الأديب عبد الله الطنطاوي في" الوادي الأحمر"
الأديب عبد الله الطنطاوي في
" الوادي الأحمر"
يصل الماضي بالحاضر، ويؤكد أن المقاومة في فلسطين من فيوضات صيحة القسام الشهيرة
" هذا جهاد .. نصر أو استشهاد"
عبد الله الطنطاوي
|
|
نعيم الغول
|
صدر عمل أدبي تاريخي جديد للأستاذ الأديب الناقد عبد الله الطنطاوي بعنوان "الوادي الأحمر : صفحات خالدات من سيرة الإمام عز الدين القسام".
يقع هذا العمل الكبير في كتاب من الحجم المتوسط في اثنتين وتسعين ومئة صفحة، وامتدت مساحة الأحداث المروية عبر عشرين وثمانية فصول.
وإني لأحرص على عدم تسمية الكتاب بما لم يسمه أديبنا. فهو لو يطلق عليه اسم رواية أو مجوعة قصص أو تاريخ. ولكن عنوان الكتاب يذكر إنه صفحات من سيرة الإمام الشهيد القسام رحمه الله. والتصنيف هنا مهم لأن من شأن ذلك ان يتيح الفرصة لمحاكمة النص وفق المعايير النقدية التي ينتمي إليها جنس العمل. هذا من جهة . ومن جهة ثانية جاء هذا العمل جامعا بين الرواية و التأريخ لسيرة شخص ما. ومن هذا المزج الواضح بين البنية الروائية وبنية السيرة التأريخية تأثرت اللغة والحوار وطرح الفكرة والحقيقة التاريخية في تجاذب يميل تارة هنا وتارة هناك.
وفي رأيي المتواضع أن هذا المزج انجح العمل من حيث انه حقق أهدافه المرجوة. فقد كانت الأهداف:
§ التعريف بالقسام مولدا وعلما وثقافة وجهادا وانتماءا لدين الله ولطبقة الفقراء والمظلومين والمضطهدين حتى وهو في العاشرة من عمره"مصطفى يا أمي .. مصطفى اعتدى على احمد فوقفت إلى جانب الحق."
والهدف الثاني التعريف بجانب من أصول القضية الفلسطينية بعيد التقسيم واحتلال الإنجليز لها وتسهيل الاغتصاب اليهودي لأرض فلسطين. والهدف الثالث بيان أن هناك تيارين كانا على الساحة الفلسطينية داخل الجسم الإسلامي؛ قسم يدعو إلى الجهاد ممثلا بالقسام وكامل القصاب وزمرة المجاهدين وقسم آخر ممثلا بالمفتي الذي كان يرفض إعلان الجهاد مع أن كل مبرراته الشرعية كانت موجودة ( مع أن هناك من ينفد هذا الرأي كما سنرى لاحقا). والهدف الرابع التأكيد على أن لا فصل بين الدين والسياسة وان السياسة يجب أن تتبع الدين. والهدف الخامس بين أن الجهاد على ارض فلسطين وأي ارض إسلامية ليس حكرا على أهل تلك الأرض بل هو واجب كل مسلم يرى أن أرضا من ارض الإسلام قد احتلت فينضم إلى جماعة المجاهدين وفق الأصول الشرعية المعروفة للنفير والجهاد.
والهدف السادس وربما أهمها هو الربط بين جهاد القسام و أصحابه وجهاد ياسين وأصحابه وان صيحة القسام ما تزال تتردد وأنها لن تخفت حتى تتحرر فلسطين كاملة إن شاء الله.
