاناة اليومية، وترافقهم عبر مسيرة وعي لا تنتهي... وإذا كان المسرح أبا الفنون ففن الكاريكاتير لا يقل شأناً عنه... (20).

وما أقسى أن تمتد التفرقة العنصرية إلى الطفولة ، حينما ينام الطفل الإسرائيلي آمنا منعما حالما ، في حين ينام الطفل الفلسطيني على أنقاض بيته خائفا متعبا مشردا .

وقد لا تكفي مشاعر الاستغراب والدهشة حينما نشاهد طفلا يهوديا يلهو ويمرح في حدائق بيت المقدس، في حين أن باب الحديقة موصد أمام الطفل الفلسطيني، وما يجعل اللوحة تفيض توترا واستهجانا أن اسم الحديقة هو "هشالوم" أي : السلام.وقد كتبت امية جحا عن واقع الطفل الفلسطيني من خلال تجربة ذاتية مع ابنتها وذلك بقولها "يوم الخميس هو اليوم الذي أصحب فيه ابنتي نور (أربع سنوات) إلى البحر، فلا متنزهات و لا ملاهي للأطفال تتتسع لأطفال منطقة أكبر كثافة سكانية في العالم (قطاع غزة)، أو بالأحرى إسرائيل فرضت عدم اللعب والتنزه على أطفال فلسطين. حتى البحر يا نور ما عاد مكانا رحبا ولن نجد عنده شاطئ الأمان " ( 21 ).

2- إبراز ازدواجية السياسة الأمريكية:

لا يحتاج الانحياز الأمريكي لإسرائيل إلى محلل سياسي بارع ، فقد بات أمرا مكشوفا تعجز لغة الدبلوماسية عن إخفائه ، ولهذا لا غرابة أن نرى الوسيط الأمريكي الذي يرعى الاتفاق على وقف إطلاق النار وهو يسد فوهة المدفع الفلسطيني، ويترك فوهة المدفع الإسرائيلي حرة طليقة !

وتعمد الفنانة إلى اختيار بارع ، حينما توظف تمثال الحرية لإبراز ازدواجية السياسة الأمريكية ، فيد من التمثال تخنق طفلا فلسطينيا ينزف دما ، واليد الأخرى تحتضن رموز السياسة الإسرائيلية بعناية وحنان

   "  يتعرض موقع الفنانة العربية الفلسطينية (أمية جحا) رسامة الكاريكاتير على شبكة الانترنيت إلى مضايقات ورسائل تهديد ووعيد بالقتل وإلى ما هنالك من عبارات تكنولوجيا القهر والإرهاب الدولي من أفراد ومؤسسات تنتمي إلى العالم ((المتحضر!!)) وتدعي بالديمقراطية والحفاظ على الحريات الفردية والفكرية وحقوق الإنسان "  ( 22 )

3- تعرية عملية السلام.

تظهر اللوحة المفارقة في عملية السلام ، فالشجرة التي تجسد السلام يانعة مثمرة في الجاني الإسرائيلي ، وهي يابسة جافة في الجانب الفلسطيني ، وقد تحولت إلى أفاعي تهم بالانقضاض على الفلسطيني.

وتوظف الفنانة ثنائية القبلية والبعدية لإبراز مثالب عملية السلام ، فقد كانت المستوطنات في فلسطين قليلة قبل انطلاق عملية السلام ، وبعد عملية السلام ابتلعت المستوطنات فلسطين كلها .

وكذلك كانت فلسطين خالية من الحواجز العسكرية قبل عملية السلام ، وأصبحت الحواجز العسكرية بعد عملية السلام كالإخطبوط يمتد في كل مكان

              

هوامش البحث

1 _   الموسى ، خليل : قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر . منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000 م ص 73span>.

2&2  _  عميش، عبد القادر : اشتغال النص ضمن إسلامية النص . حوليات التراث ، مجلة دورية تصدرها كلية الآداب والفنون جامعة مستغانم العدد 2 سبتمبر 2004  ص 168

3 _  منصور، فؤاد : حوار مع جوليا كريستيفا. مجلة الفكر العربي، عدد 18/ 1982 بيروت ص122

4 _  الموسى ، خليل :قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر. ص 54

5  _   عزام ، محمد النــَّصُّ الغـائب تجليات التناص في الشعر العربي. منشورات اتحاد الكتاب 2001 ص 29

6 _  الموسى ، خليل : قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر . ص 134

7 _ عزام ، محمد :  النص الغائب  تجليات  التناص في الشعر العربي . ص 37

8 _ سعد الله،  محمد سالم: فلسفة التفكيك عـنـــد دريــــدا . مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 417 كانون الثاني 2006

