النص الموازي في رواية البكاء على الأطلال

النص الموازي في رواية " البكاء على الأطلال "

دراسة في العنوان الرئيس والعناوين الفرعية

وصلة هذه كلها بالجسد الروائي

د. عادل الأسطة

جامعة النجاح الوطنية/فلسطين

في تقديمه لكتاب غالب هلسـاً " أدباء علموني … أدباء عرفتهم " يكتب ناهض حتر: " إن شخصية غالب هلسا الفذة ومواهبَه العديدة … لا تظهر في مكان واحد، كما تظهر هنا، وهو ما يجعل قراءةَ هذا الكتاب مدخلاً ضرورياً للاقتراب من هذا العملاق العربي … " (1) ويضيف: " كذلك فإن في الكتاب منجماً للأفكار الأدبية الجديدة الحرة التي لا بد أن تثير في عقول الأدباء الشباب حشداً من الأمثلة الكبرى وشهية البحث عن أدب جديد "(2).

        ومن يقرأ الفصل الأول من الكتاب، وعنوانه " الزير سالم " يأخذ بصحة ما ذهب إليه حتر حين يقرأ رواية " البكاء على الأطلال "، وأرى أن الفصل الأول أفضل مدخل لقراءة الرواية. يقول هلسا: " كان سكان قريتنا ينقسمون إلى قبيلتين كبيرتين: قبيلة إسلامية وأخرى مسيحية. قبيلة العوازم الإسلامية كانت تنقسم إلى قبائل أصغر حجماً. وفي الفترة التي كنت أقرأ فيها سيرة الزير سالم كان هنالك خلاف ومعارك محدودة – بالحجارة والعصي – بين قبيلتين من قبائل العوازم. ورغم أن المعارك كانت تتم بين راجلين لا فرسان، ولم تستخدم فيها السيوف، ولم يقع فيها قتلى، ولكنني رأيت فيها صورةً لحرب البسوس "(3). ويضيف:

        " قبل أن أقرأ الحكاية كنت أصدر حكماً على الناس من خلال حضورهم الآني. أما بعد ذلك فكنت أراهم عبر تاريخهم … ينتج عن ذلك أن الناس – لي – دمجوا في تاريخ القرية وفي الأساطير القديمة "(4).

ويذهب إلى ما هو أكثر من ذلك فيكتب:

" سيرة الزير سالم أصبحت عندي بؤرة النقاط لمجموعة من الشخصيات الأدبية ومفتاحاً لفهمها، كما كانت دليلاً في الأدب اليوناني. إن تلك الرغبة في الانتقام التي تعيش مع الشاب – الزير سالم – حتى موته، ومع الطفل يكبر ويقوى ساعده، وينتقم لأبيه كليب، رأيتها في مقتل ( أغا ممنون ) وانتقام ( أورست ) و ( ميديا ). الأغلب أن هذه الأساطير اليونانية نشأت في ظرف اجتماعي شبيه بالظرف الذي دارت فيه حرب البسوس "(5).

        إن ما يراه غالب هلسا هو ما كان يقوم به سارده وبطله خالد في " البكاء على الأطلال "، وهو ما قامت به أيضاً عزة حين رأت نفسها في المرأة المصرية الفرعونية منذ سبعة آلاف عام.

 ******

         لا أدري إن كان ثمة دراسة أنجزت، من قبل، تناول صاحبها فيها العنوان في روايات غالب هلسا بعامة أو في روايته " البكاء على الأطلال " بخاصة. والدراسات والمقالات التي قرأتها عن الروائي وأدبه(6)، وهي غيض من فيض، وسأشير إليها في نهاية الدراسة، حثتني على الكتابة تحت العنوان المدرج، علني أقدم قراءة جديدة لعمل من أعمال الروائي. وكنت أرغب في أن أكتب عن عنوان رواية الخماسين أيضاً(7)، ولكنني عزفت عن ذلك، لأنني رأيت أن رواية " البكاء على الأطلال " تكفي لأن أقدم دراسة مستقلة عنها. وحين قرأت كتاب الدكتور بسام قطوس " سيمياء  العنوان "(8) لاحظت أنه أشار إلى الرواية، ولكنه لم يخصص لها جزءاً خاصاً ليدرس عنوانها بالتفصيل، ولاحظت أيضاً أنه لم يُحِلْ القارئ إلى دراسات أخرى تناولت العنوان في هذه الرواية. يكتب د. بسام عن الرواية ما يلي:

        " وينجدل الزمان بالمكان في كثير من عنونة الرواية العربية كما عند غالب هلسا في " البكاء على الأطلال " أو عند جمال ناجي في " الطريق إلى بلحارث " أو عند حنا مينه في " القطاف "(9).

        وهكذا يلتفت إلى هذه الرواية، دون غيرها، من روايات هلسا، ولكن كما ذكرت، دون أن يخوض فيها بالتفصيل.

        سأقدم في هذه الدراسة قراءة مفصلة للعنوان الرئيس، وسأتناول العناوين الفرعية، وسأحاول أن أربط بين العنوان الرئيس وما يدرج من كتابة سردية تحت العناوين الفرعية، بعد أن أعالج العناوين الفرعية وصلتها بالكتابة السردية التي تليها، علني أتوصل إلى غير ما يبدو عليه ظاهر العناوين الفرعية والعنوان الرئيس وصلة هذه ببعضها، إذ تبدو صلةً مفككة، تبدو أجزاء الرواية وكأن لا رابط بينها، وكأنما الرواية شتات موضوعات جمعتها دفتا كتاب. إن المرء حين يلقى نظرة أولى على عنوان الرواية الرئيس وعناوينها الفرعية سيتساءل عن الصلة بين عناوين مثل " الوقوف على الأطلال " و " جملة اعتراضية " و " الرعب وراء الباب " و " البحث عن جمال الدين الأفغاني ". ولكنه حين يقرأ النص قراءة ثانية وثالثة، حين يسأل نفسه من جديد عن الصلة بين هذه العناوين، قد يجد بينها رابطاً وصلة، وأن الرواية ليست مجرد موضوعات شتيتة جمعها غلاف كتاب.

        لقد قرأت، شـخصياً، هذه الرواية، قبل عشرين عاماً، ولم أكن ألتفت إلى ما ألتفت إليه الآن، وأظن أنني، يومها، تسـاءلت عما يربط بين أجزاء هذه الرواية غير سـاردها الذي يقص عن بطلها خالد الذي أظن أنه هو غالب(10)، خالد الذي لا يذكر اسمه إلا في ص175 - أي قبل نهاية الرواية بصفحات قليلة. وقد توقف قارئون كثر(11) أمام ظاهرة حضور غالب في رواياته وصلة هذه بعضها ببعض، وإن كان توقفهم توقفاً عابراً. وأظن أن إنجاز دراسة حول إشكالية المؤلف والراوي والبطل في روايات غالب هلسا جديرة بأن تنجز إن لم تكن أنجزت فعلاً.

