أسلوبية المعاناة والتهميش فى شعر النوبى

د. مصطفى محمد أبو طاحون

من عتبته الرئيسة (واحد..!!!) تدهشك شاعريةُ المبدع محمد الطنوبى ، فعنوان الديوان ، والذى صدر عن سلسلة إبداع الحرية برقم (57) يثير تساؤلاً شعرياً فى محاولة للتعرف على مقاصد الشاعر من عنوانه ، ويكشف عن شيءٍ من هذه المقاصد ، ربط العنوان بقصائد الديوان ، وهو يحكى عن طائفة من المُهَمَّشِين فى دنيا الوطن ، لكل طائفةٍ منهم قصيدةٌ أجراها ببراعة وصدق وخبرة واضحة على لسان واحد من الطائفة . وعنوانات قصائده تحكى عن : "عامل المشرحة ، المحولجى ، عسكرى الأمن المركزى ، حاجب المحكمة ، وعريف الكتاب ، وغفير الدورية ، مبيض النحاس ، قصاص الحمير ، والعشماوى ، خولى الأنفار ، البلطجى ، المراكبى ، الفلاح ، الشيال ، وأخيراً صبى القهوة" ، خمس عشرة قصيدة ، يمكن أن يجمعها قسمان ، أحدهما مكافح يجاهد الحياة ليطعم من حلال ، ويكفى نفسه مذلة السؤال ، ويضم أغلب القصائد ، وثانيهما يستقطب الثلاثة النصوص : (العشماوى ، البلطجى ، صبى القهوة) وهى طائفة لئن جمعها بالأولى مجاهدة الحياة ، وقسوتها عليها ، وباستثناء (العشماوى) فالآخران مرذولان غير مقبولين اجتماعياً من الوجهة السلوكية ، وهو الأمر الذى توافق مع عرض المبدع الطنوبى لهما ، ففى حين استطاع بمهارة وإبداع وصدق أن يصنع تعاطفاً حميمياً مع أصحاب الطائفة الأولى ، التى تحيا حياة البؤس ، وشظف العيش ، والقهر ، والضعف ، والاستضعاف فى مجتمع قاس غير ملتفت لواجباته نحو الضعيف المحروم ، فإنه بالمقابل سرَّبَ بمهارة تكشف عن موقف أخلاقى قيميٍّ إيجابيٍّ إلى المتلقى ما يقنعه وجدانياً بشين مسلك ، كلا البلطجى وصبى القهوة....

   أما أول ما يكشف عنه الديوان من عنوانه ، فتجسيد الوحدة التى تعنى؛ الضعف والبؤس بمقابل قسوة الآخر تجاهه ، المجتمع والمدير والظروف . إن هذا التجسيد لملمح الوحدة ، والانفراد فى مواجهة الحرمان والقهر ، يُحسب للشاعر ، ويُمدح له اختيارُ العنوان الدال المتوافق تماماً مع محتوى الديوان. وقد أحسن الشاعر محمد الطنوبى إشعارنا بهذه الوحدة المرَّةِ فى أكثر من موضع .. يعبر عن حالة (عسكرى الأمن المركزى) بمفارقة أسلوبية تستند على تكرار اللفظ وتضاد المعنى ، فيقول وفى الوحدة (29) (وأكثر ما يقول الطنوبى صاغه على لسان الحرفى المهمش):

باحس بوحدتى دايماً.

   ويقول (غفير الدورية) (42) "على سبيل المجاز طبعاً ، فكل ما سيقال من إبداع الطنوبى على ألسنة شخوص ديوانه المهمشين.. المهشَّمين" :

من قد إيه

والصمت ساكن وحدتى

وأنا اللى دايماً رحلتى..

ملهاش رفيق.

وحيد ودبة خطوتى

فوق التراب / فوق الطريق

ملهاش صدى.

  وقد استتبع هذا الإحساس بالوحدة.. المرة ، أن ترسخت لا مبالاة بالآخر ، فصار ذاهلاً عما حوله ، لا يزعجه دمارٌ ، وفى لغة تجسد استحالة الانشغال بالآخر من لدن المهمشين.. الواحديين.. يقول (قصاص الحمير)(59):

وأنا مالى

ولو فى الصحرا قام فيضان

أنا فى حالى

أنا همى يا افندينا

أجيب اللقمة لعيالى!