1- وقد حقق المزج علاوة على ما تقدم وظيفتين فنيتين دفعتا بالعمل إلى الأمام؛ الأولى: التشويق والثانية: إعطاء المعلومة التاريخية . وجاء العمل في بعض جوانبه روائيا من حيث توفر العناصر الروائية الأساسية من حوادث متتابعة وشخصيات وحوار ومساحة زمنية ممتدة. وبما أن العمل سيرة حياة الشهيد القسام، وبما أن الكاتب أديب ومفكر إسلامي فلا بد أن يطرح الحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان ودون أن يفسدها بوضعها ضمن إطار الحقيقة الفنية حتى لو أدى ذلك إلى الانتقاص من قيمة العمل الفنية كعمل روائي. ولهذا كان هناك تدخل مباشر من الكاتب وسرد الحقائق وكأننا نقرأ في كتاب من كتب التاريخ. وحتى إن الكاتب لم يشأ في سرد بعض الحقائق إيجاد شخصية أخرى تورد من خلال حوار حي شيئا من هذه الحقائق ، بل عمد إلى إيجاد حوار بين القسام ونفسه( الوادي الأحمر ص 45)؛ ومع أن هذا ممكن في عالم القصة القصيرة ، ولكنه في الرواية يضعف العمل، ولا يقنع القارئ ثم إنه لا يجلي الحقيقة التاريخية كما لو كانت من خلال خلق شخصية أخري تنقلها. والأقرب إلى الحوار النفسي الداخلي هي ردود فعل الشخصية المحورية تجاه الحدث والانفعالات المتصارعة في داخله وليس الوقائع التي تحدث في الخارج. ولهذا أقول إنه إذا أريد لهذا العمل أن يكون رواية بالمعنى الفني المتعارف عليه فعليه أن يعيد طرح الكثير من الحوادث بطريقة سرد الروائي لا سرد المؤرخ لها. ويستلزم هذا خلق شخصيات كثيرة وتعميق الحوار بينها وخلق عقدة محورية( وسلسلة من الأزمات المتلاحقة والحل لكل أزمة ثم الوقوع في أزمة جديدة وهكذا) وهي أمور خلى منها العمل. فلم نلمح تعميقا لحدة الصراع مع أي طرف فحتى المستعمر الفرنسي أو الإنجليزي لم يشخصن لخلق صراع تقوم عليه الرواية. فلو كان هناك ضابط فرنسي يلاحق القسام ويترك القسام سوريا إلى فلسطين ثم تنشا عداوة مع شخص آخر ( مثلا حليم بسطة) لصار هناك اختلاف في الموازين لصالح الفن الروائي.
ومن زاوية أخرى فقد انعكست الطبيعة المزدوجة على اللغة فيه فجاءت في جوانب كثيرة تقريرية ومباشرة وبتدخل من السارد لتتناسب مع الضرورة التاريخية فكانت على حساب الضرورة الفنية.
وعلنا نلاحظ التباين في طرح الحقائق التاريخية بلغة الرواية وطرحها بلغة المؤرخ من النصين التاليين:
"وأطفأ السراج، واندس في فراشه، وحاول أن ينام ، ولكن النوم استعصى عليه، لأنه كان يحترق من الداخل، للوضع المزري الذي يعيشه المسلمون حيث الجهل والفقر والتخلف : الفرنسيون نزلوا ببوارجهم وسفنهم الحربية إلى البر الشامي وهم الآن يسكرون ويسبون وبشتمون، و سوف يعيدون سيرتهم الأولى أيام غزوا بلادنا، وأقاموا فيها ممالكهم ودويلاتهم الصليبية وفي العصر الحديث في مصر عندما غزوها بقيادة نابليون سوف يسرقون كل شيء النساء والعقول والخيرات وسوف يفسدون كل مدينة أو بلدة أو قرية يدخلونها وإذا لم يتصدى الشعب لهم فانهم سوف يبيضون ويفرخون فسادا وإفسادا. ويا ضيعة الدين والخلق القويم ، يا ضيعة الأرض والعرض . ولكن ماذا عساي أن افعل ؟ معهم جيوش منتصرة ومزودة بأحدث أنواع السلاح وليس معنا سوى أظافرنا وأسناننا وعصينا وهذه الأحجار ولكن هل معنى ذلك أن نستسلم؟"( الوادي الأحمر ص 56-57)
وانظر النص التالي:" ثم هداه تفكيره الطويل إلى أن سبب كل تخلف وفساد إنما يكمن في هذا الجهل في هذه الأمية المنتشرة في أصقاع المسلمين كافة ومنها بلدته جبلة والقرى المحيطة بها فشمر عن ساعد الجد وانتضى سلاح العلم ليقتل به الجهل هذا العدو اللدود لكل تقدم لأنه يبعد المسلمين عن قهم روح الدين وعندما لا يفقه المسلم مبادئ دينه وروحه وأهداف الإسلام العظيمة ولا يعي الأخطار المحدقة به يكون السقوط فالجهل والأمية وانعدام الوعي هي الأعداء الحقيقيون لهذه الأمة."(الوادي الأحمر ص 47)
وانظر إلى جمال الربط بين عصر القسام وعصر الرسول صلى الله عليه وسلم وما في من رد على دعوة من ادعى أن القسام كان قوميا واشتراكيا في ثورته ولم تكن منطلقاته إسلامية دينية:"وتذكر الشيخ عز الدين جيش العسرة وكيف تم تجهيزه..تذكر أبا بكر الذي جاء بكل ماله وتذكر عمر الذي جاء بنصف ماله وتذكر عثمان الذي جهز اكثر الجيش وتذكر البكائين من آل مقرن الذين جاءوا يطلبون من الرسول القائد صلى الله عليه وسلم أن يجهزهم لخوض المعركة ولكن الرسول العظيم يعتذر لهم لأنه لا يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع لأنهم لن يتمكنوا من خوض تلك المعركة الفاصلة ولن يقاتلوا تحت لواء سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم .. تذكر الشيخ كل هذا وأضعافه ثم عاد إلى الواقع المعيش ،إلى الغزاة الفرنسيين والى تلاميذه الكبار في المدرسة الليلية والى الشعب الفقير…" ( الوادي الأحمر ص 58).
