السيرورة في الشعر الإسلامي الحديث (3)
السيرورة
في الشعر الإسلامي الحديث (3)
الشاعر وليد الأعظمي نموذجاً
بقلم: محمد الحسناوي
بنية القصيدة
من الناحية الشكلية يصنف شعر الأعظمي في الاتباعية الحديثة (مدرسة شوقي وحافظ والرصافي) أي الذين يعتمدون على (وحدة البيت)، شأن الشعراء العرب القدامى، لكن القصيدة العربية، منذ حملة العقاد والمازني على شوقي ولأسباب أخرى، أخذت تنحو منحى آخر نحو التماسك والوحدة (الموضوعية) فالوحدة (العضوية)، فتخلص الشعر العربي من المقدمات الفضفاضة، وبرز الموضوع الواحد في القصيدة الواحدة، كل هذا نلمسه واضحاً في شعر الأعظمي، ونلمس شيئاً آخر هو ظهور تماسك الوحدات الداخلية في القصيدة أيضاً كالمطلع والخاتمة، فالمطلع لم يعد بيتاً واحداً من الشعر ولا الخاتمة، بل أصبح كل منهما على الأغلب مقطعاً شعرياً من ثلاثة أبيات إلى سبعة أو عشرة، وهكذا الخاتمة.
وقل مثل ذلك على الموضوع الأساس للقصيدة (الذي هو بين المطلع والخاتمة). وبصرف النظر عن عناية القدامى ببراعة الاستهلال في المطالع وحسن الختام، فإن شاعرنا تفوق، لأمور معظمها تخصه هو بذاته.. أقول تفوق في الفواتح والخواتيم. فلنتناول قصيدة "حمامة السلام" بشيء من التحليل: (أغاني: 92 - 95)
رفرفي فوقَ القبورِ وعلى الأشـلاءِ طيري
واهتِفي بالموت كي تحيا شعاراتُ النَّـصيرِ
وارقُصي فوقَ خُدودٍ وعـيـونِ ونُـحـورِ
واجعلي وَكْرَكِ فوق الحبلِ في عُنْقِ الجَريرِ
هذا هو مطلع القصيدة مؤلف من أربعة أبيات تتماسك بفكرة واحدة، حيث يطلب الشاعر من الحمامة (رمز السلام) الحومان فوق جثث الضحايا، مستخدماً صيغة الأمر في بدايات الأبيات وحرف العطف، و(الطباق بين الموت والحياة) إحدى وسائل الشاعر البديعية الناجحة في التهكم. بعد ذلك يأتي بيت شعر يجعله مثل اللازمة في عرضه لتفاصيل التنكيل:
إيهِ ذاتَ الطَّوقِ هل فكّـ ــرتِ في هذا المصيرِ؟
ومن تفاصيل المجزرة العدوان على شيخ ضرير:
هل سمعتِ حشرجاتِ المـ ـوتِ من شيخ ضَريرِ
ساقُـه اليمـنى تًـدلَّـت واعتلتْ أعـوادَ نُـورِ
وهـو مُـلقى يـلطعُ القا رَ بِـذيـاكَ الهـجيرِ
ثم العدوان على طفل صغير:
هل سمعتِ صَرَخاتِ الـ ـطِفل من أعماقِ بيرِ
إذ يُنـاغيكِ اشرَبي من دَميَ الزَّاكي الطَهورِ
واستعيضي عن صَفيري بِشهيقـي وزَفيري
بصُـراخـي وعَـويلي بـدُعائي وشخيري
إنها صور تهكمية مأساوية، قبل التعليق عليها تليق إعادة اللازمة:
إيهِ ذاتَ الطوقِ هل فكَّـ ـرتِ في هذا المصيرِ؟
واللازمة نوع من التكرار الملائم للنواح:
أيُّ ذنـبٍ قـد بدا من ذلك الطفل الصَغير؟
فطمتْه كفُّ أعمى القلبِ متـلوفِ الضـميرِ
ويلائمه كذلك دفعة متتابعة من الصيغ والمترادفات المكررة:
حاقدٍ كالصِلِّ كالعقـ ــرَبِ كالكلبِ العَقورِ
ساقِـطِ الهمَّة جـانٍ خاسئِ الطَرفِ حَسيرِ
لا تقل: (خاسئ الطرف حسير) مفردات قرآنية وحسب، بل قل: إن الشاعر وظفها مع غيرها في تأجيج العواطف بتكرار متصاعد إلى القمة.