  إنها الأنانية ، والانشغال بالذات عن الآخر ، ولئن قُبل هذا من المهمشين ، فما فعلاه إلا ردَّ فعلٍ طبيعياً على سلوك المجتمع معهم ، فليس من المقبول هذا الخلقان الرذيلان ، اللذان إذا ما ترسخا بمجتمعٍ تحلَّلَ ، وتفكك ، وتأججت بين طوائفه صراعاتٌ نفسية.. مكتومة إلى حينٍ ، متضرمة عاجلاً أو آجلاً. ويكشف المقطع الأخير عن سلبية الجهل ، واضطرار من يعانى الحرمان إليها!

    ثانى ما يجسده الديوان ، هو أن الطنوبى فى شعره يجمع بين الإيمان والفكر ، الأمر الذى يجعله على مستوى الإبداع والذات كليهما متوازناً منصفاً ، يجمع العقل إلى النقل ، وشئون المادة إلى متطلبات الروح.. بدا هذا التوازنُ الجامع بين الإيمان والفكر مبكراً بالديوان فى إهدائه حين بدا فيه الطنوبى شاعراً يُعمل عقله ، وكأنه شاعر فكرة من أتباع المعرى أو المتنبى.

   وفى قصيدته عن (عريف كتاب 36) يعرض والسياق مناسب تماماً لهذه الثنائية الإيجابية فيقول:

الإيمان والفكر زان

النفس والروح اتزان

وتقوى.. تقدر ع الزمان

وهادينا / مهيمن.. سبِّبْ الأسباب.

وخالق كونه ده بحساب.

   إن حضور البعد الإيمانى والفكر بديوان (واحد) للطنوبى بارز ، وأحياناً ما تطور الجانب الفكرى إلى منحى فلسفى ، لا يعبر عن الشخصية ، بقدر ما يعبر عن الذات المبدعة ، على نحو ما ورد فى (عشماوى 62) إذ يجرى الطنوبى على لسانه ، وبلغة ترقى كثيراً عن مستوى ثقافة العشماوى ، إذ يقول كاشفاً عن مفهوم محورى لنظام العقاب الإنسانى وبمفارقة بديعة:

وصلى معايا ع الهادى

يموت الجانى.. دى ولادة..

لنور الحق/ يعنى حياة

فعمرى قلبى مرة ما رقّْ

  ويتصل بحضور هذا البعد الإيمانى بالديوان ، تقدير الشاعر لخطورة الكلمة ، وقيمتها ، الأمر الذى يرقى بشعره إلى الشعر الرسالىِّ ، الذى يقصد إلى الخير والرفاهية والعدل والحرية ، يقول فى (عريف كتاب 39) بعد حديثه عن سورة الرحمن:

وف سورة ثانية فيه قسم..

للمولى بسطور القلم

إكتب على لوح اردواز

واحفظ كلامك يحفظك

الكلمة زى المطرقة..

  أما تطور الجانب الفكرى وتمركزه بالديوان ، فأحياناً ما عرض الطنوبى من خلاله لملمحٍ وطنى ، على نحو فكرىٍّ راقٍ ، وبلغة دالَّةٍ.. نعم ترقى فوق مستوى فكر (خولى أنفار72) لكن الطنوبى أحسن حين وظف لغة السياسة وثيقة الصلة بمنتج زراعى للخولى به صلة وثيقة ، أعنى الخيار ، إذ يقول الطنوبى على لسانه وبذكاء إبداعى مستكن أصيل:

المهم إن السلام هوه الخيارْ

والخيار هوه القرار

لو مخرَّط جنب سلطة

يبقى جار

أو مخلل ويَّا شطة

يبقى نار

    إنه ذكاء الشاعر الرسالى .. الذى يمكنه أن يعرض لأعقد المسائل الشائكة ببساطة المبدعين ، ومهارة الموهوبين ، وشجاعة الوطنيين. إن جدية المعنى عبر سخرية المبنى تقف شاهدة هنا على نضج المبدع وسمو رؤيته ورؤاه معاً.

