كتابة الفقدان وفضاء الحلم

د.إبراهيم القهوايجي

كتابة الفقدان وفضاء الحلم :

*قراءة في  سقوف المجاز  

د.إبراهيم القهوايجي

      " سقوف المجاز " هو الديوان الشعري الثاني للشاعر عبد السلام الموساوي بعد ديوانه الأول " خطاب إلى قريتي "، وهو يضم إحدى وعشرين قصيدة، تندرج ضمن قصيدة النثر، وهي قصائد منفتحة على عالم مشرعة بتعدد التأويلات والقراءات التي يكاد بناءها الموضوعاتي يختزل في تجربة الفقدان الحزينة، والبحث المؤلم عن جمالية للكتابة الشعرية، وكأن الشاعر يكتب نشيد البوح السري للذات التي تسترجع عبرها أصوات الآخرين في أعماقها الضاربة جذورها في التاريخ.

إن هذا الإحساس بالفقدان أضفى على الديوان حساسية منزاحة عن الضوابط الموضوعية الصارمة في البوح بأسرار وخفايا الذات، مما يفسح المجال للحلم لاستعادة بناء وتشكيل الواقع الكائن عبر الواقع الممكن.وسنحاول في هذه القراءة المتواضعة أن نستجلي معالم تجربة الفقدان في بعض جوانبها الفكرية والفنية.

 

سقوف العنــــــوان :

 

    إن " سقوف المجاز" كعنوان إلى أن نقترح له قراءة ضمنية تبدو للوهلة الأولى متصلة بحياة الشاعر، وقد يوهمنا بهذا الاستنتاج الأولى نوعية إهداء الديوان لدرجة تجعل القارئ يتوقع احتمال ربط متنه الشعري بتجربة الشاعر في محيطه الخاص، وعلى اعتبار العنوان "بنية ودلالة غير منفصلة من المكونات النصية الأخرى، وباعتباره عنصرا علاماتيا يختزن الكثير من أسرار النص " (1) فان عنوان " سقوف المجاز " يكشف لنا عن جملة قضايا أو معطيات متصلة بمواضيع عميقة، وبتلمسنا لرمزية اللفظتين المكونتين له : " سقوف " و " المجاز " وبحثنا عن صلة هذا بذاك. نجد كلمة " سقوف " تكتسي طابعا استعاريا، لأنها تحمل معنى الحياة لكونها فضاء / مكانا يحضن الأحياء، وتتماهى اللغة / الشعر معها باعتبارها " مسكنا للكائن في العالم، وقد فهم العرب قديما جوهر مقصدية الشعر حينما أطلقوا على شطري القصيدة، بيتا، تقيم فيه، وعبره رؤيا الكائن الشعري الذي يقصد كشف وإنارة السراديب السرية للعالم " (2)، وبالتالي تغدو " السقوف " كدال ترميزي يحيل على قصائد الديوان باعتبارها أردية لمأوى الشاعر، وكأنني بعبد السلام الموساوي من أولئك الذين لا يمكنهم العيش خارج مسكن الشعر/ شعرية الحياة، ولعل هذا ما يلفت الانتباه إلى التركيز على الذات في تماهيها مع الشعر. واما " المجاز " : " فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول ... وان شئت قلت : كل كلمة جزت بها ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز بها وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها " (3). والمجاز بهذا المعنى البلاغي يتماهى مع الشعر – في الديوان -، لأن الشعر استعمال خاص للغة أو هو كما قيل استعارة أو مجاز موسع، " أي  أن لغته تخييلية وتخيلية مما يتيح للشاعر الانزياح عن الحقائق الكونية، وذلك عبر هدمها واعادة بناءها من جديد، وبالخيال يحيا الشعراء " (4). ومن التعالق المتوتر بين عنصري " سقوف " و " المجاز " تبتدئ رؤية الشاعر للعالم باعتبارها مجازا، وهذا أقرب إلى لغة التصوف التي تقدم الوعي الذاتي بالاعتماد على المشاعر والوجدان وعلى مجال الروح كوسيلة وحيدة لمعرفة الحقيقة وتملكها، وهذا يربط بين الشعر والتصوف. وهو * ما يحملنا على القول باستدراج أفق نصوص هذا الديوان القارئ، وجعله منفتحا على عتمات الكتابة الشعرية وهوامشها الصموتة في تجربة عبد السلام الموساوي ما دام الشعر هو الكلام المجنون الذي يختصر كل العقل، والفوضى التي تختصر كل النظام على حد تعبير نزار قباني، وليس من غريب الصدف أن يرد عنوان أول نص في هذا الديوان : " أول الجنون "، لأن الشعر نوع من الجنون الذي يشي بالمطلق واللانهائي والمتاه، وهي بعض الإيحاءات التي تؤثث ديوان " سقوف المجاز ".