 قراءة بدئية للعنوان الرئيس:

        يقرأ المرء على غلاف الطبعة الأولى للرواية اسم المؤلف والعنوان الرئيس وكلمة " رواية " التي تحدد جنس الكتاب، ويقرأ أيضاً اسم دار النشر(12).

        ولولا كلمة " رواية " التي أدرجها المؤلف أو الناشر، لربما انصرف ذهن القارئ إلى أنه سيقرأ دراسة يتناول صاحبها فيها ظاهرة الوقوف على الأطلال في القصيدة العربية. حقاً إن غالب هلسا روائي بالدرجة الأولى، ولكنه أيضاً ناقد كتب دراسات نقدية عديدة تناول في قسم منها الشعر الجاهلي(13). وإذا كانت كلمة رواية صرفت الذهن عن أن الكتاب ليس دراسة علمية لظاهرة أدبية فإن تصدير الكاتب روايته بمقتطفات من معلقة امريء القيس سيوقعه من جديد في حيرة جديدة. يصدر هلسا روايته بالأبيات التالية من معلقة امريء القيس:

كـأنـي غـداة الـبـيـن يـوم iiتـحـمـلــوا
وإن  شــــــفـائـي عـبـرة iiمُـهـراقـة
كــدأبـك مـن أم الـحـويـرث قـبـلـهــا
إذا  قـامـتـا تـضـوع الـمـسـك iiمـنـهـما
ووادٍ كـجـوف الـعـيـر قـفـر iiقـطـعـتـه
فـقـلـت  لـه لـمـا عـوى أن iiشـــانـنـا
كـلانـا إذا مـا نـال شـــــيـئـاً iiأفـاتـه






 
لـدى ســـــمـرات الـحـي نـاقف iiحنظل
فـهـل عـنـد رســــم دارس مـن iiمـعول
وجارتَهــا أم الرباب بمأســـــــــــل
نـســـــيـم الـصـبـا جاءت بريا iiالقرنفل
بـه  الـذئـب يـعـوي كالخليـــــع المعيّل
قـلـيل الغني إن كنت لما iiتَمَّـــــــــوَل
ومـن  يـحـتـرث حـرثـي وحـرثك iiيهـزل

        وهي الأبيات 4 و 6 و 7 و 8 و 49 و 50 و 51 كما وردت في شرح المعلقات السبع للزوزني(14) وشرحها:

-  كأني عند سمرات الحي يوم رحيلهم ناقف حنظل/ وقفت بعد رحيلهم في حيرة وقفة جاني الحنظلة ينقفها بظفره يستخرج منها حبها.

-  ولا طائل في البكاء في هذا الموضع، لأنه لا يرد حبيباً ولا يجدي على صاحبه بخير، أو لا أحد يعول عليه بخير.

-  عادتك في حب هذه كعادتك من تينك – أي قلة حظك من وصال هذه ومعاناتك الوجد بها كقلة حظك من وصالهما ومعاناتك الوجد بهما.

-  إذا قامت أم الحويرث وأم الرباب فاحت ريح المسك منهما كنسيم الصبا إذا جاءت بعرف القرنفل ونشره.

-  ورب واد يشـبه وادي الحمار فـي الخلاء، من النبات والإنس أو يشـبه بطن الحمار … طويته سيراً وقطعته، وكان الذئب يعوي فيه من فرط الجوع كالمقامر الذي كثر عياله ويطالبه عياله بالنفقة وهو يصيح بهم ويخاصمهم إذ لا يجد ما يرضيهم به.

-  إن شأننا أننا نطلب الغنى طويلاً ثم لا نظفر به إن كنت قليل المال كما كنت قليل المال.

-  كل واحد منا إذا ظفر بشيء فَوّته على نفسه، أي إذا ملك شيئاً أنفقه وبذره، ثم قال: ومن سعى سعيي وسعيك افتقر وعاش مهزول العيش.

        ويتساءل المرء، ابتداء،: لماذا صدر هلسا روايته بهذه الأبيات دون غيرها؟ وهل تعد معادلاً فنياً لخالد بطل الرواية وعلاقته بالنسوة اللاتي تعددن، وكان له – أي لخالد – علاقات مع بعضهن. هل خالد هو امرؤ القيس المعاصر؟ وهل رأى هلسا في ما يبدو عليه امرؤ القيس، في هذه الأبيات، صورة لما يبدو عليه خالد في الرواية.

        من الذين رحلوا وتركوا خالداً في حيرة؟ وما جدوى بكائه؟ وهل سيرد بكاؤه الخير له؟ وما حظه مع هذه وتلك؟ وهل حظه مع الأخريات كحظه مع الأولى؟ وكيف ينظر خالد إلى رائحة هذه وتلك؟ ثم من هو الذئب في الرواية؟ هل السارد هو امرؤ القيس وخالد هو الذئب؟ وإذا كان السارد وخالد في الرواية شخصاً واحداً، فهل يُعَدُّ امرؤ القيس والذئب شخصاً واحداً؟ وهل جرد امرؤ القيس من شخصه ذئباً يخاطبه؟ وما الذي يطلبه خالد ولا يظفر به؟ وما الذي يظفر به ثم سرعان ما يفوته على نفسه ليفتقر ولكي يعيش مهزول العيش؟ هل هو علاقته بالمرأة التي يتعرف إليها ثم سرعان ما يفترقان، كما افترقت عزة عنه ثلاث سنوات لتعود وتلتقي به وليفترقا من جديد؟

        إن بكاء امرئ القيس على الأطلال يوازيه، كما سيتضح، بكاء كثيرين في الرواية على ماضيهم. ولعل ما يجدر ذكره هنا هو  سبب البكاء على الأطلال.

          ثمة رأي لابن قتيبة يفصح فيه عن سبب الوقوف على الأطلال وبكائها، وقد التفت إليه  دارسون كثيرون، ومنهم – مما هو متناول بين يدي – د. عبد المالك مرتاض في دراسته " بنية الطلليات في المعلقات ( قراءة أنثروبولوجية سيميائية لطللية امريء القيس )(15) يرد في دراسة مرتاض:

        " وإذا فقد نبّه النقاد القدماء لعلة ابتداء مقصّدي القصائد بذكر الديار، ووصف الدمن، والوقوف على الربوع يبكون لديها، ويشكون تحمّل أهلها عنها، ومزايلة الأحبة إياها فيذكرون الأيام الخوالي، والأزمان المواضي، وما كانوا نعموا به فيها من اللحظات السعيدات، مع الحبيبات الواقفات: إما بالنظرات والرتوات، وإما بتبادل أسقاط الحديث، وإما بنيل أكثر من ذلك منهن … يذكرون كل ذلك فتذرف منهم العيون تذرافا، وتهيم بهم الصبابة، وترتعش في أعماقهم العواطف، وتلتعج في قلوبهم المشاعر، فينهال عليهم الشعر الجميل انهيالاً، كما تنهال من أعينهم الدموع الغزار حتى تبل محاملهم"(16).

