الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين
كتاب جديد لأحمد الخميسي
علاء الديب*
" الباب المغلق بين الأقباط والمسلمين في مصر " كراسة صغيرة جميلة الإعداد تقدمها مؤسسة جديدة أقيمت إحياء لاسم الراحل نبيل الهلالي : الإنسان واليساري المناضل .. محامي كل أصحاب الرأي والحقوق الذين لا ظهر لهم ولا مال يسند وجودهم الضعيف . أسس هذا المشروع 11 اسما من أسماء الكتاب والمفكرين الملتزمين بخط وفكر نبيل الهلالي للدفاع عن نفس القضايا والحقوق التي كان يضحي بحياته وحريته في الدفاع عنها . لا أقول إنهم نوع من الكتاب والمفكرين لم يعد موجودا وسط أسواق الفكر ودكاكين الرأي ومؤسسات الارتزاق من مناخ العولمة وشركات الدفاع عن الحقوق المختلفة والقضايا المصطنعة ، لا أقول إنهم غير موجودين في حياتنا ، لكنهم أندر من الكبريت الأحمر ، تبحث عنهم فلا تجدهم ، ليس لهم عنوان ولا طريق يجمعهم . في هذه المؤسسة " مؤسسة الهلالي للحريات " 11 اسما ، ولهم عنوان هو 5 شارع محمد صدقي باب اللوق القاهرة ، ولعل كراسات الشعب تكون باكورة أعمالهم التي تشير إلي الطريق .
أحمد الخميسي هو الآخر قصاص وكاتب نادر ، جوهرة يصقلها العمل والالتزام والاستقامة ، هو من مواليد 1948 في حي المنيرة السيدة زينب ، يحب أن يقول إنه ولد في عام النكبة ، وهو طبعا ابن الإنسان والفنان الشامل والظاهرة الأستاذ عبد الرحمن الخميسي ، وأظن أنه هو الذي ظل قريبا منه حتى النهاية بعيدا عن مصر التي وهبها فنه وحياته . أحمد الخميسي كذلك عاش سنوات طويلة في موسكو حيث حصل على الدكتوراه في الأدب الروسي أو الأدب المقارن ، واشتغل بمراسلة الإذاعة والكتابة للصحف العربية والمصرية . وكان قد أصدر في مطلع شبابه ( 1967) عام النكسة مجموعة قصصية ، ونشر بعد ذلك عددا كبيرا من الكتب والمترجمات التي تجمع بين الفن والدراسة الملتزمة . وأصدر أخيرا مجموعة قصصية نادرة باسم قطعة ليل عن دار ميريت عام 2004 ، ولهذه المجموعة نضوج خاص وتميز في شكل الكتابة ومضمونها ، والخميسي أيضا صاحب باب مميز في جريدة أخبار الأدب . وأنا لا أقدم أحمد الخميسي ، فالحياة الثقافية والأدبية تعرفه جيدا ، ولكنني أحاول أن أربط هذا الاسم وهذا الطريق بالكتاب الصغير والمهم الذي بين أيدينا . وأنا وإن كنت لا أرحب كثيرا بالكتب التي تجمع المقالات الصحفية إلا أن هذا الكتاب يبدأ وكأنه مشروع قصص حارقة في موضوع ساخن ، ثم يسير في تتابع يشمل 17 قطعة متصاعدة تجمع شتات ظاهرة الفتنة الطائفية أو الوحدة الوطنية أو الأحداث المؤسفة أو الواقع الاجتماعي والثقافي المختل باسم التدين الجديد الذي يحجب الوحدة والإبداع والسلام الاجتماعي والتقدم . كل هذا الموضوع الواسع المتشعب يقدمه أحمد الخميسي في شجاعة واختصار واقتصاد في رسمه وطرح جوانبه وتسجيل وقائعه والإشارة إلي الأعمال الأدبية التي تناولته .