 

بلاغة الفقدان :

 

     تشكل تيمة الفقدان محور ا لإيحاءات والتحولات الدلالية المتحكمة في دينامية نصوص ديوان : " سقوف المجاز "، كما تتحكم في بناءها وتماسكها العضوي ، إذ يمكن اعتبار الديوان قصيدة مسكونة بموضوعة الفقدان، وهذا تضئ قصائد الديوان عتمات الكتابة الشعرية المتماهية مع انكسارات الذات المتعددة، كاشفة عن رواسب عميقة، مشخصة  لتجربة الفقدان الجوهرية في العالم، وضمن هذا المسار تتفرع الدلالات الشعرية عم مدارات تيماتية، ومن ثم تألف جملة من التيمات المتراكبة.

إن عبد السلام الموساوي يصوغ تجربة الفقدان في صور تلفظها من خلال توظيف وحدات معجمية تتشابه وتتجاوز : الرحيل – الحرمان – الخلاء – العراء – تخفي – يطيرون – يموتون – الريح – المطر – الصمت – الموت – السهو – القصب – الغياب – النسيان – الغربة – العدم – التيه – الضياع – الفقد – قبر – خلوة – الهجران – الذكرى – الرحلة ...

هكذا تؤلف تجربة الفقدان وحداتها المعجمية المنسابة، لتتولد عنها جملة تيمات متراكبة من بينها :

الطبيعة : وهي تيمة جوهرية تتعالق بالذات بشكل يجعل منها بديلا يعوض هذا الفقدان، ويحمي الذات من الاندثار ويشحنها بالأمل معيدا لها نوعا من التوازن والقوة، لنقرأ المقاطع التالية : فاض الليل / ونهر الروح كان يشرب من خطاه / ويفتل الغيم ورودا من ظلام / كان حافيا ... / يمشي فوق حصاة / ينشر الرذاذ في أجنحة الطيور / ويمسك بالمتاه ( قصيدة " أول الجنون " – ص :5 ).

قدر منفلت من قبو السماء / شمس تبيع أربعاءها / لحزن الخميس / وامرأة في دمى / تفتش عن فاكهة الدفلى / وعن يباب الأحباب ... ( قصيدة " قنديل الليل " ص 17- 18 ). تتدلى سقوف المجاز / غيوم معبأة بالصهيل / ترش المدى / بأجنحة / تنقلها الريح للريح / فوق أراجيح المطر/ فيزهر في الصدى / غصن الزيتون ( من قصيدة " شهوة التجاعيد " ص 25-26).