        ولسوف يتضح وأنا أعالج العناوين الفرعية وصلتها بما أدرج تحتها إن كان هناك ثمة صلة بين الأبيات التي صدر بها هلسا روايته وأبطال روايته، وستظل عبارات " فيذكرون الأيام الخوالي، والأزمان المواضي، وما كانوا نعموا به فيها من اللحظات السعيدات … " ذات حضور دائم، وسيحضر الفعل تَذَكَّرَ ويتذكر في جسد الرواية حضوراً لافتاً.

        ولئن كان " البكاء على الأطلال "، مقترناً بالأبيات السـبعة من معلقة امريء القيس، يذكر القاريء المطلع على الشـعر الجاهلي بظاهرة الوقوف على الأطلال واقتداء اللاحق بالسـابق بهذه الظاهرة، فإنه أيضاً يذكره بموقف أبي نواس من ظاهرة البكاء على الأطلال. وكان أبو نواس، في كثير من قصائده، يهجو أولئك الذين يقفون على الأطلال ويعتبرهم أشقياء، وكان ينصحهم بالالتفات إلى الحياة المعاصرة بما تحتوي عليه من خمر وخبز ونضارة. وسـيتذكر قاريء الرواية، وهو يقلب صفحاتها، ويقرأ عن خالد وصديقاته، أبا نواس مراراً حتى ليظن المرء أن خالداً نصير لأبي نواس لا لامريء القيس، وحتى ليذهب إلى أن غالب هلسـا وجب أن يصدر روايته بأبيات من أشـعار أبي نواس أيضـاً. ثمة حنين إلى الماضي، ولكن ثمة انغماس في الحاضر. ثمة تذكر لامرأة ما، وثمة إقبال لافت لشـرب ( البراندي )، وما بين هذين يبدو خالد/غالب موزعاً على ماضٍ وحاضر. إنه مثل امريء القيس في حنينه إلـى الماضي، ولكنه أيضاً مثل أبي نواس في الانغماس بملذات الحياة المتاحة له.

جسد النص:

        تتكون الرواية من أربعة أجزاء، يتكون كل جزء من عدة أقسام، ويمكن تبيان ذلك على النحو التالي:

العناوين الفرعية

الصفحات في الرواية

عدد الصفحات

الجزء الأول:

 

 

1-  ايقاع المهباش

8-

13

2-  أغنية العبيط

21

4-

3-  رثاء عائشة بنت طلحة

25

8-

4-  الراسبي يشتري الجنة

 

33

4-

الجزء الثاني:

 

 

1-  الوقوف على الأطلال

38

10

2-  البكاء على الأطلال

48

9-

3-  الشعور بالذنب

57

39

4-  النحيب وصرير الأسنان

96

15

5-  جملة اعتراضية

110

6-

 

 

 

الجزء الثالث:

 

 

1-  البحث عن جمال الدين الأفغاني

118

5-

2-  جملة اعتراضية

123

12

3-  مواصلة البحث عن جمال الدين الأفغاني

135

12

4-  الرعب وراء الباب

147

15

5-  لقاء مع جمال الدين الأفغاني

 

162

14

الجزء الرابع:

 

 

1-  جملة اعتراضية

178

12

2-  عزة تتحدث

190

27

  

قراءة في العناوين الداخلية وصلتها بالعنوان الرئيس:

الجزء الأول:

        يتكون الجزء الأول، كما لاحظنا، من أربعة عناوين. نقرأ تحت العنوان الأول " إيقاع المهباش " لسارد غير محدد الهوية، ويبدو كلي المعرفة، عن شخص لا يحدد اسمه يزور بيت صديق متزوج من سلمى وله طفلة اسمها كوثر، ويبدو الصديق والشخص مثقفين لهما ذوق فني ويهتمان بالسياسة، ويبدو الشخص أكثر ذوقاً من صديقه، يتضح هذا من خلال تدخل الشخص في ترتيب لوحات الفن التشكيلي في البيت. ويلاعب الشخص الطفلة كوثر، يدق لها على الطاولة فتتمايل، فيما لا يعجب هذا الأب،  وتبول الطفلة على نفسها فتبلل الشخص الزائر.

        يسترجع الشخص الزائر، وهو في البيت، طفولته في قريته وما حدث معه ذات مرة. ولكنه قبل هذا يحن إلى ماض بعيد، ماضيه، وتتكرر كلمة الذكرى في الصفحتين الأولى والثانية من هذا المقطع مراراً:

        " تصحو الذكرى " و " توغل في الذكرى " و " انكشف الغطاء عن بئر الذكريات " و " إنه الآن يمتح الذكرى متقصداً " و " تسارع الإيقاع، محاوراً، مبتعثاً صور الماضي البعيد " و " أصبحت الذكرى مجرد مساحات من الأرض البيضاء المشمسة *. ( ص 8 و ص 9 )

        يذكره هذا الجو الأسري بأسرته، ويذكره مشهد الأم وهي تغير ملابس طفلتها، بعد أن بالت على نفسها، بما حدث معه في الطفولة:

        " طعنـة حادة كوميض البـرق اندفعـت مـن الماضي واخترقت اللحظة، ثم اختفت، اختلـج بهـا قلبه فأوجعته، وجـه أمه أطل من زاوية الحجرة الخارجية وأخذت تعبر الحوش … "( ص 10).

        " وتذكر فجأة وهو يعبر بين جمع النساء ليصل إلى أمه ويأخذ منها المفتاح، وتمد المرأة الشابة يدها وتجذب بنطلون البيجاما إلى أسفل، معرية إياه أمام جمعهن ……. قالت الشابة: انظرن، ها هو قد أصبح رجلاً " وصاحت امرأة أخرى متظاهرة بالغضب: " هل أعجبك الوقوف بيننا وأنت هكذا، هيا امضي ".( ص 16)

        كأنه هنا، من خلال الذاكرة، يقف على الأطلال ويتذكر الأحبة، يتذكر أمه ونساء القرية وإيقاع المهباش فيها، وربما جاز لنا أن نذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونقول إنه يرى نفسه امتداداً لامريء القيس، وإذا كان الأخير في معلقته قال:

كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته

ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل

        فإن خالداً الذي كان له أم أفاتها وغدت أحواله في الغربة صعبة وقاسية. وكما يتذكر امرؤ القيس النسوة وعطرهن، يتذكر خالد نسوة القرية وعطرهن أيضاً، بل ويتذكر أيضاً صهيل الخيول الأصيلة وهي تدق الأرض بأقدامها واقفة في الحوش الواسع المسور(ص 8 )، لكان أجواء قرية خالد لا تختلف عن أجواء امريء القيس. وقبل أن ينتهي هذا القسم بأربعة أسطر نقرأ:

        " كانت الطربيزة الخشبية – السوداء على يساره، وعلى الفور، وعيناه على الطفلة أخذ يدق الإيقاع. كانت لوعة الذكرى تعصر قلبه "( ص 20).

