الشاعر الجوّاب وحيد الدهشان
الشاعر الجوّاب
وحيد الدهشان
أ.د/
جابر قميحةقد يكون العنوان مستغربًا، وهو إطلاق أو توصيف، أو لقب يطلق لأول مرة، وإن كان في تاريخنا الأدبي الشاعر الملاح التائه، وهو وصف أدخل في الرومانسية والخيال الشارد ، وشاعر النيل ، وشاعر القطرين ...
أما وصفي للشاعر وحيد ب"الجوّاب" فهو وصف واقعي لا حظ للخيال فيه، فالمعروف أنه شاعر "رسالي" أي شاعر وقف كلماته على أداء رسالته التي تعانق أو تعانقها رباعية شريفة هي الإنسانية والإسلام والعروبة ومصر، وهو تقسيم صناعي؛ لأن هذه الرباعية في صورتها الأصيلة تتضام وتتوحد في كيان فذ قوي الوجود.
والشاعر الرسالي هو الشاعر الملتزم، والالتزام هنا يختلف عن الالتزام بمفهومه الوجودي ومفهومه الشيوعي الذي عبر عنه لينين بقوله: "لا أدب إلا أدب الحزب»، أما التزام الشاعر المسلم، فينطلق من داخله بصورة طبيعية عفوية كأنه نخاع تجربته الشعرية، وهو بأصالته الشعرية يرفض الالتزام"؛ لأنه يجعل من الشاعر عبدًا مقودًا.
و" رسالية " وحيد الدهشان تدفعه إلى أن يتنقل ويجوب الأرض ليقول كلمته الشاعرة في المجامع والندوات والمناسبات الإسلامية والعربية؛ انتصارًا للحق وللعروبة وللعدل وفلسطين، ولشدة إيمانه بالكلمة تعودت أن أرى له مظهرين إذا وقف على المنصة ليلقي شعره، المظهر الأول أنه لا يبدأ في الإلقاء إلا إذا سكت الحضور وأنصتوا، ويتحقق هدفه بنظرات غاضبة نحو الذين يتحادثون ولو كان ذلك همسًا.
والمظهر الثاني: أنه إذا ما بدأ الإلقاء تخلى عن وجهه المبتسم الظريف، واستبدل به وجهًا قُدَّ من جمر.
وهي - على أية حال - صفة في الإلقاء تحسب له، وقد يحسبها آخرون عليه، والنتيجة واحدة خلاصتها: لا إقلاع عن هذا النهج أبدًا.
وشاعرنا الجواب ينظم بالعامية، كما ينظم بالعربية الفصيحة، والنوع الثاني أغزر وأرقى من الأول.
ومن دواوينه: أصداء الشوق والرجاء، والقدس في القلب، وغدًا لا ينفع الندم.
**********
والدهشان كثيرًا ما يقدم في قصائده "لوحات" تعرض حالات العرب والمسلمين، ولكنه - بتمكن بارع - نظم بعض قصائده بأسلوب قصصي، كما نرى في حواريته الدرامية المشهورة "ماذا لو عاد صلاح الدين؟".
فالشاعر يخترق العالم المغيَّب وينادي، بل يستغيث بصلاح الدين عارضًا عليه ما نحن فيه من ضياع وانكسار في عبارة مكثفة لا تزيد على إشعار صلاح الدين بشدة احتياج أمتنا إليه:
ناديته نحتاجك الآنا نحتاج خالد والقعقاع فرسانا
وتنفسح الرؤية الشعرية - والأدق أن نقول: والرؤيا الشعرية لأداء صلاح الدين الذي استغرق كل القصيدة، إذ إن دور الشاعر لا يزيد على النداء.
ويتولى صلاح الدين عرض عناصر الرؤيا، وكلها إسقاطات سياسية، وقرارات اتهام وإدانة للقائمين بأمرنا، الآخذين بخناقنا، وجاء الجزء الأول من القصيدة أقوى الأجزاء وأنفذها إلى الواقع المر المنكسر.
فـقـال هبْ أنني لبيت صائحكم وقـمت من مرقدي حتى أعاونكم هـل تقبلون مجيئي في بلادكمُ؟ أجـهـز الجند بدءًا من عقيدتهم أثـيـر في الناس طاقاتٍ معطلة حب الشهادة في الأعماق أغرسه أوسِّـد الأمـر لـلأطهار مقتديًا أخـتـار حـاشـية بالله مؤمنة | وجـئـت أقـطع تاريخًا لـكـي نـعيد من الأمجاد ما كانا وهـل أعود كما قدكنت سلطانا؟ وأشـحـذ العزم إخلاصًا وإيمانا وأنصب العدل بين الشعب ميزانا كي يصبح الفرد في الميدان بركانا ولا أقـيـم عـلى الأغنام ذؤبانا فـلست فرعون كي أحتاج هامانا | وأزمانا
وكما أننا نقرأ لشاعر رسالي، فلا عجب أن يستدعي سلطانًا "رساليًا" تتلخص رسالته كما نستنبط من أقواله في تحقيق العدل والتحرير، لذلك نراه مترددًا في العودة إلى الدنيا؛ لأنه يخشى ألا يُمَكَّن من أداء هذه الرسالة، وحيثياته بهذه الخشية تعدّ في ذاتها إدانة قاصمة للحكام الطغاة.