هكذا تظهر الطبيعة خلية تتولد عنها وحدات معجمية، تحتوي الليل والنهر والورد والظلام والرذاذ والطيور والسرو والخزامى والسماء والأشجار والسنديانة والقرنفل والدفلى والشمس والتين والرمان والصباح والشعير والفجر والزيتون والخطاطيف والضباب والموج والبحر والنحل والأقحوان والقصب والفراش والصفصاف والحبق والصبار والبرتقال والعرعار والسنابل والزهور والهداهد والسحاب ... وجميعها تدخل في صلات عميقة تعضد المنحى الرومانسي – الثوري في الديوان، بل إن عناصر الطبيعة تتماهى عبر لغة الأقنعة : حيث تغدو رمزا للأنوثة ( شمس تبيع أربعاءها/ لحزن الخميس)، أو تنفتح على الذات في تماهيها مع الشعر ( تتدلى سقوف المجاز / غيوم معبأة بالصهيل ... )، فتطرح من خلالها أسئلة ميتافيزقية وتجريدية بالكينونة والوجود والقيم والحياة على المستوى الذاتي والموضوعي : ورأيت الأشجار تمشي/ والفصول تزحف في فوضى / وفي دهشة العين : / رأيت شهورا – أمام الشباك - / تنتظر راتبها الشهري ( ص 76 )، وبالتالي تنجلي في تمظهراتها الحياتية العميقة علامة كاشفة للوجود المصادر والمقموع بوصفها كائنا مقنعا، يمارس مكره في اختفاء دواله، وبذلك تغدو الطبيعة في الديوان صوتا دالا على نداء الكينونة المتعددة القابعة في أعماق الأنا التي تغلف رؤيا الشاعر باعتبارها كاشفة لسرية العالم في أبعاده المجهولة المكرسة لتجربة الفقدان، لننصت إلى هذا المقطع الشعري  تسيب الأشجار / تغفو فوق الرصيف / لم يغزها هذا العام، خريف / تتساءل الأطيار في أغصانها : / - متى ينقلون الدفلى إلى الوجهات / متى يجتمع شمل الطبيعة / في مقهى ؟ ! / الأشجار حائرة / كالناس تشرب قهوتها / وتقرأ عمود الوظائف الشاغرة / وحين تدق الساعة العاشرة / يلفها الدوار ... ( ص 60-61 ).

 

الشاعر والشعر :

 

     يحتل الشعر ومداراته وهموم الإبداع الشعري حيزا هاما في الديوان، إذ أن الشاعر يتأمل تجربته، ولعل أول ما يؤشر على هذا عناوين القصائد. فالشاعر يعبر عن رؤيته للشعر ومدى تفاعله معه، وتجربته من خلال نصوص حسدت هيمنة القصيدة على ذات الشاعر، وقد اتخذ الشعر / القصيدة عدة ابدالات معجمية في الديوان كالجنون ( .. فيزهر في الصدى/ غصن الجنون ص 26)، والحرف / الحروف ( أوقدها الحرف المسروق من ذاكرة الوحش ص 41)، والغناء أعرفه .. ص 33 )، والكلام ( كي أصنع رحلتي من رغوة الكلام .. ص 33 حين يبرعم زهر الكلام .. 42 )، والحكمة ( ما تبقى من الحكمة / أتوهمه، زهورا متعبة ... ص 48 )، وعليه يسكن الشاعر هم القصيدة، ويركبه هاجس الشعر الذي يتصارع معه في فكره ونفسهن وفي الواقع أيضا : إذ مر آدم مجهدا / يبحث عن بائع التفاح / فالغواية هنا .. أو هناك / في الشجر / حيث يربض الثعبان / أو في مخدع هاتف / قالت له : لا تكترت / فقد عينتك مروضا للشيطان ( ص 98-99)، ليجعل الشاعر من شعره أسطورة يومية نحياها، ويحول بالتالي الشيطان / شيطان الشعر من موقعه الميتافيزيقي إلى حالة يومية، وكأن الحياة تنكتب شعرا، والشعر ينكتب حياة،ن ولعل هذا الاعتقاد هو أحد العوامل التي أدت بالشاعر إلى الاحتفال باليومي في ديوانه تماهيا مع التبادل لان الشعر يعاش أكثر مما يكتب، وأن الحياة اليومية قابلة لان تخضع للشعرنة : " وفي دهشة العين : / رأيت شهورا – أمام الشباك – تنتظر راتبها الشهري ( ص 7 ).