ينتقل الشاعر في مقطع تالٍ لمخاطبة القتلة مباشرة:
يا دُعاةَ الغدرِ والفوضى ويـا أهـلَ الغُـرورِ
يا رؤوسَ الفِتنةِ العمياءِ والجُـرمِ الـخطيـرِ
قد بَرئنا مـن "سـلامٍ" يـتلـظى كـالسعيرِ
يا رفاقَ السوء والخِسةِ أعــداءَ الـفـقيرِ
لا يريد الضُرَّ بـالناس سـوى النَذْل الحقيرِ
وقد كرّر صيغة النداء أربع مرات في ستة أبيات، أما في المقطع التالي المؤلف من ثمانية أبيات، فينتقل إلى مخاطبة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ليشنَ حرباً شعواء على القتلة مستخدماً تكرار حرف العطف (واو) في بدايات الأبيات تصعيداً للغضبة، وتصويراً للانطلاق المتتابع، مع تكرار صيغة أفعال الماضي تأكيداً لتحقق الفعل:
يــا رسـولَ اللهِ إنّـا قـد بـدأنـا بـالمسيرِ
وانطلقنا كشعاعِ الشــ ــمسِ في الصُبحِ المُنيرِ
فمحَونا ظـلماتِ البــ ــغي والظُّـلمِ المـثيرِ
ورفعنا رايةَ الإســـ ــلام تسمو في الأثيرِ
واعـتليـنا قـمّةَ المجدِ بـعـزمٍ كـالنُّسـورِ
وصرخنا في وجوهِ الخـ ـصمِ كالليثِ الهصورِ
كهـزيمِ الـرَّعدِ في ليلٍ دجـوجـيٍّ مَـطيـر
كاندفاعِ السّيل كالبُركانِ كـالـريـح الـدَّبورِ
مرة أخرى يختم هذا المقطع، كما ختم مقطعاً سابقاً بسلسلة من تكرار المفردات بغير عطف، وبمعان متصاعدة من الرعد إلى السيل إلى البركان إلى الريح الدّبور.. كتتابع طلقات نارية.
بعد ذلك ينتقل الشاعر إلى مخاطبة الحمامة نفسها مستذكراً حمامة العالم (ابن سينا) التي جعلها رمزاً للنفس البشرية، ويعمد الأعظمي بنجاح إلى تحليل النفس، ليقول إن الشرّ والخير في هذه النفس: "ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورَها وتقواها"، وإن العلاج أولاً وأخيراً في النفس الإنسانية:
إيهِ يا ورقاءُ لا راعَكِ "بـومٌ" في الـوُكـورِ
بنعـيبِ يُحزنُ النفسَ ويـدعـو للـثُبـورِ
إيـهِ يـا ورقاءُ لو يد ري "ابنُ" سينا بالأمورِ
لمضى يهتكُ بالعَـين غِشـاواتِ الـسُتـورِ
فيكِ يا نفسُ غُمـوض لـم يـفصّلْ بالسطورِ
أنتِ سرُّ الله في الخلقِ ومـقـياسُ الشُعـورِ
أنتِ معنى مـن معاني اللهِ فـي الكونِ الكبيرِ
ولعلك لاحظت معي مدى مناسبة تكراره هنا لصيغة النداء (يا ورقاء)، كما كرر نداء القتلة في مقطع سابق، وكرر أيضاً الضمير (أنتِ.. أنتِ) للتوكيد والتوضيح. أما تشبيه العدو بالبوم فهو سخرية ناجحة وطباق للحمامة ملاءمة ما بعدها من ملاءمة.