        يقود هذا القسـم إلى القسـم الثانـي " أغنية العبيط "، وتكون هذه الأغنية هي الذكرى التي تعصر قلبه- قلب خالد. يتذكر هنا خالد أجواء قريته أيام الأعراس. يتذكر أمه وطفولته والديوان والرجال والأبله عطوة- لعله هو – ترسل إليه أمه حين يختفي ليعود إليها، يخفي رأسه إلى الأمام ويخبط الأرض بقدمه اليمنى …. مؤقتاً حركة جسده مع دقات المهباش، وهو يقول:" جرن عمي أبو رحل يقول: بياع البيارق طل، بياق البيارق طل، بياع البيارق طل " ( ص 24 ).

هذه هي أغنية العبيط.

هنا يمكن أن نلاحظ صلة هذا القسم بالذي سبقه. كان وهو في البيت يدق على الطرابيزة، وكانت الطفلة كوثر ترقص. ويوم كان في القرية سمع إيقاع المهباش وكان الطفل / الأبله / العبيط يرقص. لكان القسم الثاني هو أطلال خالد التي يبكي عليها يوم غدا كبيراً. ثمة حركة تذكر بحركة، وثمة رقص يذكر برقص، وثمة طفلة تذكر بطفل، بل وثمة ضحك يذكر بضحك، فمقابل ضحك سلمى أم الطفلة نقرأ عن ضحك المرأة الجميلة ثرية( ص 24 ).

يدرج القسـم الثالث من الجزء الأول تحت عنوان " رثاء عائشة بنت طلحة "، وأول ما يثيره الدارس مـن تسـاؤلات هو ما صلة عائشـة بنت طلحة بما يقصه خالد الذي يقيم في القاهرة، في فترة تبدو غيـر محددة زمنياً بالضبط ولا نعرف الزمن الروائي إلا من خلال ورود أسـماء مثل ( نيكســون ) الرئيس الأمريكي. هنا نصغي إلى صوت خالد نفسه، ولا نقرأ كلام الراوي عنه، وهذا تحول في السرد يتكرر في القسم الثاني من الجزء الرابع " عزة تتحدث ".

يفتتح هذا القسم بالأسطر التالية:

        نمت، وأنا مفعم بعائشة بنت طلحة، قرأت عنها في كتاب الأغاني، وفكرت وحلمت بها كثيراً قبل أن أنام …….. ".

       و" في الليل نبهني رعب أصم لا مصدر له. صحوت، وعلى التو تذكرت أن عائشة لم يعد لها وجود. لقد تحول ذلك الجسد الباذخ المتوقد بالحيوية والرغبة والحب إلى تراب وعظام نخرة هشة … " ( ص 25).

        لكأن ثمة علاقة بينه وبين عائشة انتهت بالفقدان، وهذا ما جعله يرثيها ويقف على أطلالها. هنا يمكن أن نلحظ الصلة بين ما يرد تحت عنوان هذا القسم وعنوان الرواية, ولكننا أيضاً يمكن أن نلحظ ما هو أكثر من ذلك. يورد أنا المتكلم / خالد قصة عائشة بنت طلحة وغيرها مع الرجال في زمنها، ويأتي على جمال هذه وفحولة زوجها في الفراش، ويذكر قصة ضرتها رملة بنت عبد الله بن خلف، وتتشهى الأخيرة جسد عائشة، ومع أنها دفعت ألفي درهم لجارية عائشة حتى مكنتها الجارية من رؤية جسد عائشة، إلا أنها تمنت لو أنها دفعت أربعة آلاف درهم ولم تره – أي جسد عائشة – فقد ذكرها جسد عائشة بما هي عليه من شيخوخة حتى قالت: " ماذا أبقت الأيام مني؛ وأخذت تقاوم عامل الفناء بكل وسيلة، ولكنها وهي ترى جسد عائشة الفاره، وتلك الأنوثة العارمة الممنوحة لزوجها أدركت أنه لم يبق لها أمل. وينتهي هذا المقطع بالسطرين: " لقد أصبحت مع الموت في مواجهة مباشرة، فأطلقت صرختها البائسة: لوددت أني لم أرها " ( ص 32 ).

        إن هذه الصرخة هي من باب الوقوف على الأطلال وبكاء الأحبة / بكاء الجسد.

        وربما يتساءل الناقد وهو يقرأ هذا القسم والقسم الذي يليه إن كان غالب هلسا ملماً، وهو يكتب نصه، بخصائص النص المكتوب،  وهو، كما ورد تعريفه في " دليل الناقد الأدبي(17) " نص مفتوح  ما بعد حداثي، كتب حتى يستطيع القاريء في كل قراءة أن يكتبه وينتجه. وهو يقتضي تأويلاً مستمراً ومتغيراً عند كل قراءة … ومن سماته أنه يتألف من مقتطفات ومرجعيات وإحالات وصدى أصوات مختلفة ومن لغات ثقافية متباينة … ".

        ويبدو القسم الرابع قابلاً لتأويلات عديدة، ويبدو وكأنه لا صلة له بالرواية إلا من خلال تذكر الراوي قصة الراسبي التي تبدو مثالاً يتطلع إليه المثقف المعاصر(18). تختلط في هذا القسم الأزمنة، زمن الراسبي، وزمن الراوي/المروي عنه إذا ذهبنا إلى أنهما شخص واحد.