 

الرؤية الشعرية :

 

     ينشغل الشاعر بذاته في الديوان، ويكثر الحديث عنها، وعبد السلام الموساوي حين يعمد إلى مخاطبة ذاته يقرنها بظواهر طبيعية أو يلحقها بأشياء معيشة، من هنا غلبة ضمير المتكلم على النص، ولعله جاء نتيجة الإحساس بالفقدان الذي يعانيه الشاعر أو الشعور بالمعاناة التي يكتوي بنارها : " - ... فأسمعه يقهقه عاليا / يدخن غيمة تائهة / ويشرب ضجر السماء ... / شموخ الجرح " ( ص 28)،  " – يا شجنا يرثيني / في قبر الحياة / بأي حيلة ألاقي ضجر السماء .. " (ص 68 )، وانفراد الشاعر بذاته يجعله يفرغ فيها معاناته بالتدنيس " وهذه الأفعى / خطيئتنا / فأمعنى في التعري الكثير / خطيئة ألا نتعرى / واغرزي شفتيك في شفتي – أيا شبابتي - / حتى يقول القصب بلاغته .." ( ص 34 )، وتارة بالتقديس : يرحل خيط الدخان عن أفران الطين / يذهب التائبون إلى جناتهم/ والغاوون يلتمسون شفاعة الأنبياء " (ص 68). ويتعمق الشاعر في البحث عن أسرار ذاته، وحقيقة وجوده بتوظيفه لفظة الجسد كدال ترميزي ينعته بحملة من الصفات :

-         تسللت من جسدي /.../ وحين عدت :/ وجدت جسدي المخلوع مسكونا../ ( ص 6).

-         جسدي واحد / والساكنون ألوفا / وفي الليل / أحنطهم/ وأرجى سهرتي معهم .. ( ص 44)

  وتعبير الشاعر بالجسد يفجر طاقات تعبيرية تزيد خطابه إيحاء، وتعمق رؤيته، وتجعل منه شيئا قابلا للتغيير، ومن هنا يتخلى ضمير المتكلم المفرد من تفرده لينصهر ويتكلم باسم الأنا الجمعي، وهو بهذا يستوحي ( أي الشاعر ) ذواتا أخرى كعبد الكريم الخطابي في  قصيدة " تعويذات لفتح الباب الكبير"، ولا يتوقف عند صورته ليجعلها نموذجا ضمنيا للانا الجمعي أو يحولها إلى مرجعية تقديسية، ولكنه يستوحي إيحاءاتها الجوهرية المنفتحة ( بطولة وفكر الخطابي ) حتى يضمن تجددها لتجاوز أخطاء الذات الراهنة، بمعنى أن الشاعر يؤسس من هذا المنظور لعلاقة مغايرة مع العالم، حيث يمنح خطابه الشعري فضاءا تخييليا منفتحا، ومن هنا توظيف الإحالات المتضمنة في الديوان كأسماء : أبو العلاء – لورك – مريم – المجذوب ...، لأنها تعكس وعي الشاعر العميق بطبيعة العلاقة مع العالم، وهكذا تحضر الأنا الجمعي كمرجع من خلال نصوص لا تحيل على الفردي لان الشعر فيها يحيل على ذوات متعددة غير ذاته، وعندما تتعدد الأنا الفردي، فإنها تحيل على الآخر/ الأنا الجمعي في تعدديته، ليصبح اختيارا رؤيويا يستمد منه الأنا الفردي وجوده. يقول الشاعر : " حين أمزق آخر شريان / يصل بين وردة النبض / وهسيس النحيب /ستغفرون للحبر وما انسفك/ على الرصيف من جملي ... وطفل في مثل عمري / يسحب خيله القصبي على الأرض / ويغادر دوائر الغبار / وانتم تشيخون في ذاكرتي / تزاحمون فيها المعاني الجديدة / والجثث الجديدة .." ( ص 52). وصوت الشاعر هو صوت الانكسار والفقدان، صوت الأنا المعذبة، يعبر بمفرد صيغته الجمع بحثا عن مهرب للألم والقساوة نحو الحلم واللغة والصمت والأعماق، وذلك ما يوفره فضاء الصمت حيث الموت يصير حارسا واقيا من الغرق الوجودي، وتصير الأرض / الام / الوجود دليلا على التماس الشاعر عمق كينونته المفقدة : " أيها الممسك بإزميل الماء / هو ذا حجر مبلل بالعطن / مسفوحا على الأرض / يلتقط من شفاه ها / رشفة الصمت / أيقظ فيه شهوة التجاعيد / وانشره معطونا / كي يمسك ببعض الحقيقة / وينسى بعض الموت " ( ص 26).