   رابع ما يبتدى من (واحد..!!!) للطنوبى ، وعيُهُ التام ، وإشاراته المتعددة إلى اختلاف الناس فيما يتعلق بقيمهم  وأقدارهم وجواهرهم فى الحياة ، فالناس ببساطة معادن (82) وحظوظهم من الدنيا متفاوتة.. يقول فى (شيال95) عبر مفارقية لغوية تعتمد المقابلة:

فى ناس م الراحة بتعاني

وناس فى الدنيا شخليلة

  والمقابلة هنا تعمل على مستويين ، أحدهما بين صنفى الناس اللذين يمثلها البيتان ، وهما المنعَّمون ، والأشقياء ، وثانيهما على مستوى البيت الأول وحده ، بين الاسم (الراحة) والفعل (بتعانى) الذى جسَّدَ مدى هذه الراحة التى بلغت حد المعاناة منها لطولها ودعوِتها.

   والطنوبى فى شعر مبدع منحاز إلى القيم النبيلة ، فهو يكره المتسلقين ، الخانعين السلبيين ، ويحب المكافحين الكادحين الشرفاء ، يكشف عن هذا الانحياز فى واحدة من روائع ديوانه (فلاح 86، 91) عبر تقنية لم تتكرر بذات الإجراء أبداً بالديوان إلا هنا ، أعنى تقنية تكرير مقطع بكامل بأبياته الثمانية بمفتتح النص ونهايته ، كما هو كاشفاً عن هذا الموقف ، يقول:

كثير عايشين / كما اللبلاب

وبزياده

كثير خانعين / حياه ساده

وفيه عايشنها بالمظبوط

ده فيه مبسوط

برغم إن الشقا عاده.

  وقد بدا واضحاً بالديوان ولطبيعة أشخاصه.. الحرفيين فى أغلبهم ، حضور الرجل دون المرأة وهو أمر منطقى.. طبعى ، لكن الحضور الوحيد للمرأة بالديوان كان متميزاً وباهراً ، يكشف عن تقدير ضمنى من المبدع للمرأة ، وعن قناعة أصيلة بدور المرأة المصرية فى رعاية الأسرة والزوج.. ففى (فلاح88) يثنى على مشاركة المرأة الرجلَ معاناتِه وهمومَهُ ، خاصة بالأوساط البسيطة جداً كالمهمشين.. وربما الراقية جداً من الصفوة ، يقول بلغة راقية أقرب إلى الرومانسية:

رِفيقة الدرب

متصاحبة مع الدنيا

ومتصالحة مع روحها

تداوى الجرح.. لو تهمسْ

ربابة تغنى وقت الفرْحْ

رقوبه للفراخ تفقس

تلمّْ الطرح.. فى الطرحه

تدرِّس للعيال.. فى الدار

تجينى الجرن.. بـ"غدايا"

تساعدنى وأنا بادْرِسْ

عشان ما تريَّح الشقيان

تلم الهم جوايا.

   واللوحة واقعية جميلة ، فيما عدا (تدرس للعيال..!!) لكنها لوحة راقية ، منصفة لزوج الفلاح ، المتوافقة مع آلامها وواقعها المرهق.. فهى (متصاحبه.. ومتصالحه) عبر تجنيس صوتى يدعم التوافق النفسى أو يقرره ، ويجسده ، والملمح الموسيقى بالمقطع عامر بمظانِّ تدعيم الإيقاع عبر التكرير الجميل كما فى (تلم الطرح.. فى الطرحة) ، ومن مظاهر رومانسية التعبير بالمقطع: (تداوى الجرح.. لو تهمس ، / ربابة تغنى وقت الفرح) إنها فى انشغال زوجها ، له حيث يحب ، داعمة ، ومنتجة ، إنها مصدر الهناء والراحة ، كما عبر بنهاية المقطع فى صورة جد عميقة ومعبرة:

عشان ما تريح الشقيان

تلم الهم جوايا.

(2)

  وقد جسد الطنوبى بديوانه (واحد..!!!) المعاناة والتهميش اللذين يحياهما المهمشون ، من شخصيات ديوانه ، إن براعة الطنوبى فى تجسيد معاناة شخوصه المتعبة ، تستجلب آهاتِ الألم ودموع الأعين الراثية لحالهم ، فهم الموجوعون.. الجائعون ، يعرف بمعاناة (عامل مشرحة18) فيقول:

ومين فى الدينا دى مرتاح؟

وأنا اللى مقضى أيامى

ألفّْ الوقت فى الأكفان..

