صورة الشهيد في ديوان عز الدين المناصرة
صورة الشهيد في
ديوان عز الدين المناصرة
د. عمر عبد الهادي عتيق
مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة
فلسطين جنين
يشكل الشاعر من صورة الشهيد باجس أبو عطوان لوحات وجدانية تفيض عشقا بين الإنسان والأرض ، فيرسمه طفلا محبا لبراءة الأرض وفطرية التراب :
كان طفلا بريئا يحب الزراعة في التربة البكر
يكره ريح السموم
....
كان طفلا ،
يقلّم عنق العدو ليزرع في السفح حاكورة من عنب
لا تخفى بنية التوافق بين براءة الطفولة وبراءة التراب ( الأرض ) من خلال البناء اللغوي الذي يشتمل على صفتين متوافقتين متناغمتين في قوله : ( طفلا بريئا و التربة البكر ) ، فالعلاقة بين براءة الطفولة وبكارة التربة هي علاقة متناغمة تفضي الى عشق الإنسان لأحضان أرضه ، كما لا تخفى بنية التضاد بين حب الأرض في قوله : ( يحب الزراعة ... ) وكراهية المنفى في قوله : ( يكره ريح السموم ) ، وقد نهضت بنية التضاد بدور وظيفي مائز يتمثل بتعزيز الدلالة المحورية ( عشق الإنسان للأرض ) وذلك انطلاقا من ان الدلالة المحورية يزداد تألقها بحضور الدلالة الضدية .
وتبرز بنية تضاد ثانية بين الفعلين ( يقلم و يزرع ) ، فالتقليم في دلالته المعجمية قطع للأغصان وفي دلالته الاستعارية قتل للأعداء وبين القطع والقتل تناغم دلالي ، والزراعة تقابل التقليم وفي الدلالة الاستعارية تفيد اخضرار الأرض وتحريرها ، والشهيد حينما يقلم رؤوس الأعداء ليزرع الأرض عنبا فهو يتفاعل مع حب الأرض ويمارس طقوس العشق للنضال .
والشاعر في المقطع السابق يصور معادلة إنسانية فطرية وعفوية تجسد العلاقة الوجدانية بين الإنسان والأرض من خلال التناظر والتقابل .
ويستمر البناء التناظري والتقابلي في تجسيد العلاقة الوجدانية بين الشهيد والأرض ، فها هو الشهيد باجس أبو عطوان يحاور صخور الأرض فتجيبه الصخور ، فينبجس بل يتفجر منها صدى الاستجابة :
باجس ما زال يحاور صخر الوعر ، فتنبجس الأصوات
يتغزل بالدالية المغرورة ، يتمختر في الطرقات
ماذا يمكن ان نسمي المحاورة والاستجابة بين الشهيد وصخور الأرض ؟ أليست توحدا وانصهارا وعشقا ؟ ولا يكتفي الشاعر بهذه الإثارة التصويرية ، فقد أضاف إثارة لغوية من خلال بنية التجانس بين اسم الشهيد ( باجس) المحاور لصخور الأرض ، والفعل ( تنبجس ) ، وكأن العلاقة بين الشهيد والأرض متجانسة متناغمة الى مستوى التجانس اللفظي بين الاسم والفعل الذي يمثل من الناحية اللغوية الاشتقاقية علاقة الأصل بالفرع وهذه العلاقة الأخيرة هي علاقة توليد وتناسل ، فإذا كانت الأرض هي الأصل الرحم الأم ، فان الشهيد باجس هو الفرع المولود الابن .
ثم لنتأمل ظلال القداسة التي أضفاها الشاعر على عشق الشهيد للأرض من خلال التناص القرآني ، وذلك أن معنى الانبجاس هو خروج الماء من الصخر او الأرض ، فحوار الشهيد لصخور الأرض وانبجاس الأصوات يحيلنا الى قوله تعالى : ((أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنا)) الأعراف 160، ثم لنتأمل الصيغ اللغوية الدالة على ديمومة العلاقة الوجدانية في قوله : ( مازال ، يحاور، فتنبجس ) ، إذ إن العلاقة لا تنتهي باستشهاده ، فنهاية باجس بداية لعلاقات عشق لا تنتهي بين الإنسان والأرض .