      وعموما فالرؤية الشعرية في هذا الديوان مشبعة بالإحساس بتقويض الذات ومرارتها وفقدان وتلاشي عناصرها في لعبة العبث وعنف الواقع، ليكون تشبت الشاعر بالكتابة الشعرية دليل امتلائه ولملمه ذاته المنكسرة واعادة التوازن لها.

 

لعبة السرد  :

   

 تمارس نصوص الموساوي في " سقوف المجاز " لعبة المكر الجميل، فهي تحكي، وتوهمنا بأنها تنشعر وتنكتب شعرا، وتوهمنا بأنها تسرد وتحكي من خلال توالي الأفعال/ الأحداث، ومن لغتها الشعرية، ومن خلال مجموعة من المواقف الصغيرة التي تتطور وتنمو وتتأزم، ولعل سلطة السرد بالديوان تظهر جليا من خلال بعض النصوص كقصيدتي : " تعويذات لفتح الباب الكبير " و " نوبة الهجران " .. ومن خلال توظيف مجموعة من آليات الحكي كالحوار والوصف واسترجاع الزمن وتواجد الشخصيات الفاعلة في الأحداث، وهي شخصية ليست ثابتة، بل متحركة، تتحاور للتعبير عن معاناتها وأزماتها :

-         " هنا تعشى عبد الكريم/ هنا كان ينام سيد الرجال/ هنا تزوجت عذارى البيت ..." (ص 10).

-         وحبيبا يعلو صهوة الحرف ../ أوصاها بألا تترك باب الحديقة مفتوحا/ إذا مر أدم مجهدا / يبحث عن بائع التفاح.. (ص98).

كما يوظف الشاعر عنصر المكان باعتباره حالة تقوم على الإحساس العميق بالشيء، وبالرغبة في الاتحاد فيه، وهو يحضر كفضاء أنطلوجي، يقول الشاعر : " وينصت إلى شبابة / تائهة/ في شوارع وهران البعيدة (ص 92)، والشاعر يعتني بالمكان إما بنوع من اللماع أو بنوع من التفصيل،  والأمكنة المحال عليها في القصائد تتنوع، منها المطلق والطبيعي والحميمي والمنفلت، وعبر هذه الأمكنة يتحول الشاعر إلى فضاء الحلم والذاكرة، لانه يتيح له استدعاء الصور الماضية : " هنا يعيش عبد الكريم/ هنا كان ينام سيد الرجال / هنا تزوجت عذارى البيت/ هنا أرقت ختانك وعجنته/ بماء الورد وحبوب البارود/ هنا ..هنا..هنا" (ص10)، وهكذا يغذو المكان صورا بلاغية تجعلنا ننخرط في الكون بكامله، لان المكان يبعث في المشاعر حنينا أبديا إلى الحلم : " ثم أعبر نهر الريح/ إلي مدارج الصحو/ هناك : أفتح صدري/ وايكم ما أختبأ في دمي / من خوف "(ص51). واختفاء الديوان بالمكان استعادة للجغرافية الرمزية المفتقدة، وهو ما يسم الخطاب الشعري بنوع من الدراما / الحدث المشتغلة في النصوص يصبح معها عنصرا محركا للنص الشعري، لان الشاعر ينطلق نحو الذاكرة/ منبع الشعر ليسافر عبر فضاءات المكان المتعددة.

 

الزمن الشعري :

   