        أبو الوازع الراسبي مفكر من مفكري الخوارج يدرك أن لا بد من حمل السلاح لتحقيق العدل ويسخر منه الصيقل الذي يحارب مع الخوارج لكي يعيش على الرغم من عدم قناعته بما يقدمون عليه، ويقتل الراسبي الصيقل الذي لا يظن أن المفكر يمكن أن يقتل. ويسلك نافع بن الأزرق الذي كان ينظّر ولا يفعل، يسلك سلوك الراسبي فيحارب ويموت. إن القصة يلخصها العنوان " الراسبي يشتري الجنة "، ولكن السؤال الذي يلح على القاريء هو: ما صلة هذا القسم بعنوان الرواية؟ هل يدعو الراوي أو البطل إلى ضرورة أن يسلك المثقف المعاصر مسلك الراسبي ونافع بن الأزرق، وألا يظل موضع سخرية من المقاتلين الذين يرون أن المثقف حين يحمل سلاحاً يبدو منظره مضحكاً؟ إذ ما الذي سيفعله بهذا السلاح؟ هل كان غالب هلسا يرى في الواقع شخوصاً على شاكلة الراسبي ونافع؟ هل كان هذان قناعين ليس اكثر؟ إن الدليل على هذا يبدو واضحاً في العبارات التي ترد على لسان السارد،  حيث يسقط هذا كلمات معاصرة على سلوك الراسبي وابن الأزرق، وهو ما يبدو، على سبيل المثال، في قول السارد:

        " كيـف يعالـج المثقف ذلك الخلاف القديـم بين النظر والعمل، بين الكلمة والفعل " ( ص 34 ) و " وأدرك – نافع بن الأزرق الأكذوبة التي تتخفى وراءها " خدعة اللحظة المناسبة " فاستبدل بلسانه صارماً وقامت حرب الطبقات " ( ص 36 ). إن  عبارة حرب الطبقات عبارة معاصرة، ولا أظن أن المؤرخين  القدامى استخدموها، ولا أظن أن نافع بن الأزرق والراسبي كانا يمهدان لحرب طبقات، ولربما يمكن  التساؤل: هل وقفة هلسا أمام قصة الراسبي ونافع بن الأزرق هي ضرب من الوقوف على أطلال الماضي، على فكر الماضي؟ وسنلحظ أن الراوي يعود في صفحة 140 من الرواية ليذكر الراسبي.

 الجزء الثاني

          يفتتح الجزء الثاني بعنوان فرعي هو الوقوف على الأطلال، ويبدو ذا صلة واضحة بالعنوان الرئيس للرواية. إن الوقوف على الأطلال قد يؤدي إلى البكاء، وهو ما سنلحظه في القسم الثاني حيث العنوان هو البكاء على الأطلال الذي هو عنوان الرواية الرئيس، كما أشرت غير مرة.

        ويثير المرء وهو يقرأ العنوان أسئلة عديدة أولها: من هو الذي يقف على الأطلال هنا؟ وبخاصة أن القسمين الثاني والثالث من الجزء الأول، كما لاحظنا، يدوران حول شخصيات تاريخية منتزعة من الماضي البعيد حيث كانت عادة الوقوف على الأطلال في الشعر ما زالت قائمة. هل الذي يقف على الأطلال هنا هو شاعر جاهلي أم شاعر إسلامي أم شاعر أموي، أم أنه شاعر عباسي يقف على الأطلال ليسخر من الذين وقفوا عليها؟ ومن الأسئلة التي يمكن أن تثار أيضاً السؤال التالي: هل سأقرأ رأياً عن ظاهرة الوقوف على الأطلال، كما قرأت قبل قليل عن عائشة بنت طلحة والراسبي؟

        يجيب جسد النص عن الأسئلة، ويزيل اللبس الذي قد يتشكل من القراءة الأولى، وحين يشرع المرء في القراءة يقرأ لسارد يروي عن آخر يقيم في مصر، ويتذكر هذا الأخير، وهو خالد طبعاً، ما حدث له في طفولته مع الراعية البدوية. إنه في مصر يقف على أطلاله الخاصة. ويتكرر الفعل يتذكر هنا، كما في الرواية، مراراً:

        " يسـتعيد ما حـدث مع الفتاة البدوية، يصوغه من جديد محولاً إياه إلى حلم يقظة ". ( ص 46 ).

        يتجدد حلم اليقظة وقد أخذ مساراً ثابتاً. إن زمن اللقاء الذي لم يتم مع الفتاة البدوية سيظل دائماً يجد منفذاً إلى أحلام اليقظة " ( ص 46 ).

وقبل هذه:

        " يتذكر الآن بدهشة أن وجهها كان غامضاً، رغم أنها كانت تنفجر بين آن وآخر بالضحك، ثم ألقت بالعصا بعيداً وأحاطت جسده بذراعين قويين، وأخذت تضغط ثم قبلته … " ( ص 45 ).

        وليس اسـترجاع الطفولة مقتصراً على علاقته بالفتاة البدوية، إنه، في وحدته الحالية، يسـترجع أجواء القرية، ويسـاعده على هذا شـرب الروم وتناول القهـوة التي تذكره بالقهوة في قريته:

        " الروم يفتح مسارب مغلقة في صدره وطعم القهوة عتيق أليف. انفعاله تحول إلى إيقاع … كان ذلك الإيقاع القديم. تعود إليه الدار ومجلس الرجال ( حكايات الفرسان والحب والأشعار ولحن الربابة وأصوات النساء ثرية منغومة ( حكايات الرعب: الأشباح والأرواح الشريرة ونذر الموت ). ( ص 44 ).

        وهنا، وهو يغلي القهوة في منزله، يتذكر، وهو يرى فقاقيع الماء، أبا نواس وأشعاره. ونعرف جيداً أن أبا نواس شـاعر اقترن اسـمه بشـرب الخمر والسـخرية من الذين يقفون على الأطلال.

        يقود عنوان " الوقوف على الأطلال " إلى العنوان الرئيس " البكاء على الأطلال ". ويوضح هذا العنوان ما لم يفصح عنه العنوان الأول بجلاء. إن الوقوف على الأطلال لا يبعث السـعادة لدى الواقف عليها، وإنما يسـبب له البكاء. وفي نهاية : البكاء على الأطلال " يقول خالد: " لم يعد هذا العالم عالمي ". ثمة فقدان وثمة خسـارة والسـؤال هو: لماذا لم يعد هذا العالم عالمه؟

        نقرأ تحت هذا العنوان عن خالد وعلاقته بعزة ونادية. وكان عرف الثانية قبل أن يعرف الأولى، وكلتاهما مثقفتان. وكلتاهما يمارس الحب معهما، ولكن ثمة فرق بينهما، فعزة تمنحه الجسد ولا تمنحه المودة والحنان، وكانت نادية تمنحه هذين، ويحاول باستمرار أن يشرح لعزة أن الحب ليس الجنس فقط إنه أيضاً المودة والحنان. وعالم عزة هذا يذكره دائماً بنادية التي كان عرفها في الخمسينات.

        وتبدو نادية أكثر جرأة من عزة. حين يسير مع عزة طالبة الأدب الإنجليزي ويقترب المساء تتركه ولا تدعوه إلى منزلها، أما نادية فكانت أكثر جرأة، وكانت تدعوه إلى بيتها، وهذه كانت أكثر صمتاً، في حين أن عزة تبدو ثرثارة.