الآن جاء دور الخاتمة تعقيباً على الحدث المأساة، وعلاجاً باجتثاث الشر من جذوره، بعد أن عرفنا أن الخير والشر في النفس الإنسانية، وخير علاج هو الإيمان بالله وذلك في التصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة:
إنَّ نفساً َتحمِلُ الإيمانَ بـاللهِ القديرِ
تعرفُ الخيرَ وتستلهمُ آياتِ السُرورِ
وتُضيءُ الأفُقَ الرَّحبَ بهالاتِ ونورِ
وتُـحيل الكونَ بسَّاماً كرقراقِ الغَديرِ
وهنا عاد إلى استخدام تكرار الصيغ: الفعل المضارع في بداية الأبيات وحرف العطف معها، مما يجعل المقطع الأخير لا البيت الأخير وحدة متماسكة تدور حول فكرة واحدة: خاتمة قوية.
لا حاجة للتذكير برمز الحمامة لدى من يسمون أنفسهم أنصار السلام، ولا رمزها في الخيال الشعبي والتراث الأدبي العربي منذ زرقاء اليمامة، إلى أبي فراس الحمداني:
أقولُ وقد ناحتْ بقربي حمامةٌ أيا جارتا لو تعلمينَ بحالي
كل ذلك تمَّ توظيفه بشكل مباشر، أو غير مباشر، وأروع الفن ما كان إيحاءً غير مباشر. وهكذا كانت حمامة الأعظمي حصيلة لزرقاء اليمامة وأبي فراس وابن سينا وأنصار السلام، مع تفاوت واختلاف في الهدف وفي الطعم بين كل وكل.
كيف تأتّى مثل هذا وغيره من النكت والفتوح الفنية للشاعر؟
لقد عني النقد الأدبي قديماً وحديثاً أكثر ما عني بعلاقة الشاعر بموضوعه، وبمدى صدق العاطفة لديه، وقلما توجه النقد بعمق إلى علاقة الشاعر بجمهوره أو قارئه. بل هناك من شجع على احتقار الجمهور أو إلغائه صرخة من صرخات (الحداثة). هذه العلاقة لا تقل أهمية عن علاقته بموضوعه. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى درج النقد والنقاد على أطروحة مفادها أن الشاعر أصدق ما يكون حين يعالج موضوعاً شخصياً ذاتياً، أما معالجته للموضوعات الجماعية فأحرى أن تصنف في أنواع الدعاية والتكلف أو الفتور العاطفي، ونسوا أن هناك نوعاً من البشر يمكن أن يضحوا بأرواحهم في سبيل المبدأ أو القضية الجماعية التي يؤمنون بها، وإذا كان هذا شأناً استثنائياً لدى قلة من البشر كالمجاهدين، فالشاعر الأعظمي هو من القلة القليلة: (أغاني: 109)
نحنُ يا ريكانُ لم نسلكْ طريقَ الشعراءِ
نحن لا نـنطِقُ بالكذبْ ابتـغاءً للعطاءِ
نحـنُ جـند اللهِ آمنّا بـخيرِ الأنـبياءِ
فلنا ذكرٌ على الأرض وذكرٌ في السماءِ
قـادَني القرآنُ للمجدِ وهـزتْني عِظاتُه
وبهـذا العـالمِ الـواسعِ دوّتْ كلماتُهْ
كان الشعر بالنسبة لوليد الأعظمي أكثر من الحلية أو المتاع، كان جزءاً من كيانه المشتبك بكيان الإسلام والمسلمين اشتباكاً والتحاماً مصيريين، فهو حين ينظم قصيدة أو يلقيها لا يشعر بخصوصيته، بل يذوب في جمهوره، ويتحسس آماله وآلامه، ويعزف على هذه الأوتار ببراعة الشعراء الحقيقيين الذين كانوا يلقون أشعارهم موقعة على الربابة وبشكل منغوم. هناك حالات قليلة يندغم فيها الشاعر بقارئه أو جمهوره اندغاماً كاملاً، وهي حالة الشاعر وليد الأعظمي، وهذا هو مفتاح السر في السيرورة التي أتيحت له دون كثيرين غيره في عصره.
ـ انتهى ـ