 من خلال تتبع الزمن النصي اعتمادا على الصيغ الفعلية الموظفة نستشف أن شاعرنا يكثف الزمن الحاضر ( حوالي 408 فعل مضارع) بشكل يجعل منه الزمن المهيمن، وهذه الهيمنة لا تلغي حضور الزمن الماضي ( حوالي 110 فعل ماض) كزمن مرتبط بالذاكرة، والزمن المستقبلي ( حوالي 20 مرة). وهذه الإحالات الزمنية يحملها الشاعر أبعادا تخييلية تخرج بها عن تقريريتها، فيجنح لتوظيف بعض الألفاظ الدالة على زمن محدد كلفظ " الوقت" : " وحده في دفتر الصور/ يجلس وجها يابس الشفتين / يذيب الوقت في كأس قهوته / ويسخو بدوائر الانتظار " (ص 32)، وهذه الوحدة المعجمية ( أي الوقت) لا تحيل على زمن معين، ولكنها تبقى وحدة  إشارية مفتوحة زمنيا، بحيث يمكن إعادة بناءها لتصبح لحظات ممتدة، والشاعر يحس زمنها إحساسا باطنيا، يتأثر به ويؤثر فيه، بالليل ليس زمنا مستقلا عن ذات الشاعر، بل هو زمن يحرك شعوره ويحتويه عبر تكثيفه، ولا أدل على ذلك من تكرار لفظة " الليل " بشكل مكثف، فالليل رمز وجودي، وفضاء للحلم والرغبة واعادة تشكل العالم بعيدا عن صرامة العقل والنور ( النهاريين)، وهذا يتيح للشاعر تعددا وانفتاحا تأويليا : " ينبجس الصحو / من ليلة مقيدة / إلى نحر السرير " (ص 83). أما الوقت كدالة زمنية  تدرك بالشعور النفسي الذي يستحيل ضمن عملية الاستبدال الى محسوس يدرك بالحس، لكنه في الأغلب الأعم مصاب بنوع من السلب واللوث :

-         " متورطا في العالم / اغترف الخطو من إيقاع الوقت / المتبجح بالسخف .. " (ص 96)

-         " عندما حان موعدها / كان خيط العطر / يعتذر عن قلق الوقت " (ص97-98)

-         " فلم الآن تهدجت فيك الأعضاء، يا شبابتي / وباض الوقت في محاجرك ألف دهشة ؟ " (ص34).

والزمن لدى الشاعر ينفلت من بعده الطحلبي ومن رتابته الممضة، لتصير له وظيفة الحلم : " ادخل المساء / فيمضي الى  طيوره الحبيسة / ليخبرها كيف تنتعش الشمس / من إسار الأشجار / وكيف يبيض الليل / قمرا فوق وسادته البدوية .." (ص91)."

وأراني منكفئا على وهم الحرف / أنسج للخوف قناعا / وغصونا للنجم المتهاوي / أو فتح شمس المجاز على الليل / .. " (ص95-96). وهكذا يطرد الحلم الزمن المقيت من إطاره، ويجمع بين المتنافرات وفق سياق منطقي- شعري -، وعبر التأمل الشعري يتم تحويل الزمن الى سهو / نسيان، وهو سهو مطلق يجد مقابله في لحظة الصحو، وهو أيضا سهو عن الفقدان، وصحو على الامتلاء :

-         " متورطا في العالم/ أتنفس دفئ السهو/ تحت أجنحة السحاب .." ( ص 95)

-         " سأشرب من تيهي / كل الأقداح التي ضيعتها / في أغوار الضجر / ثم أعبر نهر الريح الى مدارج الصحو/ هنا أفتح صدري/ وأريكم ما اختبأ في دمي/ .." (ص51).

    ان حضور الزمان والمكان في " السقوف" مدعاة لتعميق رؤية الشاعر للعالم، إذ غالبا ما يحملهما أبعادا شعورية أو لا شعورية، قد ترقى بالمكان الى أن يغدو معادلا موضوعيا لما هو بلاغي ( المكان/ الاستعارة )  بدل المكان الجغرافي، وبالزمن الى مستواه النفسي أو الانطولوجي حيث يؤسس علاقة خاصة به تقوم على خرق التسلسل والتعاقب الكرونولوجي، فنصوص الديوان تؤسس لنفسها زمنها الخاص بها، والقائم على التكثيف، ومكانها المرتبط بالحلم من أجل الكشف عن الأصلي والجوهري، الكشف عن المناطق المكبوتة التي ما تزال مفتقدة.