        ويتذكر خالد هنا معارك قناة السويس عام 1956: " يحاول أن يستعيد إحساسه بالواقع ولكنه ينفلت منه، يتسرب الميدان وحشد الطلبة إلى ذلك المعسكر البعيد في منطقة القنال. " هل يعود للحياة بعد ذلك الموات الطويل ؟ " ( ص 51 ). إنه هنا يتذكر، بعد مرور عشر سنوات على الأحداث، عالم النشاط والفعل والمقاومة، وهو عالم يغاير عالمه اليوم حيث يبدو عالم اليوم عالم موات طويل.

        وسنجد  الفعل " يتذكر " أو " يفكر في " يتكرر هنا مراراً. إن الذكرى حاضرة حضوراً لافتاً، ولأن الماضي يبدو في نظره أجمل من الحاضر نجده يبكي ماضيه الذي هو أطلاله.

        هل يختلف تذكر خالد نادية عن تذكر امريء القيس أم الحويرث ؟

        يفتتح القسم الثالث " الشعور بالذنب " بعبارة ويحاول ألا يتذكر ذلك، ولكنه يلح عليه " ( ص 57 ). وما يتذكره يولد لديه الشعور بالذنب. يتذكر ابتداءً رحمة التي عاشت معه في شقته دون زواج، وكانت عرفت رجالاً، من قبل، لكنها ارتاحت إليه ووافقت على أن تكون علاقتهما حرة دون رابط شرعي. وكانت هذه التي علمها قراءة الروايات البوليسية لا تحب أصدقاءه الذين يزورونه في شقته، لأنهم – كما تقول هي – لا يحاولون إشراكها في نقاشاتهم،  في حين، كما يقول السارد، كانوا يحاولون ذلك. وتكون علاقته بها علاقة جنسية، على الرغم من أعماله. وتغضب رحمة منه ذات يوم وتغادر شقته، ويراها بعد فترة، وقد تحولت إلى مومس تقريباً. هنا يشعر بالذنب.

        " كان يحكي قصة رحمة لكثيرين ويصغي لتعليقاتهم بشغف، ساعياً لإزالة شعوره بالذنب نحوها، وإذا بشيء يحدث أحلّ حباً جديداً في قلبه وأزال كل أثر لرحمة " (ص 71).

        وتكون قصة رحمة التي رواها لعزة فاتحة علاقة جديدة مع هذه. تحت هذا العنوان نقرأ أيضاً عن علاقة المروي عنه / خالد بامرأة ثانية أقامت فترة في لبنان مع رجل خدعت به، وتحولت إلى مومس فاضلة – وهذه الفكرة شغلت تفكير غالب هلسا وكتب دراسة عنها نشرها في أحد كتبه -(19)، وتحن هذه المرأة، وهي معه، تحن إلى لبنان. يغدو لبنان فردوساً مفقوداً تتمنى أن تعود إليه. وهي تصنع الشاي في الشقة، على البوتوغاز، تتذكر الشاي وهي تصنعه، في لبنان، على الحطب:

        "  تتذكر ذلك البيت ونار الحطب والعاصفة والثلج. ترغب بجنون أن تعود إلى ذلك المكان، تريد أن تعود إلى ذلك، سـوف تفعل ذلك بقيناً، ليس مع ذلك الآخر، ولكن معه هو " ( ص 75 ).

        وأما المروي عنه الذي تقيم في شقته وحيداً فيتذكر هذه المرأة: " كانت تستطيع أن تحلم كطفلة. يتذكر الآن، وهو يتلوى على السرير بشوق مخبول إليها، يتذكرها جالسة على طرف الكنبة في شقته، وقد تركزت عيناه على ركبتيها العاريتين، يتذكر الخجل والإرباك …" ( ص 74 ).

        ويبدو أن تتبع كل قسم من أقسام الرواية وتبيان صلة السرد الذي يندرج تحته به وصلة هذا بالعنوان الرئيس، يبدو استطراداً، ولكن يمكن الوقوف بإيجاز أمام ثلاثة عناوين فرعية وتبيان صلتها بالنص:

1-  البحث عن جمال الدين الأفغاني.

2-  جملة اعتراضية

3-  عزة تتحدث.

 الجزء الثالث:

        يرد ذكر اسم جمال الدين الأفغاني في العناوين الفرعية ثلاث مرات في الجزء الثالث " البحث عن " و " مواصلة البحث عن " و " لقاء مع … "، وربما يثير المرء هنا السؤال الذي  أثاره وهو يقرأ مقطعي " رثاء عائشة بنت طلحة و " الراسبي يشتري الجنة " وهو: ما صلة جمال الدين الأفغاني بالرواية التي تتحدث عن مثقف معاصر يعيش في قرن غير القرن الذي عاش فيه جمال الدين الأفغاني "(20).

        يطلق اسم جمال الدين الأفغاني على مقهى من مقاهي مدينة القاهرة. ويتساءل القاريء عن السبب الذي يدفع خالداً للبحث عن الأفغاني، علماً بأن هذا ميت إلا في الكتب، وبالتالي فإن البحث عنه حياً يبدو مستحيلاً إلاّ إذا كان هناك شخص آخر اسمه جمال الدين الأفغاني ما زال على قيد الحياة.

        حين يغادر خالد باحثاً عن الأفغاني يكون في بيت صديق يعامل طفلته كوثر معاملة مهينة. فهل بحث عن الأفغاني لأنه شكل ظاهرة متقدمة في مجتمع متخلف؟

        يتصور خالد، وهو في المقهى، الأفغاني يخاطب المصريين ليحرضهـم على واقعهم: " إلى متى تظلون نياماً أيها المصريون! انهضوا من سباتكم الثقيل الكئيب الذي استمر عشرات القرون " ( ص 140 ).

        جمال المفكر يرسـم له المصريون في المقهى الصورة التالية:" الرجل العجوز يتذكر بالطبع سي جمال الدين الأفغاني، طبعاً يتذكره يشـرب في الليلة زجاجة ويسـكي كاملة ويأكل خمسين عصفوراً مشوياً، ثم يتعشى بعد ذلك. قبل أن ينصرف يضع في يده خمسة وعشرين قرشاً، ربع جنيه عندما كانت العشر بيضات بقرش تعريفة. كان – رحمه الله – راجل فنجري " ( ص 139 ).

        وتجلس على المقهى نفسه، مقهى جمال الدين الأفغاني، امرأة يغازلها الآخرون، ويتبادلون معها النكات البذيئة، وترد على عباراتهم بأخرى أبذأ منها. غدا الأفغاني أطلالاً، ماضياً يحن المرء إليه،  وبخاصة المثقف الجاد خالد، غدا الأفغاني أطلالا أمام الواقع البائس. وحين يرى خالد هذا يغيب عن الشارع " يعلو ويعلو ويبتعد " ( ص 146 ).