ولنقارن الصفحات من 50 إلى 52 " وصار اسم الشيخ عز الدين على كل لسان في جبلة وطرطوس …الخ" و " عندما صار خطيبا في جامع المنصوري في وسط البلدة كان يتوافد المصلون إلى المسجد( والأصح القول كان المصلون يتوافدون) ..الخ" و " هكذا استطاع الشيخ استقطاب الناس.." و " فعندما حاصر الإيطاليون طرابلس الغرب في أواخر عام 1911 وقف الشيخ خطيبا وخطب [في]الناس خطبة حماسية ألهبت مشاعرهم .."
لنقارن هذا النص بنص من كتاب " الشيخ عز الدين القسام قائد حركة وشهيد قضية" للأستاذ حسني ادهم جرار:"وتولى خطبة الجمعة في مسجد المنصوري الذي يتوسط البلدة وقدم لسكان بلدته الإسلام كما آمن به وتعلمه وغدا بخطبه ودروسه وسلوكه موضع احترام الناس . وامتدت شهرته وسمعته الحسنة إلى المناطق المجاورة وربطته بكثير من سكانها صداقات متينة فكثر اتباعه ومريدوه وعظم شانه وذاع صيته." (ص27)
بالكاد نجد فرقا بين السرد هنا وهناك فكلاهما تاريخي بحت وهو ما لا يتفق مع السرد الروائي. ولعل ثلثي الكتاب جريا على هذا النحو.
وبما أننا وصلنا إلى نتيجة مفادها أن العمل يغلب عليه صفة التأريخ فصار لزاما النظر في عرض المادة التاريخية في هذا العمل حتى يجتمع دينا الاستمتاع بالطائف الروائي الذي مس هذا العرض التأريخي لسيرة الشهيد القسام.
2- بالنظر إلى شخصية القسام في طفولته نجده يحمل صفات ظلت ملازمة له طوال عمره ومنها الشجاعة والإقدام والجرأة وحب الحق و الانخراط في الحياة الاجتماعية مع أقرانه في الكتاب وخارجه. ولكن الأستاذ حسني جرار يروي أن القسام كان ميالا إلى العزلة( الشيخ عز الدين ص 24) مما ساعده على التأمل والتدبر وهذا ما لم نلمسه في الوادي الأحمر.
3- في الوادي الأحمر لم يختلف الشيخ عز الدين القسام إلى دروس الشيخ محمد عبده بل أشير إلى أحد تلاميذ الأفغاني كان يُدرس ولم يكن بالتأكيد الشيخ محمد عبده. أما الأستاذ حسني جرار فيؤكد على حضور القسام لدروس محمد عبده (ص 25). وفي السياق نفسه علاقته أيضا برشيد رضا (ص 26).
4- في الوادي الأحمر لا ذكر لعملية تقسيم البيت إلى ثلاثة أقسام مما يشير إلى نقلة في فقه الشيخ فقد كان البيت حجرة واحدة فيها العائلة والدواب والمؤونة فقسمه إلى قسم للنوم وقسم للدواب وثالث للمؤونة وطلاه باللون الأبيض.
5- لم يذكر الأستاذ الطنطاوي منع القسام لأمه وأخوته من العمل لدى الافندي وهو أمر كان يمكن أن يستغل روائيا لما فيه من بذور صراع مع الافندي المستغل المستبد الذي كان يمكن أن يكون على علاقة مع المستعمر لملاحقة القسام .
