هيمنة المعنى على دراسة اللغة

عبد السلام حامد

اللغة شبيهة بطبقات شديدة التداخل والتلاحم بعضها فوق بعض، لا تبدو في الغالب إلا في شكلها المجمل، هذه الطبقات يدركها اللغويون ويسمونها: مستويات، ويدرسون اللغة من خلالها. وفي كل مستوى من هذه المستويات يوجد جزء من المعنى يمثل الدور الذي يقوم به هذا المستوى. والمشهور في تحليل هذه المستويات أنها أربعة كما يأتي:

1-مستوى الأصوات، وهي تدرس من ناحيتين، الأولى: ناحية النطق وما يرتبط بذلك من سمات صوتية، ويعبر عن ذلك بمصطلح الفوناتك (Phoneticsوالثانية: ناحية قيم الأصوات ووظائفها، ويعبر عن هذا بمصطلح الفونولوجيا (Phonology)، ومن هنا يوجد في هذا المستوى الدلالة الصوتية كدلالة النبر والتنغيم.

2-مستوى الصرف أو بناء الكلمة (Morphology)، ويوجد فيه المعنى الصرفي للصيغ والسوابق والأحشاء واللواحق.

3-مستوى النحو أو بناء الجملة (Syntax)، ويوجد فيه المعنى النحوي.

4-مستوى الدلالة (Semantics) ([1]). وتجتمع في هذا المستوى وظائف المستويات السابقة ودلالاتها، مضافاً إليها الدلالة المعجمية ودلالة المقام بصوره المختلفة ليتكون من مجموع هذا كله ما يعرف بالمعنى الدلالي الذي هو حصيلة كل ما سبق.

وبناء على ذلك يتبين لنا أن الدلالة جانب من جوانب اللغة، يدرس كما يدرس غيره من الجوانب لأنه جزء من اللغة، ولكن يحظى باهتمام كبير لأنه غاية المستويات السابقة عليه وقمتها، ولأنه أصعبها وأشقها على الدارسين في الوقت نفسه. والملحوظة التي أود أن أشير إليها هنا أن هذه المستويات أو النظم تعمل متآزرة ولا تعمل بصورة منفصلة؛ لأنها شديدة التداخل وتصب كلها في نظام واحد متناسق متكامل هو النظام اللغوي " وهو النظام الذي يصل بين هذه النظم جميعاً رغم استقلالها الظاهري، ونحن إذا كنا سنقف أمام كل نظام من هذه النظم على حدة، فليس معنى ذلك أن أي نظام منها منفصل عن الآخر، وإنما كان هذا الفصل بغرض الدراسة فقط "([2]). ويترتب على ذلك ضرورة اعتماد كل مستوى أو نظام على الآخر " وحتمية الالتجاء إلى نتائجه وخلاصة بحوثه للاستفادة منها في معالجة مسائله وتوضيحها "([3])، ومن هنا يكون المعنى واحداً من هذه المستويات التي ينبغي وصل دراستها بدراسة غيرها؛ فإذا كان التحليل الصوتي ضرورياً ومهما في كثير من مسائل الصرف والنحو ـ كقضايا الإعلال والإبدال وتصنيف الجمل بين المعاني المختلفة ([4])ـ فإن التحليل النحوي لا يمكن أن يستغني عن التحليل الدلالي ومعطياته مثلما أن مستوى الدلالة لا يمكن أن ينأى عن الاستعانة بنظام النحو، يؤكد ذلك قول ليونز: " أصبح من الصعب بل من المستحيل الفصل بين العملية النحوية والدلالية"([5])، وكذلك قول كريستال: إن الكلام عن التحليل اللغوي من غير الإشارة إلى المعنى، كوصف طريقة صنع السفن من غير إشارة إلى البحر([6])، كما يدعم ذلك من جهة عطاء النحو للدلالة قول بامر  أيضاً: " وينتج عن هذا أن علماء الدلالة لن يكونوا ـ وحقيقة لن يستطيعوا أبداً أن يكونوا ـ معنيين بمعنى المنطوقات، وإنما فقط بمعنى الجمل، وينتج عنه أيضاً أننا لا نستطيع أن ندرس علم الدلالة دون اقتراض الكثير من علم النحو ومن جوانب أخرى من بنية اللغة "([7]).