وساكن جوه منى هوان

مكفينى.. وباقى كمان

يكفينى عشر مرات

كأنه ويَّا تكوينى

نَشَعْ فى جدار

   إنهم من يعانى فى مسكنه ومطعمه وحريته ، أما سكنهم أو سكن بعضهم فالبدروم ، يقول (حاجب محكمة 33):

ساكن أنا بدروم

علمنى صمتى أصوم

  إن الله حينما امتنَّ على القرشيين بنعمه الكبرى.. نبههم إلى الأمن والطعام، فقال تعالى: (لإيلاف قريش إيلافهم رحلتا الشتاء والصيف ، فليعبدوا ربَّ هذا البيت الذى أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفٍ).

   أما رفاق الديوان ، فجوعى ، لا يكفيهم ما يتوفر لهم بعد عناء للشبع ، يقول (مبيض نحاس53):

فقير ورزقى فقير

دى إجابة ولَّا سؤال

ولَّا كلام فلسفة

الدست لو مليان

يكفى يادوب مغرفة

  والأخير كافٍ للدلالة على العوز ، وقلة الزاد ، والحاجة.

   ومن أروع ما يجسد معاناة المهمشين بالديوان ما جاء فى (عسكرى أمن مركزى26) ، وفيه تبدو حسرة العسكرى على حظه من الحياة ، فيقارن بين قيد وظيفته وحرية طير السماء ، كما يقارن بائساً بين تيسر طعام الطير فى السماء – فى الأرض ومهانة الحصول على التعيين.. يقول العسكرى كاشفاً عن معاناته كسوة وطعاماً:

هدوم كاكى/ بقت من عرقى بُنيَّة

وأنا واقف

طابور الصبح فى بؤونة

وشايف طير سما سارحْ

مُوَجِّه دفة الطيران

ملخبط بكره فى امبارح

ورزقه فى الغيطان مبدور

وأنا تعيينى أخذه بدور؟

وأقف له طابور؟!

   وإذا كان التهميش مظهراً كبيراً من مظاهر معاناة المهمشين ، أو بالمقابل باعثاً من بواعثه الكبرى – فإن تعبير الطنوبى عن التهميش اختص بالحديث عن المعاناة الوجدانية أو النفسية ، حين ينزوى المهمش فى ركن قصىٍّ ، منبوذاً من ودِّ المجتمع ، شاعراً بأنه لا قيمة له.. يقول (قصاص حمير 56):

وباخد جنب ع الكوبرى

وطول عمرى وانا غلبان

    ويتساءل (عشماوى64) مستنكراً دهشاً:

وليه فى الدنيا مش طايل

أكون حتى على هامش..

سطور الود وياكم

    وتبلغ مأساة التهميش ذروتها مع (شيال94) إذ يحسن إلى بلاده وتسيءُ إليه ، يجبرُ كسرَها ، وتقسمه هى.. فيشعر أنه لا شيء.. يقول مُستنداً أيضاً إلى تقنية المفارقة التقابلية ، ومعتمداً على إيقاع التجنيس:

أنا شايلك.. وطارحانى

وابات أجبر أنا ف كسرك

وده المقسوم / يا قاسمانى

وطارحه مقامى

زى الصغر مش أكثر.

(3)

   وفى شعر الطنوبى تتبدى قدرة إبداعية بارعة فى التعبير عن حقيقة مأساة واقع كل (واحد..) من مهمشيه ، ففى شعره عنهم دقةُ وصفٍ ، وجمال تعبير ، وصدق بيان ، وحسن تصوير ، وجودة تجسيد ، لا تكون إلا من شاعر كابد معاناة هؤلاء بحسه الراقى ، ووجدانه الشاعر ، وتكاد تشعر من حديث الطنوبى عن أيٍّ من مهمشيه بأنه أخوه ، يعايشه يغاديه ويراوحه.. وما ذلك ، لكنه صدق التجربة ، وأمانة التعبير ، ورسالية الإبداع وجميعها طنوبى اليد واللسان بالديوان.. يكشف ببساطة.. عميقة عن جهل (غفير الدورية47) الأميِّ ، فيقول:

دعبست بإدىَّ فى جيوبى

لقيت حاجات

وختم معدن محترم

    إنه يبصم ولا يوقع ، ومن ثم يسهل أن يكون رفيق دربه ، وصنوه آلة قمع منضبطة ، تقسو بها الحكومة على الجميع (الصحوة والهوجة) ، يقول فى (عسكرى أمن مركزى28):

وأنا المملوك / فى ترس يدور

كما المكوك

فى حدف قنابل الدخان

على من خان / وبالشومة

أنا حكومة ومحكومة

بتضرب طلقة المطاط

وبتَّطفِّى الشياط بشياط

وتخرج تضرب الموجة

تهد الصحوة والهوجة

   إنه آلة الضبط .. والقسوة ، المسلطة على كل من خا..لف ، لا من خان فقط!