لقد بلغ الضيق بالأحداث والقتل والعنف المحيط بنا وبلغ العجز عن الفعل والمقاومة بل وحتى التفكير مداه ، إلي أن قرر الكاتب الحساس والمسئول عن متابعة الأحداث عندما يفتح التلفزيون فلا يجد في الأخبار إلا أطفالا قتلى أو مصابين وملفوفين في شاش أبيض أن يسارع إلي إغلاق التلفزيون ، لكن أطفال التلفزيون يهربون من الشاشة لكي يختفوا في حجراته وصالة بيته . بهذه الطريقة يعبر أحمد الخميسي في " بط أبيض صغير " عن مشاعره وقضاياه ، ولا وقت للحديث عن الشكل ، لكن براعة الخلط بين القصة والمقال تظل لافتة للنظر .
يقول الخميسي في مقدمة كتابه :
" لا أزعم أن تلك المقالات التي كتبت على مدى عشر سنوات مساهمة نظرية أو فلسفية في موضوع العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها وهو موضوع كتب فيه الكثير، لكن كل ما أردته أن أدفع مع الآخرين الباب المغلق ولو دفعة صغيرة عله ينفتح في الضمائر والنفوس " . ولباب المغلق هو قصة " هدى " ابنة بواب العمارة الذي مات وتركها وحيدة في هذه الدنيا . وفي الدور الأول من العمارة يسكن الأستاذ موريس وزوجته السيدة جانيت ، لا بنت ولا ولد لهم ، وحيدان في الدنيا ، وقد دخلت هدى إلي شقتهما وحياتهما وأحبتها المدام وقدمت لها الرعاية وارتاح الأستاذ موريس لوجود هذا النفس الطيب في البيت . لكن الشارع والدنيا في الخارج قررت أن هدى مسلمة ، وأن مدام جانيت والأستاذ ليسا كذلك ، فظل الشارع بمن فيه البقال والصيدلي والمعارف ينكشون بهذا الغباء في تلك الصورة الإنسانية التي تكاد تصنع مستقبلا لفتاة ضائعة وتؤنس وحدة شيخوخة وحيدة . خاف الأستاذ موريس من كلام أو غباء الناس، وهكذا كما يقول أحمد الخميسي في الباب المغلق :
" في اليوم الثاني والثالث والرابع كرر موريس ما قاله ، وهو يوضح ل " هدى " أنه يحبها مثل ابنته بالضبط ، لكن البنت لم تعد تعير كلماته أي اهتمام ، تسمع ما يقوله وتنصرف إلي الصالة تراجع ما علمته إياها مدام جانيت من حروف الكتابة مرة أخرى، وأخيرا أخذ يجذبها من ذراعها بقوة ووضعها خارج باب الشقة . البنت ملتصقة بالباب المغلق تخمشه كالقطة وتبكي : أنا زعلتك في حاجة ياعم موريس ؟ والنبي دخلني .. دخلني والنبي . وفرت دموع عم موريس وراء الباب المغلق وهو يقول : ما أقدرش يابنتي ، والعدرا ما أقدر ، والنبي والعدرا ، والنبي والعدار ، والنبي ، والباب مغلق .. وخلف كل ناحية شخص وحيد في أمس الحاجة للآخر.
أما " سعاد التي في خاطري" فهي صاحبة العيون الخضر التي صورتها إلي عقل الكاتب من الطفولة البعيدة ، من بيوت شارع السروجي الضيق التي كانت قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة ، وسكان كل بيت معروفون ، هذا بيت نوال وأحمد ، وذاك بيت شريفة ثابت بنت المحامي ، ويقول الخميسي : " ولا أدري من من الأولاد أشار ذات مرة إلي بيت سعاد ونصحي وسمير في غيابهم قائلا : بيت المسيحيين ! . حيرتني الكلمة وجعلتني أشعر بأن ثمة شيئا مجهولا يميز أولئك الناس عنا أو يميزنا عنهم . سألت جدتي عن معنى الكلمة فاكتفت بهزة رأس وهي ترتق سروالا قديما وقالت : نحن مسلمون وهم مسيحيون وخلاص ! .
بعد أحداث الإسكندرية الطائفية قال بيان وزارة الداخلية إن محمود صلاح الدين الذي هاجم الكنيسة يعاني من اضطراب نفسي وبعبارة أخرى فإنه مختل . يقول الخميسي : " وهذا تفسير أسهل بكثير من القول بأن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي هو المختل " !
*علاء الديب – الناقد والروائي المصري المعروف.