        يزور خالد المقهى ثانية، ويجلس ويرى " الفوران الفوضوي لعالم معقد أشد التعقيد، فيتولاه حسٌ فاجع بالعبثية وفقدان المعنى. كان له هو إيقاع مختلف، إيقاع بسيط ……… لذا اشتاق إلى ماض من قريته جعلته الذكرى ذهبياً، وإلى ماضي تعرف عليه من كتب التاريخ … اشتاق إلى عالم لأنه أصبح ذكريات قديمة، شاحبة،  مستسلمة .. " ( ص 166 ).

        هكذا يدفعه الحاضر الذي لا ينسجم فيه إلى تذكر عالم الطفولة البسيط، كما يجعله يتذكر ماضياً عرفه من خلال الكتب، هو ماضي جمال الدين الأفغاني الذي قرأ عنه، وهو جالس مع عزة – يتذكر جلسته – يضحك ثم:

        " يكتم ضحكته، فالشيخ جمال الدين هنالك، جالساً خلف باب المقهى الزجاجي، محاطاً بمجموعة من المطربشين المعممين. الجميع صامتون، ساكتون كأنهم تماثيل " ( ص 168 ).

        وتبدو صورة جمال الدين وتلامذته مغايرة كلياً لما يراه خالد الآن. يتكلم جمال ويصمت الآخرون يصغون، أما المكان الآن ففيه فوران فوضوي لعالم معقد. ويحاول خالد أن يجعل عينيه تلتقيان بعيني واحد من جماعة جمال الدين فيفشل، فالوقت لم يحن بعد للانضمام إليهم. إلا أنه حين يهدأ الليل يكون ذلك مناسباً تماماً. ( ص 168 ) وتخاطبه المرأة التي يلتقي بها في المقهى.

        " - نم يا ابني نم. لم تكد تعيش. جف ماء الحياة منك. أنت جيفة تعيش على الذكرى. لم تكد تذوق طعم التجربة الحقيقية " ( ص 171 ).

        هل البكاء على الأطلال، إذن، ظاهرة لها وجهان: إيجابي وسلبي ؟ وهل يذكرنا العنوان بامريء القيس وأبي نواس معاً؟ وقف الأول على الأطلال وذم الثاني هذه العادة. يقف خالد على الأطلال، ويتذكر جمال الدين، وتنعى المرأة حالته لأنه لم يكد يتذوق طعم التجربة الحقيقية. لكأن خالداً امتدادٌ لامريء القيس والمرأة امتداد لأبي نواس. وكما ذكرت فإن البحث عن جمال الدين الأفغاني المفكر في عام 1966 يبدو أمراً مستحيلاً إلا إذا أراد أن يبحث عنه في الكتب، وسيبدو اللقاء معه مستحيلاً إلا من خلال الخيال.

        يتكرر عنوان " جملة اعتراضية " مرة في الجزء الثاني، ومرة في الجزء الثالث، ومرة في الجزء الرابع. وأول ما يتبادر إلى الذهن، حين يقرأ المرء العنوان منفصلاً عن الرواية، هو أن القاريء أمام فصل من فصول النحو. فالجملة الاعتراضية لا محل لها من الإعراب، ونحن عرفناها من خلال كتب النحو. ولكن ذهن القاريء سرعان ما ينصرف عن هذا حين يقرأ ما أدرج تحت العنوان.

        يسرد الراوي هنا ما حدث مع خالد وهو جالس في صالة فندق شبرد. تدخل امرأة تبدو لافته، وينظر إليها خالد ويقيمان معاً علاقة عابرة. يرى المرأة في المرة الأولى جميلة، ولا يراها كذلك في المرة الثانية. يراها في المرة الثانية امرأة عادية. تكون هذه المرأة على علاقة مع رجل، ولا تكون العلاقة  ودية، ولهذا تفكر في إنهائها. ولا يختلف حال خالد. هو أيضاً يقيم علاقة مع امرأة يفكر في إنهائها. ويكون اللقاء بينهما عابراً، فكأنه جملة اعتراضية في حياة كل منهما.

        إن هذا اللقاء لخالد " مثل حبه لعزة، وقبلة الفتاة البدوية، ومشهد الإعدام في سجن عمان المركزي، ومثلما تعيش في داخله شخصيات أبي الوازع الراسبي، ناتاشا ( الحرب والسلام )، سوان ( البحث عن الزمن الضائع ) … " ( ص 113 ).

        كان حبه لعزة عابراً، وكانت قبلته للفتاة البدوية عابرة، وكذلك كان مشهد الإعدام في سجن عمان المركزي مشهداً عابراً … الخ. هذه كلها كانت في حياته مثل الجمل الاعتراضية التي غالباً ما تكون عابرة. ومثل هذه كلها كانت المرأة التي التقى بها في صالة فندق شبرد. ويدرك القاريء أن المقصود  بالعنوان " جملة اعتراضية " ليس مدلولها النحوي. إنه أحداث عابرة مؤثرة (21).

 

الجزء الرابع:

          يوحي عنوان " عزة تتحدث – بانطباع أننا سنقرأ كلام عزة ونصغي إلى صوتها، وهذا ما يكون. لا يعمد واضع العنوان إلى الإيهام، ويكون الكلام هنا لعزة لا للسارد الذي يظل مهيمناً على السرد، باستثناء القسم الثالث من الجزء الأول، حيث يتم السرد عبر الضمير الأول، لا عبر الضمير الثالث كما هو الحال في الرواية كلها. ولكن إذا ذهبنا إلى أن الراوي والمروي عنه هما شخص واحد، عرفنا أن تغير أسلوب السرد لا يتم حقيقة إلاّ في المقطع الأخير " عزة تتحدث ". وإن لاحظ المرء أن تغيراً طفيفاً بدا في المقطع الخامس من الجزء الثاني " جملة اعتراضية "، إذ يوجه السارد الخطاب لمروي له، ونجد أنفسنا هنا أمام مخاطِب ومخاطَب.

        تقص عزة عن علاقتها بأمها وأخيها عادل والحالة المرضية التي ألمت بها. وتخبرنا عن دراستها ورسالة الماجستير التي تعدها عن ( جراهام جرين ). تغادر عزة منزلها إلى الكازينو، وهناك تلتقي بخالد بعد انقطاع ثلاث سنوات. في المنزل يفتح خالد غطاء الحلة فينفتح غطاء الماضي. ويعودان إلى سابق عهدهما. يتطارحان الغرام ثم تغادر إلى منزلها وهناك تذهب مع أخيها عادل إلى بيت صديقته عواطف. تتأمل عزة جسد عواطف، فيتوقف الزمن و " تعيد الشباب والذكريات والماضي كله " ( ص 210 ).