  وكما بدا من نموذج العسكرى السابق فإن الطنوبى بارع فى التعبير عن المهمش عبر اصطلاحات تخص واقع المهمش وحده بالأصالة ، إذ استخدم دوال (قنابل الدخان ، طلقة المطاط ، خان ، حكومة ، تضرب الموجة) ثم هو يلخص مأساة المهمش فى تعبير خبرى موجز دقيق: "أنا المملوك" مجسداً شعاراً رفعه أعوان الظالمين دوماً ، إذ (جميعهم) عبد المأمور:

   يستخدم الطنوبى التقنيات ذاتها (التعبير الخبرى الموجز الدقيق المبدوء بضمير التكلم الإفرادى (واحد..أنا) ، ومصطلحات الحقل التهميشى ، فيقول عن الفلاح (فلاح87):

أنا الطيب.. كما التوته

وانا الواقف.. كما النخله

وانا المحنى.. كما الصفصاف

وانا المنساب.. كما الميه

وساجد قلبى

عمره ما خاف

  يعبر ببراعة عن (صبى قهوجى 100) فيقول:

تقول لى ع المطلوب

وماله.. أسكّْ

مدام الدنيا بالمقلوب

وحتى حسابى .. مش محسوب

قشاط مغلوب / فى خانة إليك

وزهرى خفيف.

   وقد أحسن الطنوبى الكشف عن أمرين يتسم بهما المهمشون من ديوانه ، إذ يتماهون مع مهنهم ، ويتسم أكثرهم بالرضا بقسمه ، وقلة منهم هى الساخطة.

   أما التماهى والتوحد مع المهنة فيجسدها بوضوح قول الطنوبى عن (محولجى24)

واهى دنيا

وأنا والوقت والمسافات

صحاب دايما / صحاب حتماً

قضيب مربوط / وساعة حيط

وسكة حديد.

   إن التماهى يصل بـ(فلاح69) إلى نسيان الطعام ، انشغالاً بالعمل وانهماكا فيه.. يقول:

وفوق قفانا

شمس ما بتعرف هواده

تحفر الخط فى جباهنا

مين ح يجمع / اللُّطَع والهم غيرنا

وانتبهنا

لما قطر الضهر عدى

قمنا نتغذى .. ونرجع

  وقد يكون التماهى مع النفس ، لا المهنة.. إذ لا مهنة على الحقيقة ولا حرفة كما فى (بلطجى79).. يقول:

وانا ويَّا نفسى

مصالح ضميرى

مسلطن دماغ

   وأكثر شخوص المهمشين راضون بقسمهم ، وأحلامهم بسيطة ، يقول (قصاص حمير58)

أنا حلمى بسيط وقليل

وعمرى لسانى ما اتكلم

ولا اتألم  .. لغدر زمان

ولا باتشى.. فى يوم حرنان

  أما (غفير دورية70) فأقصى طموحاته أن يكون عمدة.. وأشياء أخرى.. يقول:

يا سلام لو أبقى عمدة

.. كنت أخلى ابنى عويس

أكبر غفير..

وانزل المولد وأجيب

باكوين معسل م الكبير

    إن اكثر مهمشى (واحد..!!!) للطنوبى راضون ، فيما عدا الثلاثة: عشماوى ، بلطجى ، صبى قهوة ، فهم ساخطون على مهنتهم. يقول (مراكبى83) راضياً:

طول حياتى مقضى حالى

وف ضميرى / وف خيالى

الشقى .. وراضى بحالى

    بل إن الرضا والتماهى مع المهنة ، يرقى حتى يرى المهمش عمله عبادةً يقول (فلاح86):

برغم إن الشقا عادة

وأنا سارح على غيطى

بحس كأنى فى عباده

    أما الساخطون فأولهم (عشماوى) الذى بلغ ضجره من وظيفته إلى حد الصمت التام عن الحديث عنها أو فيها ، يقول:

أنا تمتمت فى الأول

مغطي الصمت بالشارب

وبزياده

  ومنهم (صبى قهوة 103) يعبر عن رغبته فى التخلى عن وظيفته ، والتولى عنها ، والتبرأ منها فيقول:

تقول لى سُكّْ ع المطلوب

يارتنى .. أسك

(4)

  أما الجانب الفنى فى شعر (واحد..!!!) للطنوبى ، فراقٍ جداً ، يكافئ براعة المبدع فى طرح رؤيته المنصفة المتسامحة ، الرحيمة بالمهمشين ، وقد بدا اتكاء الطنوبى على رباعية أدوات واضحاً تمثلت فى: الصورة ، الموسيقى ، التناحى ، المفارقة.