 

الإيقاع الشعري :

   

  يتحكم في جميع صور واستعارات " سقوف المجاز" تكثيف إيقاعي، إذ ان أغلب التعابير خاضعة لتنظيم مركز وفق معايير موسيقية – ليست عروضية – تتولد ملامحه من توالي الأصوات / الحروف المتشابهة أو المتحدة في المخارج ( أ، ه)(م،ب) (د، ت) (ص،ز)... ليساهم هذا التكرار في إغناء الجانب الإيقاعي، علاوة عن عدم إغفال الشاعر لعنصر القافية لوعيه بقيمتها النغمية والشعرية، فقد وظفها مرسلة كما في " أول الجنون "، أو متتالية كما في " جعل تافه"... وقد أفرغ الشاعر قوافيه من أدوارها التقليدية، فلم تعد عنده تقرع الأسماع، فهو لا ينهى أسطره الشعرية بروي واحد يتوزع القصيدة بكاملها، بل يقيم كل مرة رويا معينا، أو يجعل قصائده مسترسلة دون التقيد به، وفي نفس الآن يستخدم القوافي الداخلية كما في قصيدة " ليتني خبأت الليالي "، لتساهم في خلق مناخ إيقاعي منسجم يمتاز بالإنسانية الشديدة والتدفق المتواصل والمتسارع، وهذا ما يؤكده ندرة علامات الوقف.

ان قصائد الديوان لا تجلو من الإيقاع بالرغم من كونها قصائد نثرية، بل ان إيقاعها متولد من ذلك التوازي القائم بين تقاطعها وتموجاتها النفسية سواء ما تشكل منه على المستوى التركيبي، أو على المستوى الدلالي، لننصت الى هذا المقطع : " فقد تعلمت ان الحب خطيئة / والغواية امتحان / والصمت منجاة .." (ص 42 )، وقل الشاعر : " أبحث عن تخطيط لحروف / يزيغ بها القلم / عن حبره / والحبر عن لونه / واللون عن بياضه الدائم " ( ص 89)، ولظاهرة التكرار وما تحمله من معاني إضافية كالسخرية، " التأكيد أو التعجب أو التكثير، أو ما الى ذلك من المعاني المقدرة في ذهن المتلقي " (5) دور هام في تشكيل لحمة الإيقاع في النصوص:

" يا قوس الألم / يا اختبار الله / يا شجنا يرثيني / في قبر الحياة " (ص68)

" تخذلني مراسيم النبش / ودكنة الأزياء / يخذلني سهو الأصدقاء / ... ليتني خبأت الليالي عن أقلامهم / ... ثم أستريح منكم الى الأبد " ( ص 71)، وليت لي متسع من الحبر / لاكتبكم على حافة الرعد / ثم استريح الى الأبد " ...(ص 71). ينضاف الى هذا التشكيل الحركي الدرامي النابع من فضاء النص الداخلي والمتمثل في التجسيد البصري، إذ ينسج نسقه بواسطة الحوار وخصائصه الإيقاعية والمستغلة لإيقاع توزيع الفضاء النصي عن طريق التوازنات الصوتية والصرفية والدلالية بما لها من وظائف من أهمها 3 الوظيفة التعبيرية القائمة على العدول والانزياح " (6)، ويمكن التمثيل لها بقصائد : " تعويذات لفتح الباب الكبير "، " جسدي واحد والساكنون ألوف " ...

 

اللغة الشعرية :

    