6- ورد في الوادي الأحمر إن القسام دعا الناس إلى التبرع والجهاد ضد الإيطاليين واتصل بالحكومة العثمانية فرحبت به وبعمله وطلبت منه السفر إلى الاسكندرونة مع المتطوعين وهناك انتظر هو والمتطوعون الباخرة لكنها لم تأت ثم بعد أربعين يوما تلقى أمرا بالعودة إلى بلاده"( الوادي الأحمر ص 52) أما في كتاب الشيخ عز الدين القسام فيذكر جرار ان السلطات منعتهم من السفر وأمرتهم بالعودة إلى بلدهم (ص 27) ورواية جرار منسجمة مع نفسها اكثر من حيث أن السلطات لم ترحب بما فعل ولم تطلب منه السفر فالأمر لم يرق لها أصلا ولهذا منعته من السفر وأمرته بالعودة. أما رواية الطنطاوي فتثير التساؤل عن سبب الترحيب والطلب بالسفر ثم منع السفن من القدوم أربعين يوما ثم الأمر بالعودة فلماذا تلجا إلى هذا الأسلوب؟
7- كان هناك تكرار للحديث عن الموقف السلبي للمشايخ إزاء الأحداث السياسية التي يتمر بها البلاد والأمة . وكان الحديث يأخذ منحى التعميم أحيانا والتخصيص أحيانا أخرى ( ص 100 ، ص 107) مع أن جرار يتحدث عن نهضة للمشايخ بقيادة بدر الدين الحسني ( ص 31)مما يؤكد ان المشايخ المعنيين كانوا فئة محدودة آخذة في الاضمحلال وما بقي منهم كان موجها من قبل الاستعمار.
8- صورة مفتي فلسطين لم تظهر على صورتها الحقيقية الوطنية بل ظهرت كشخص يسوف ويماطل في إعلان الجهاد وهذا الموقف الخطير كان يستوجب أن يجلى في الرواية من أكثر من وجهة نظر. بينما نجد أن كتاب الأستاذ جرار يدلل على أن المفتي كان على علاقة قوية بالقسام ويدعمه بالمال والسلاح وانه كان يخطط لإعلان الجهاد في كل فلسطين وانه كان على علاقة بأقطاب الحركة الجهادية في فلسطين (ص66-71) بل وهناك تقرير صهيوني يؤكد أن المفتي كان الوحيد الذي وافق على فكرة المقاومة المسلحة
9- هناك قضية هامة لم ترد في الوادي الأحمر وهي طلب القسام قتل الخائن الذي ينشق على التنظيم ووقفه الحازم من العملاء ورفضه قبول أي خدمة منهم ويتناقض ذلك مع القول باه رفض إطلاق النار إلى الشرطة العرب المتعاونين مع جيش الإنكليز مع أنهم كانوا في مقدمة من قاتل القسام وهم الذين ارشدوا الإنكليز إلى موقعه في الجبال.
10- لا ندري مبررا للتخوف على لسان رفاق القسام من موقف أهل فلسطين منهم أو التحسب من اعتبارهم غرباء مع العلم أن أهل فلسطين لم يتخلوا يوما أبدا عن إيمانهم بان الأمة العربية والإسلامية هي سندهم وعونهم حتى في أسوأ الظروف التي مروا بها.ولهذا كان طرح الفكرة شيئا لا أتصور انه كان في بال أحد من القسام أو جماعته مع العلم ان أهل فلسطين كانوا يعتبرون أنفسهم جزءا من بلاد الشام وسوريا الكبرى ، وكان القسام حين يتحدث يقول "نحن عرب فلسطين :" ان علينا نحن عرب فلسطين الاعتماد على أنفسنا وعلى إمكاناتنا الذاتية لا ننتظر حتى تهبط علينا النجدات من السماء ولا حتى تصلنا من وراء الحدود." ( الشيخ عز الدين القسام ص 84).
11- هناك قول ورد على لسان القسام لا اعتقد انه يجوز في حق سيدنا موسى عليه السلام( الوادي الأحمر ص 115). فلم يكن موسى الذي لم يجرؤ على دخول ارض كنعان بل بنو إسرائيل الذي قالوا له " اذهب أنت وربك فقاتلا أنا ها هنا قاعدون" وكان موسى معروفا بشجاعته وشدة باسه وسرعة غضبه وما كان جبانا. وحتى لو كان هناك خطأ إملائي بمعنى أن الكلمة " يجرؤ" وردت بدلا من كلمة "يجرؤا" فيظل الخطأ واردا من حيث أن الجمع تشمل موسى أيضا. والصحيح أن يقال إن موسى عليه السلام طلب منهم الدخول فلم يجرؤا ورفضوا."