وقد كان علم الدلالة هذا من أوضح مظاهر الاهتمام بدراسة مستوى المعنى في اللغة؛ لأنه فرع من علم اللغة نشأ لدراسته والاعتناء به وهو " يدرس العلاقة بين الرمز اللغوي ومعناه، ويدرس تطور معاني الكلمات تاريخياً وتنوع المعاني والمجاز اللغوي والعلاقات بين كلمات اللغة "([8]). كما يهتم أيضاً بالمعنى على مستوى الألفاظ المفردة وعلى مستوى الجمل والعبارات. ومما يدل على عظم موضوع المعنى في هذا الصدد أن علم الدلالة نفسه أصبح بمثابة العلم الرئيس الذي تتعدد فروعه ومناحيه؛ لذا نجد أنه يشمل أقساماً كثيرة أهمها: علم الدلالة التعاملي، وعلم الدلالة التوليدي، وعلم الدلالة التاريخي، وعلم الدلالة البنوي، وعلم الدلالة العالمي([9]).

ومن أمثلة أهم المسائل والقضايا التي يتناولها علم الدلالة بالدرس:

1-محاولة وضع تصور صحيح للوحدة اللغوية يوضح مفهومها ويحدد معالمها،ومن أهم الآراء في ذلك الرأي القائل بوجود مستويات مختلفة لهذه الوحدة وأنها تنقسم إلى أربعة أقسام: كلمة مفردة وهي أهم الوحدات الدلالية، وأكبر من كلمة (تركيب)، وأصغر من كلمة (مورفيم متصل)، وأصغر من مورفيم ( صوت مفرد).

2-بحث مسائل العلاقة الوثيقة بين علم الدلالة والنحو.

3-أنواع المعنى.

4-السياق اللغوي وغير اللغوي.

5-قضايا المعجم ومشكلاته كالترادف والمشترك اللفظي والتضاد.

6-مناهج دراسة المعنى ونظرياته([10]).

تلك كانت نبذة عن هيمنة المعنى على دراسة مستويات اللغة بصفة عامة، وفي الأسبوع المقبل سوف نركز على تحديد دور المعنى في نظرية النحو  بصفة خاصة إن شاء الله

              

·span>  أسأستاذ مشارك بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة قطر، وأستاذ مساعد بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة

([1]span>) ) انظر: د. محمود فهمي حجازي، مدخل إلى علم اللغة(1998) 17، ود. عبده الراجحي:فقه اللغة في الكتب العربية (1996) 20 ، 21، ود. فوزي الشايب: محاضرات في اللسانيات (1999) 38. وانظر في الاختلاف في عدد هذه المستويات: د. ميشال زكريا، الألسنية المبادئ والأعلام (1983) 208، ود. كمال بشر، دراسات في علم اللغة العام ـ القسم الثاني (1969) 10-13، وريمون ودنيز طحان، فنون التقعيد وعلوم الألسنية (ط1) 133.

([2]) د. حلمي خليل: مقدمة لدراسة اللغة (1996) 195.

([3]) د. كمال بشر: دراسات في علم اللغة 23.

([4]) انظر: السابق 23 وما بعدها.

([5]) جون ليونز: نظرية تشومسكي اللغوية، ترجمة حلمي خليل (1985) 225.

([6]) نقلاً عن د. لطيفة النجار: منزلة المعنى في النحو العربي ( رسالة دكتوراه بالجامعة الأردنية ـ 1995) ص35.

([7]) بامر: علم الدلالة إطار جديد، ترجمة د. صبري السيد (1999) 20.

([8]) د. محمد الخولي: معجم علم اللغة النظري (1991) 251.

([9]) انظر: رمزي البعلبكي، معجم المصطلحات اللغوية (1990) 445.

([10]) انظر: د. أحمد مختار عمر، علم الدلالة ( مواضع متفرقة)، وبامر ( مواضع متفرقة )، ود. محمود السعران، علم اللغة مقدمة للقارئ العربي (1997) 228 وما بعدها، وانظر أيضاً:

 Geoffrey leech, semantics , the study of meaning (second edition ) pp.9-23span>

John lyons, semantics, pp.2/373-511.