وإذا كانت علاقة العشق بين الشهيد وصخور الأرض في السطر الأول قد أنجبت خصوبة ومناجاة واستجابة فمن البدهي ان تتحول الاستجابة الى مغازلة في السطر الثاني ، والغزل بالدالية الأرض الوطن يستدعي دلالات الخضرة والنضارة والنكهة والمذاق- وهي دلالات تنبثق من ( الدالية ) وهذه هي مسوغات نعت الدالية بالغرور – وتفضي هذه الدلالات الى تحول العشق الى متعة ونشوة بسبب فاعلية اللون والنكهة والمذاق . وما دام الشهيد قد بلغ ذروة النشوة فمن البدهي ان يمشي متبخترا في الطرقات ، والتبختر هنا بريء من الزهو والغرور والتكبر لأنه انعكاس للشعور بالرضا والثقة والتوحد مع الأرض .
وفي مقطع آخر من القصيدة ذاتها يشدو الشاعر:
سأزور القبر ، قرنفلة حمراء سألقيها
هذا وعد كل قرانا ومدينتنا تخرج في العيد
لتزورك حين تطل عصافير الفجر
يشرع المناصرة في هذه السطور بملامسة العلاقة الوجدانية بينه وبين الشهيد من جهة ، وبين الشهيد والسياق الاجتماعي من جهة أخرى . ويستوقفنا في الاستهلال صوت السين في قوله : ( سأزور، سألقيها ) قرينة الدلالة على المستقبل التي توحي بخلود الذكرى وعبير الوفاء اللذين يجسدان حبا موصولا وعشقا أزليا ، ويضيف الشاعر لدلالة السين تأكيدا على التواصل الروحاني من خلال الجملة الاسمية ( هذا وعد ) ، وتحمل الجملة على عاتقها التشبث بحق العودة، وبخاصة عودة الشاعر الذي اكتوى بلهيب المنافي .
وعلام يدل اللون الأحمر في قوله : ( قرنفلة حمراء ) ؟ هل تقتصر الدلالة على السياق الرمزي المألوف حينما يُهدى الورد الأحمر للحبيب أم تقفز الدلالة عن المألوف لتعبر عن لون دم الشهيد الأحمر بذاته ،الأخضر في الأرض والذاكرة ؟ ولماذا اختار الشاعر الفعل ( سألقيها ) بدلا من الفعل المناظر ( سأضعها ) ؟ هل تنهض البدائل اللغوية في إثراء الدلالة ؟
إن دلالة إلقاء القرنفلة الحمراء تحوي في حناياها مزيجا مركبا من الإيحاءات الدلالية ، فالإلقاء يحمل تحية الإجلال والتعظيم والتبجيل في حين أن دلالة الوضع تخلو من هذه الدلالات . وما يحمله فعل الإلقاء ينهض بجلال الموقف ورهبة المقام وشفافية العشق بين الشاعر والشهيد .
ويستحضر الشاعر تجليات الأعراف والتقاليد الفلسطينية في باكورة يوم العيد ، إذ تسري الجموع الغفيرة لزيارة أضرحة الشهداء حبا ووفاء وتواصلا مع الشهداء . ويتبدى لنا أن زيارة المحبة والوفاء تتوزع على سياقي الغياب والحضور ، غياب الزيارة الموعودة من الشاعر ، وحضور الزيارة المحققة فجر يوم العيد ، وهكذا يبقى سياق العشق والوفاء للشهيد جسرا بين الغياب والحضور او بين المنفى والوطن .
وعلى الرغم من ان زيارة القبور يغلفها الصمت والسكون والخشوع إلا أن الشاعر حرص على تهيئة احتفال عشق للشهادة من خلال توافر عناصر اللون والحركة والصوت.