 تقول عزة:

        من المستحيل ألا أتذكر سبعة آلاف عام تصب في هذا الجسد كل جمال الأنثى وتاريخها السري العريق ".( ص 210 ) وتتذكر تمثال الملكة تي، وهي تجلس بجوار زوجها، وقد مالت بردفيها نحوه في  إغواء لعوب … وتعلم أن هذا الجسد الشامخ الفاجر يخفي صلابة ابنة الشعب التي شقت طريقها نحو القمة بمجهود خارق، ويخفي أعظم مبادئ الإنسانية التي لقنتها لابنها أخناتون، ومن بعد ذلك أغوته وجعلته يتزوجها ويهجر  نفرتيتي " وتعقب عزة: " وأصرخ بهما دون صوت " وأنا أيضاً، وأنا أيضاً " ( ص 210 )، وتتحول الصرخة إلى كلمات تملؤها بالاعتداد: " وأنا أيضاً وارثة ذلك التاريخ العريق والأرض " ( ص 210 ).  ويذكرنا هذا بما كتبه هلسا حين رأى في ابن كليب امتداداً لما في الأسطورة الإغريقية.

        ربط خالد ابن البادية بين طفولته وما جرى معه وما جرى مع امريء القيس، وعزة ابنة مصر تربط بين جسدها والملكة التي عاشت منذ سبعة آلاف عام. لكأن ثمة ما هو مشترك بين خالد وعزة، بل بينه وبين شخصيات أخرى في الرواية. كل واحد يحن إلى الماضي ويبكي عليه. وربما يربط قاريء الطبعة الأولى للرواية بين ما تقوله عزة وصورة الغلاف التي تبدو وجه تمثال مصري فرعوني.

 الخلاصة:

        يلحظ قاريء الرواية أن خالداً الشخصية الرئيسة يبكي دائماً ماضيه ويحن إليه، ولا يقتصر هذا عليه فأكثر شخصياته، إلاّ ما ندر، يحن إلى ماض مفقود ويبكي عليه. ولا يقتصر هذا على الشخصيات المعاصرة، فرملة حين ترى جسد عائشة بنت طلحة تتذكر جسدها وهي شابة وثرية. وإذا كان لويس أراغون قال لكل واحد غرناطتُه التي يبكي عليها، فإن قاريء الرواية يخرج بانطباع مماثل للانطباع الذي شكله أراغون، وهو لكل شخصية من شخصيات الرواية أطلالها التي تبكي عليها. ولعل المرء وهو ينتهي من قراءة الرواية يخرج بانطباع مغاير للانطباع الذي يخرج به حين يلقى نظرة أولى عابرة على عناوينها الفرعية. ولئن كانت النظرة الأولى تدفع المرء إلى التساؤل إن كان هناك صلة بين هذه العناوين، فإن القراءة الفاحصة تقول له غير ما تقوله القراءة الأولى، وهكذا فإن الرواية ليست فصولاً لا  رابط بينها. ثمة خيط خفي يكتشفه المرء يربط بين فصول هذه الرواية،  ويكون العنوان " البكاء على الأطلال " هو الملخص للأفكار التي اندرجت تحت العناوين الفرعية.

               

الهوامش

1-  غالب هلسا ، أدباء علموني …أدباء عرفتهم، ( جمع وتحقيق ناهض حتر)، بيروت، 1996.

2-  السابق، ص 8 .

3-  السابق،ص 11 .

4-  السابق، ص 12 .

5-  السابق، ص 14.

6-  انظر مجلة فصول، زمن الرواية، ج2، ربيع 1993، ص 203 وما بعدها. وانظر :

-  د.إبراهيم خليل، الرواية في الأردن في ربع قرن 1968-1993، عمان، 1994.ص134.

-  د.إبراهيم السعافين، تحولات السرد: دراسات في الرواية العربية، عمان،1996.

-  نزيه أبو نضال، علامات على طريق الرواية في الأردن، عمان 1996.ص45.

7-  كنت نويت أن أكتب عن رواية الخماسين أيضاً.(رسالة إلى الكاتب جمال ناجي رئيس رابطة الكتاب الأردنيين بتاريخ 16/10/2002 ).

8-  د.بسام قطوس، سيمياء، العنوان، عمان، 2002.

9-  السابق، ص142.

10-  أشـار إدوارد الخراط إلى هذا مراراً. أنظر " ثلاثة وجوه لغلب هلسـا "، فصول، ربيع 1993.

11-  انظر ملاحظة 10، ونزيه أبو نضال ص 45 وما بعدها.

12-  اعتمد على الطبعة الأولى الصادرة عن دار ابن خلدون/بيروت،والإشارة إلى الصفحات في متن الدراسة تعتمد على هذه الطبعة.

13-  انظر دراسة على جعفر العلاق،  فصول، ربيع 1993.ص 269.

14-  الزوزوني، شرح المعلقات السبع، بيروت وعمان،1972.ط2.

15-  انظر مجلـة العلـوم الإنسـانية الصادرة عن كلية الآداب / جامعة البحرين، ع1، شتاء 1998، ص229 وما بعدها.

16-  السابق، ص 230.

17-  انظر: ميجان  الرويلي وسعد البازغي،  دليل الناقد الأدبي، بيروت، 2000، ص 182.

18-  أقصد هنا غالب هلسا نفسه، ففي المقالات التي نشرت عنه في فصول إشارات إلى أن غالب كان يدعو إلى حمل السلاح والمقاومة المسلحة.

19-  انظر كتاب غالب هلسا " قراءات في أعمال يوسف الصايغ وآخرين، بيروت، دار ابن رشد، د.ت،ص165 وما بعدها.

20-  عاش جمال الدين الأفغاني بين 1838و1897، وإذا افترضنا جدلاً أن خالداً كان يذهب إلى المقهى في عام 1966، فإن عمر العجوز الذي قال هذا الكلام يزيد عن الستين عاماً، وإذا عرفنا أن إقامة جمال الدين الكبرى في مصر امتدت بين 1871و1879، أدركنا أن عمر العجوز يربو على الثمانين عاماً،وسيرد كلام العجوز في متن الدراسة.

21-  ربما يجدر هنا التوقف أمام ص 194 من الرواية، حيث تخبرنا عزة أنها أخذت تكثر في حديثها من الجمل الإعتراضية، وغدت هذه حالة تلازمها، فهل تأثر الكاتب ببطلته ولهذا كانت ثلاثة عناوين من العناوين الفرعية، في الرواية، تحمل عنوان " جملة اعتراضيه ".