حلم الكلمات .. نحو هوية أنثوية للغة
حلم الكلمات .. نحو هوية أنثوية للغة
د. محمد سالم سعد الله
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية
يمثل النص الشعريّ منطلقات مهمة في تحديد هوية اللغة التي ستحمل بصمات دلالية تعلن عن توجهها ، وتنبئ عن صيغ تشكلها ، وتمتاز هذه اللغة بفرادتها ، وتمثلها لغائية الرؤية ابتداء من شعرية الكلمة وانتهاء بشعرية النص ، وتُفتتح هاتان الشعريتان من خلال العنوان الذي يمثل ثيمة علامية للولوج إلى النص .
ديوان ( حلم الكلمات ) للشاعرة ( الآء عبد الواحد ذنون ) محاولة جريئة للسفر إلى خارج متاهات اللغة للوصول إلى بناء شخصية دلالية لا تلجأ إلى الاجترار ، ولا تركن إلى الجاهز ، إنه مشروع فتيّ يريد تأسيس كلمة أنثوية موظفة تكتب بعين أنوية إنسانية ، تعكس حلم المرأة وواقعها ، وتبين هموم الجسد وتطلعاته ، التي طالما غابت أو غُيبت عن مساحة الجسد المقدس نظراً لوجود الرقيب الذي منع حرية الكلمة كي تجسد صورتها ، وتقدم إمكانياتها التي لا تقل أهمية عن منتوج الآخر .
تتمثل خصيصة ( حلم الكلمات ) بثيمتين : الأولى ثيمة الحبّ ، والثانية ثيمة الحرب ، وقد دخلت هاتان الثيمتان في جدلية نصية انبثقت عنها تلك العنوانات المتعددة في هذا الديون ، وتعكس هاتان الثيمتان التراجيديا النفسية التي نسجت النص الشعريّ ، ووقفة متأنية للعنوانات الأثنتين والأربعين الواردة في هذا الديون تعكس هذا التصور ، فضلاً عن أن الضمير الذي يحكم تلك العنوانات هو ضمير المخاطب الموجه نحو ( الذكر ) الذي حُمِّلَ تركات تجربة ( الأنا ) الأنثوية الهائمة بين توجهين : توجه الإعلاء من سطوة التحيز نحو ( الأنثى ) ، وتوجه الحنين لاكتساب الآخر ( المذكر ) ، ويعلن هذا التوجه عن رغبته انطلاقاً من ( الإهداء ) الذي رسم حنين العبير الأنثوي إلى تطلعات الذكر الغائب أو المتغيب ، وقد ولدت القصيدة الأولى للديوان لتبيّن حنين الأنثى الذي تحول إلى أداة للانتقام ولممارسة ردة الفعل ، وهذا الفعل لا يمثل الكره بقدر تمثله للعشق وللاشتياق :
لو كان بيدي ..
لصنعت بحراً وهيجت موجاً
وأبحرت في عينيك دون قيود
ورغم محاولة النص بناء لغة أنثوية متعالية انطلاقاً من فرادتها إلاّ أنها لم تستطع أن تنزع عنها عصوراً خلت من الإرث اللغوي الأنثوي الذي يتسم بتبعيته للذكورة وعدم قدرته الانفصام عنها ، فـ( الأنثى ، والذكر ، والرقيب ) ثلاثية تسكن ( حلم الكلمات ) ، وتقابلها ثلاثية : ( الحبّ ، والحرب ، والحلم ) ، الأنثى تقدم الحبّ وتخلص له وتفرش عينيها للآخر وتنساب عبيراً وللآلئ من أجل ذلك :
حين أكون معك
يندي الفجر قلبي
وتنساب في روحي الحياة
ويتسم ( الذكر ) بالنسيان والهجر وجرح الحبيب وطلب الرحيل ، وتقود كلّ تلك المعاني إلى لجوء الأنثى لتحويل الحبّ إلى حرب ، وتحويل الفعل إلى ردة الفعل :
مسكينة تظن بأن هذا الحبّ باقٍ
وتتخذ السبيلا
من الحزن متعةً
ومن العذاب وسيلة
والصبر سواح في سماها
وقمر الليالي
للحبيب بديلا
أما الرقيب فيمثل سلطة متعالية ، وإلهاً وهمياً يحاكم الكلمة قبل النطق بها ، ويمارس طقوسه في معابد مظلمة لا تعرف تديناً ، ولا تبني أملاً ، ويقود هذا الرقيب اللغة إلى التقنع مرة ، ومغادرة الواقع مرة أخرى لتسكن في فضاءات الحلم الذي يمثل هروباً من أجل تحقيق الأمنيات ، وعالماً لإعادة توازن اللغة المقنعة :
باسم الحلم تسرق بسماتنا
وتعتقل الأيام ويسلوها الزمن
حكاية أبجدية الحياة
وفي غورها قلوب مترعة بالحزن
على شاطئ الصبر
تتمرغ الكلمات فوق المواجع
وتدق أجراس الوهن
قد تلجأ ( الكلمة ) إلى إخفاء قصدها ، وتعويضه ببديلٍ حلميّ لتبرير حبّها ، وقد تصل إلى طريق مجهول ، فتعمد إلى إعلان مدلولاتها وتنساب وسط الحنين ، لكنها تبقى مكتسبةً سمة طفولية تنفتح حباً ، وتشرق زهراً ، وتتوعد بإيصال غرضها إلى كلّ المحبين الذين جاشت المعاني في قلوبهم ، وتدفقت نسائم وياسمين مُشكّلةً حركة وحيوية تؤمن بنقاء المشاعر ، وتلجأ إلى مغازلة العينين اللتين تكتنز حنيناً يخشى الظهور ، ويمارس استحياءً لعبة اختلاس المعاني ، هذه هي تجربة ( حلم الكلمات ) الذي قدّم لحناً شجياً أطرب القلوب ، ورسم الأمل ، وأعلى من قيمة ( الأنا ) التي تحتاج إلى بيان منزلتها ، وتحويل حلم كلماتها إلى واقع من نرجس يُعطِر شذى الآخر .