9_  فضل ، صلاح : بلاغة الخطاب وعلم النص . عالم المعرفة ، 1978 ، ص 91

10 _ عزام ، محمد :  النص الغائب  تجليات  التناص في الشعر العربي . ص 28

 11span>_  الشاهر ، عبد الله : الأثر النفسي للون . الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 379 تشرين الثاني 2000

1212 _  غرايبة ، إبراهيم : مستقبل الكاريكاتير الصحفي . جريدة الغد الأردنية ، 30 كانون أول 2005

 13_  حجازي ، طلال : وليم بتر ييتس شاعر الرؤيا . مجلة أفكار ع 6 1966 ص 65      

 14  _  ناصف ، مصطفى :  الصورة الأدبية . دار الأندلس ، بيروت ، ب . ت ،ص 153

15 _ فطوم ، غادة فاضل : فلسطين في ذاكرة الفنان معتز علي . مجلة الموقف الأدبي العدد4192006span>

16&n  _. جميل حمداوي: "السيميوطيقا والعنونة"، عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير/ مارس 97، ص90

17 _ العابد ، محمد  : span> الكاريكاتير فن التقاط المفارقات والكشف عن الفساد. جريدة (الزمان) العدد 1342 التاريخ 2002 - 10 - 20/19

18 هيكل،  محمد حسنين : نهايات طرق: العربي التائه.  الشركة المصرية للنشر العربي والدولي –ط1 2002. ص 198 –199

19 _ فضل ، صلاح : بلاغة الخطاب وعلم النص . عالم المعرفة ، 1978 ، ص 92                               

2020 _فطوم ، غادة فاضل: /span> الفنان معتز علي: فلسطين دائماً في الذاكرة والبال.. والنبض. جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1003 تاريخ 22/4/2006

  21  _جحا، أمية : دبابيس. مجلة عود البند . العدد الثالث ، 8 آب 2006

22  _ ابو راشد ، عبد الله : رسامة الكاريكاتير العربية (أمية جحا): أبجدية التمسك بالحقوق جريدة الأسبوع  الأدبي العدد 781 ، 27 10 2001

مراجع البحث

1 _جحا، أمية : دبابيس. مجلة عود البند . العدد الثالث ، 8 آب 2006

2_ جميل حمداوي: "السيميوطيقا والعنونة"، عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير/ مارس 97

3_  حجازي ، طلال : وليم بتر ييتس شاعر الرؤيا . مجلة أفكار ع 6   ، 1966  

4  _ أبو راشد ، عبد الله : رسامة الكاريكاتير العربية (أمية جحا): أبجدية التمسك          بالحقوق جريدة الأسبوع  الأدبي العدد 781 ، 27 10 2001

5_5_  سعد الله،  محمد سالم: فلسفة التفكيك عـنـــد دريــــدا . مجلة الموقف الأدبيspan> - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 417 كانون الثاني 2006

6_ الشاهر ، عبد الله : الأثر النفسي للون . الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 379 تشرين الثاني2002_

7_ العابد ، محمد  : الكاريكاتير فن التقاط المفارقات والكشف عن الفساد. جريدة (الزمان) العدد 1342 التاريخ 2002 - 10 - 20/19

8_ عزعزام ، محمد النــَّصُّ الغـائب تجليات التناص في الشعر العربي. منشورات اتحاد الكتاب 2001

9_ عميش، عبد القادر : اشتغال النص ضمن إسلامية النص . حوليات التراث ، مجلة دورية تصدرها كلية الآداب والفنون جامعة مستغانم العدد 2 سبتمبر 2004 

10_غرايبة ، إبراهيم : مستقبل الكاريكاتير الصحفي . جريدة الغد الأردنية ، 30 كانون أول 2005

11_ فضل ، صلاح : بلاغة الخطاب وعلم النص . عالم المعرفة ، 1978

12_فطوم ، غادة فاضل : فلسطين في ذاكرة الفنان معتز علي . مجلة الموقف الأدبي العدد4192006

13_ فطوم ، غادة فاضل: /span> الفنان معتز علي: فلسطين دائماً في الذاكرة والبال.. والنبض. جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1003 تاريخ 22/4/2006

14_ناصف ، مصطفى :  الصورة الأدبية . دار الأندلس ، بيروت ، ب . ت

1515_الموسى ، خليل : قراءات في الشعر العربي الحديث والمعاصر . منشورات اتحاد الكتاب العرب، 2000 م

16 هيكل،  محمد حسنين : نهايات طرق: العربي التائه.  الشركة المصرية للنشر العربي والدولي –ط1 2002