    أما الصورة فبناؤها من مظانِّ تمايز المبدعين الشعراء ، وقدرة الطنوبى على ترسيم الصورة الدقيقة الدالة واضحة متميزة بالديوان ، والمفارقة إحدى أهم تقنيات بناء الصورة.. يكشف عن وحشة حياة المحولجى فيقول (43):

والبرد../ والليل..

والمكان../ والترعة..

وشواشي النخيل

بركان سكوت

   ومن دلائل قدرته على تجسيد الصورة فى أبسط تعبير قوله عن (شيال96) متكئاً على تقنية التشبيه:

وكله شايله فوق ضهرى

عشان محنى كما الستة

   ويبلغ حرصه على دقة صورته حدًّا من الاحتراز ، يدفع عنها أية شبهة محتملة ، فيقول عن (مبيض نحاس50):

جلابية متخرمه..

والحركة مش إحساس

وسطى كما بندول

مع إنى مش رقاص.

  وقد استثمر الطنوبى تقنيات المفارقة والمقابلة فى تشكيل الصورة ، وترسيم اللوحة ، كما فى قوله عن (عامل مشرحة19):

أنا العايش ف وسط الموت

منين ألقى هنا الأفراح؟

   وقد تبدو جنبات الصورة متباعدة بين حقلين دلاليين ، كالموت والحياة ، وساعتها تبدو المفارقة فاعلة فى ترسيم الصورة ، كما فى قوله عن (عشماوى63):

صحيح أشبه لضلفة باب

لكنى رقيق

يمين الله ومش كداب

ولا (انا) فى قولى بتلائم

أنا ما أقدرشى أأذى الطير

ولا النبتة / أنا فى شغلتى حتى

باحب السرعة فى التنفيذ

ألف الحبل وأفتح باب وطبلية

فى وقت وجيز

كما البستانى فى جنينة

بأقصّْ الفرع لو مايل

   أما الموسيقى فبخلاف تنويع إيقاعه بين السرعة والهدوء ليماثل بين الموضوع وإيقاعه ، فإنه استثمر تقنيات بلاغية لأداء دور إيقاعى ، كاستثماره التجنيس فى (قصاص حمير58)

وعمرى ما اضيع

ما دمت وديع

    ومثله قوله فى (خولى أنفا71):

يا سلام لو أبقى عمده

كنت ألغى أى بيع

للقطاع.. أو للقطيع

  هو يرفض بيع المبانى (القطاع العام).. والمعانى (الشعب العامل)

  أما التنصيص ، فيتمركز فى نص (دورية غفير 45) خاصة ، وتبدو دندنة الخفراء بالليل.. مسئوولة عن تحديد مصدر التنصيص من الأغانى.. يقول:

"مدد .. مدد

شدى حيلك يا بلد"

إن كان فى وطنك مات شهيد

"فيه ألف غيره بيتولد"

والأقصى لو راقد جريح

ده يبقى عارك يا ولد

والراديو بيغنى السلام

"بالسلام احنا بادينا.. بالسلام"

    .. وبعد فإن شعر الطنوبى جدير بقراءات متعددة ، تقف على بصمة الرجل الإبداعية المتميزة.. وهو شعر يقف شاهداً على أن الأداة واللون الإبداعى لن يكون عائقاً فى سبيل التعبير الصادق ، والأدب الرسالى البناء ، فالعبرة ليست بالوعاء قدر ما فيه من مفيد غذاء.. ولقد كانت – غير مجامل – سياحةً ماتعة فى ديوان (واحد..!!!) ويمكن بتوالى القراءات أن يقف الطنوبى بين كبار مبدعى العامية فى مصر بما هو واحد.. من أقدرهم على التعبير عن الروح المصرية.. والمصريين .

وسوم: العدد 646