ويمضي صلاح الدين في عرض قائمة المثالب والنقائص والشذوذ والانهيار والمظالم في مجتمعاتنا، مستخدمًا أسلوب السخرية أحيانًا كما نرى في قوله:
سـيـفي سيؤخذ مني إن قـد يـشـتريه ثري ربما دفعوا وقـد يموت اكتئابًا في مزارعكم وربـمـا خسة قامت صحافتكم وربـمـا ألصقوا بي أي منقصة وربما الأمن بعد البحث صنفني وسجلوا لي اعترافًا حسبما رغبوا وربـمـا قال أهل الحكم في ثقةٍ | أتيتكمُأمـا حـصـاني فلن يرتاد إلـى السباق به.. لا نحو أقصانا والـعـجز يفتك بالأحرار أحيانا بـحملة تزدري عهدي الذي كانا وصـرت بعد الذي قد كنت خوَّانا وأثـبـتـوا أنني كم زرت إيرانا وصـدق الـناس بالإلحاح بهتانا إنـي انتميت لمن يُدعون إخوانا | ميدانا
ومن حقنا على الشاعر الجواب أن نبدي بعض الملاحظات على هذه القصيدة:
1 - وفق الشاعر في حديثه عن الحصان، وقد عاش الحصان رمزًا للعربي في كل العصور، في حالتي انتصاره وانكساره، حتى إنه كان يطلق مجازيًا على فارسه، ومن هتافات الرعيل الأول للمسلمين "يا خيل الله اركبي".
2 - المفارقة بين الحصان في حال انتصاره وبينه في حال انكساره، وهذا ما عالجه من قبل بتصوير فائق، وأداء رائع الشاعر "أمل دنقل" في قصيدته "الخيول".
3 - تحول الشاعر إلى مجرد راوية لصلاح الدين، وبعد البيت الأول اختفى الشاعر وانفرد صلاح الدين بالحديث، ولو جعل الشاعر من نفسه محاورًا لكانت القصيدة أدخل في فن "الحوارية الدرامية".
وتحل الذكرى العشرون للانتفاضة المباركة، وانطلاق حركة المقاومة الإسلامية "حماس" فينظم الشاعر مطولة عنوانها "فجر الحقيقة ساطعًا سيعود".
والقصيدة تبدأ سوداوية مكتئبة، يعرض فيها الشاعر مظاهر الانتكاس والهزيمة والسلام المشبوه والمسؤول هم حكامنا الذين وصفهم الشاعر بقوله:
وزمامنا أمسى بأيدي ثلةٍ خان العميل ووافق الرعديدُ
باعوا القضية وَهْيَ ليست ملكهمْ وسئلت هم عرب؟ فقلت يهودُ
ويجتر الشاعر بعض الأحداث والوقائع التي نزلت بفلسطين، وهو يعالجها على سبيل الإشارة كالانتداب وقرار التقسيم، ودخول الجيوش العربية.
**********
وبعد هذه النكبات والصور البائسة اليائسة يسترد الشعب الفلسطيني بإيمانه ثقته بالله، وبقدرته على الكفاح، وتمثلت هذه الروح بصفة أساسية في حماس وانتفاضة الحجارة.
وتـتابع الركبُ المبارك يفتدي وكـتـائـب القسام لم يهدأ لهم شـهـداء أقصانا وألوية الردى معهم سرايا القدس حيث تشكلتْ قلبت موازين الصراع وأثمرتْ والآن بـالصاروخ نرمي وقتما عـشرون عامًا زلزلت أعداءنا والصامدون هناك لم يتزعزعوا عياش أو عبد العزيز.. شحادة كـانـوا مثالاً في رسوخ عقيدةٍ تـركوا الحياة جباههم مرفوعةٌ وبـشـائر النصر المبين بغزةٍ سـتـظـل تعلنها بأسماع الدنا والله نـاصر جنده ما أخلصوا | مـسـرى النبي وبالنفوس يجودُ جـفـن ولا مـنهم تدار خدودُ كـل لـه دور هـنـاك مـجيدُ لـلـردع أيـد قـوسها مشدودُ أمـلاً لـه كـل الأبـاة جـنودُ شـئـنـا وفي غدنا لحيث نريدُ وازداد بـشـرًا رُكَّـعٌ وسجودُ أبـدًا وعـزم قـلـوبهم معقودُ يـاسـين.. كلٌّ في الجهاد نشيدُ وبـذكـرهـم كم يجمل التغريدُ ولـهـم بـسفر الماجدين خلودُ مـهـما تخابث وافترى النمرودُ فـجـر الـحقيقة ساطعًا سيعودُ ولـديـه مـمـا يشتهون مَزِيدُ |
وهكذا بدأت هذه المطولة التي نظمها الشاعر في 8/9/2007م، سوداوية مكتئبة حزينة، والشاعر يعلل لهذه المشاعر تعليلاً واقعيًا ناجحًا، ثم أنهاها الشاعر بمظاهر الكفاح والجهاد والإصرار.
وكل أولئك سيحقق النصر، إن شاء الله، ويعيد فجر الحق والحقيقة ساطعًا "وليس ذلك على الله بكثير، ولا بعيد".
**********
وللشاعر فلسطينيات أخرى، كتلك التي ضمها ديوانه "القدس في القلب"، وكلها تتسق مع طبيعة الشاعر "الرسالي"، وخصوصًا إذا كان "جوَّابًا" في شتى المدن والقرى المصرية ينشد شعره.
هذا، وما قدمته في السطور السابقة لا يتعدى "جذاذة" نقدية، فشاعرنا الجوَّاب لا يفيه حقه إلا دراسة بل دراسات أكاديمية واسعة.