من الملاحظات غير ذات العلاقة بالتاريخ هو أن الكثير من الأسماء غير المعروفة إلا في سياق تاريخي لا يتأتى إلا لمن درس التاريخ واطلع على تلك الحقبة . ومن الواجب التعريف بهذه الأسماء بطريقة فنية لأن العمل الروائي كل متكامل ، ولا يجوز أن توجد فيه إحالات وإشارات ومرجعيات من خارجه فعليه أن يجيب على كل الأسئلة ويعرف كل الشخصيات والأحداث . فلو ترجم الكتاب إلى لغة فيجب ان يمتلئ بالحواشي التوضيحية حول بعض الأسماء لأنها تقفز فجأة إلى دائرة الحدث دون التمهيد للقارئ حولها بالطريقة التي عرف بها الشيخ كامل القصاب مثلا. ومن الأسماء التي برزت فجأة: أبو إبراهيم الكبير، أبو إبراهيم الصغير، رشيد الحاج إبراهيم ، البدوي ، المصري ، المخزومي، فرحان السعدي.
وهناك جوانب من حياة القسام لم يجليها الكتاب مثل إشرافه على تمثيل روايات (الشيخ عز الدين القسام ص 53).
ونفاجأ أحيانا بتغير أحوال الشيخ من حال إلى حال دون أن ندري متى وكيف حدث ذلك . فبعد الحديث المسهب عن فقره وعيشه في بيت من الصفيح نجد ان له بيتا يبيعه ليشتري سلاحا مرة في جبلة وأخرى في حيفا.( الوادي الأحمر ص 110 و 168).
إن ما ورد من ملاحظات أعلاه لا تعني أبدا أن الكتاب فقد قيمته. انه يحفل بكثير من القيم والجوانب الدعوية والفكرية والتربوية وهو يعطي صورة عن جهاد رجل كان مدرسة في حياته ومدرسة في مماته.
ان اعظم قيمة في رأيي للكتاب تكمن في تأكيده في خاتمة العمل ان استشهاد القسام لم يكن خاتمة المطاف . ان شعلة الجهاد التي أوقدها القسام لم ولن تنطفئ؛ فها هو الشيخ المجاهد احمد ياسين رحمه الله يواصل الجهاد ويقض مضاجع المحتل؛ فلا يملك إلا قتله والناس نيام ومن برج محصن بعيد في الجو واحسبهم خشوا الاقتراب منه جبنا واستهانة بأنفسهم.
كانت هذه الخاتمة لازمة لأن القارئ كان يشعر في كل صفحة من صفحات جهاد الشهيد القسام انه لم ينجح في منع إقامة كيان لليهود في فلسطين. وكي لا يظن القارئ ان الأمر انقضى بانقضاء حياة القسام جاءت العبارات الأخيرة لتنير بصيرة القارئ وترد له روعه:
"قال الراوي الذي كان يرصد الأحداث كأنه الشاهد عليها: وها قد جاءت دورة حضارية جديدة بمجيء الشيخ المجاهد القسام وقد روتها دماء تلاميذه ومريديه من المجاهدين الذين سلموا الراية إلى العقل المتفتح والى الرأس الذي يحسن التفكير والتدبير إلى الشيخ الذي تمردت روحه المتوثبة على جسده المشلول فقاد كتائب القسام ليكون الفتح والتحرير من فيوضات تلك الصيحة التاريخية ( هذا جهاد.. نصر أو استشهاد).
والكتاب بعد مدرسة نتعلم منه أمور كثيرة:
حب الجهاد وحب المجاهدين وعدم الفصل بين الدين والسياسة (ص 100) و عدم التعامل مع الخونة (ص 87) والجهاد في الأرض الإسلامية(ص 94 ). ولو كان الأمر لي لجعلته مقررا في المدارس يدرسه طلابنا ليتربوا على قيمة الجهاد والتمسك بالدين والأرض والدفاع عنهما وعن العرض والحمية للحق التي جاءت في سفر عذب اللغة مشوق الحوادث محبب الشخصيات.