  تبدو اللغة الشعرية في " السقوف " منذ الوهلة الأولى شفافة، لكنها، في الواقع، تدخل في باب السهل الممتنع بالنظر الى مكوناتها و نسيجها الانزياحي، حيث يغدو للنهر روح،وللغيم ورود، وللأشجار مشى، وللفصول زحف، وللشهر راتب شهري، وللقصب بلاغة، وللجسد سكان...، إضافة الى الشحنة الترميزية التي تربط بين الأنا وأشياء لعالم الخارجي، مما شكل مصدر الخصب الوجداني والاجتماعي، بما توفره الفضاءات الترميزية من آليات تخييلية في سياقاتها التركيبية، ومن تم جاءت لغة الديوان انزياحية بامتياز في صناعتها، تخييلية في أسلوبها ووسائل بلاغتها، لان الموساوي مجنون باللغة بوصفها وجودا يؤثث التاريخ الكوني، وبما هي سفر في الغيابات والمجاهل والفقدان والعتمات، وحفر في الطبقات العميقة للذاكرة المختفية، لذلك لا ترد الكلمة في الديوان إلا وهي تلتبس بالذات الشعرية التي تجعل اللغة منبثقة من لغة الحديث اليومي، وتشحنها بالصور والاستعارات والتكثيف الإيقاعي، وخلق الانزياحات، فبدءا بالعنوان يقدم الشاعر لغة تصدم القارئ وتغير أفق انتظاره لاستعماله صورا تسعى الى خلق عالمها الخاص، وتعيد ترتيب الأشياء وفق منطق حداثي للعلاقات بين العلامات اللغوية، وتؤسس حقيقتها الذهنية والوجدانية غير المطابقة للحقيقة الواقعية، لذلك تبدو مثل هذه الصور أشبه بالرؤى والأحلام التي تضيق عنها العبارة، فتتوسل الإفصاح بتحرير علاماتها اللغوية من يقينيتها وحرفيتها ومعانيها القاموسية عبر الداخل في شبكة من العلاقات الجديدة، لتكشف الكلمات عن الأجواء النفسية الغائرة للأشياء، وعن العمق العاطفي، فتخلق انسجاما بين المتناقضات، وتزداد الصور ثراء بتواليها في إيقاع متسارع. إنها شعرية الاختراق حيث الشعري يشيء العالم الى نوع من التجديد، لهذا تأتي صور الشاعر مركبة تفتح للكلام الشعري أبعادا تعمق فيه بلاغة السهل الممتنع، علاوة عن انتقاء الشاعر للغة تحيل على أبعاد متماهية مع السر العميق للذات ومع الاكتناه التأويلي للعالم، الكاشف عن اعتراف الذات بالفقدان والفدا حة التي لا تحتمل، لذلك جاءت لغة النصوص بديلا رمزيا يحقق للشاعر حريته، عودته الى الأصل، ملء الفراغات والخرائط الجوانية تجاوزا لواقعية الفقدان المريرة.

 

على سبيل الختم :

   

    ختاما، يمكن القول إن قصائد هذا الديوان تضئ عتمات الذات وانكساراتها المتمردة، ورؤيتها المأساوية من خلال الكشف عن الاعترافات العميقة في رواسب الذاكرة والطفولة ولملمة أسئلة الكينونة، وتشخيص الغربة الغائرة في الذات الشاعرة، من هنا يمكن اعتبار نصوص الديوان جسدا نصيا واحدا انشطر بفعل تصادم الشاعر اليومي مع الوجود، لانه لا يطمئن لفكرة إلا ليوقظ إحساسه بالفقدان، وهو يبدع توازنه من اهتزازات وجراحات الوجود، لذا اقتربت نصوصه من بنية درامية تستخدم الإحالات الرمزية والأسطورية في توسيع أفقها بتعددية تأويلية بطريقة جعلت خطابها الشعري يعانق رياح الحداثة الشعرية بامتياز.

         

الهوامش والإحالات :

*    عبد السلام الموساوي : " سقوف المجاز" – الطبعة الأولى 1999- دار النشر المغربية – الدار البيضاء

(1)  شعيب حليفي : " التحليل الاستكشافي .." الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي –ع 110 مارس 96- ص:7.

(2)  عبد العزيز البومسهولي : " الشعر- المعرفة- القصيدة " – الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي – ع 450 بتاريخ 02 فبراير 96-ص :4.

(3)  عبد القاهر الجر جاني : " أسرار البلاغة " تح محمد رشيد رضا- دار الفكر – دون تاريخ – ص : 304.

(4)  علي آيت أوشن : " المرجعي والشعري .. " الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي – ع 448 بتاريخ 19 يناير 96- ص : 6.

(5)  د.محمد العمري : " تحليل الخطاب الشعري – البنية الصوتية في الشعر : الكثافة – الفضاء- التفاعل "- الدار العالمية للكتاب – الطبعة 1- 1990 – الدار البيضاء – ص : 278.

(6)  محمد العمري " المرجع نفسه " – ص : 295.