زغرودة الفنجان وفضح العمالة
صدرت رواية "زغرودة الفنجان" للأسير اللفلسطيني حسام شاهين عام 2015 عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمان. يزغرد فنجان القهوة السادة معلنا عن وجوده في جميع مناسباتنا الاجتماعية، في الأفراح والأتراح وعند الملمّات، فهو رمز للعادات السّائدة في بلادنا وشاهد عليها. فهل هذه العادات خير مطلق، أمّ أنّها قد تقود إلى الخطيئة؟ وهل ما يطفو على السطح من مقاومة وبطولة وما يقابلها من صراع ومشكلات هو صورة هذا المجتمع، أمّ أنّ هناك جمرا يتّقد تحت السطح لا نراه وإن كنّا نكتوي بحرارته؟ يزغرد الفنجان في يدّ صابّه معلنا الزواج أو الصلح أو حتّى الحزن على فقيد، أمّا فنجان حسام زهدي شاهين فيزغرد بما هو أكثر من ذلك!
لا يمهّد الكاتب لما سيكتبه في كتابه، ولا يترك القارئ يسترسل في خياله ثمّ يصدمه بأحداثه الفاجعة، بل يبدأ كتابه مباشرة بلغة قويّة صادمة يتلقّاها القارئ كصعقة كهربائيّة، ما يلبث أن يستفيق منها لتتنبّه أعصابه ويستعدّ للاستماع إلى ما هو أكثر قسوة منها. وكلما قرأ أكثر توالت الصدمات، لكنّ هذا الألم لا بدّ منه لتجلية الأمور وتوضيح كثير من الأحداث التي دارت وتدور حولنا. ففي الفقرة الأولى من الرواية يقول الكاتب: (قال عمر: لو لم ألتق مازن في ذلك المكان لربما اتخذت الأمور مسارا آخر. ولم لم يبح لي مازن بأنه أقدم على تجنيد فتى قليل التجربة، أغراه بمبلغ من المال لتصوير أخته وهي عارية في الحمّام، لربما بقيت غافلا عما تحت السطح، سطح مجتمعنا من الآفات.)
هذه الرواية، من أدب السجون، تكاد تنحصر أحداثها على دور العملاء القذر في الإيقاع بالمقاومة الفلسطينيّة، والعمل الذي تقوم به شبكات العملاء، وكيفيّة تجنيدهم ومدى تفانيهم في خدمة جهاز المخابرات الصهيوني، الذي يستغلّهم أبشع استغلال، ويجعل منهم سيوفا مسلّطة على رقاب أبناء شعبهم. ومعظم الأحداث هي عبارة عن اعترافات لأحد العملاء الذي يبدو أنّه ندم على تعاونه، وكشف عن شبكات العملاء لأحد أبطال المقاومة خلال انتفاضة الأقصى التي بدأت عام 2000. فالعملاء يتمّ تجنيدهم عن طريق بعض ضباط المخابرات، ثمّ يقومون هم أنفسهم بتوسيع الحلقة والإيقاع بأناس آخرين وتجنيدهم للعمل لصالح العدو، فهؤلاء يعيشون في أوساط المجتمع ويرصدون المقاومة وتحركاتها عن قرب دون أي يحسّ أو يشكّ بهم أحد. ويتم اختيار العملاء من بين الذين قد يغريهم المال وفرصة العمل داخل الأراضي المحتلّة أو ممّن ينساقون وراء الجنس والرذيلة، أو من أولئك الذي يعانون من مشاكل اجتماعيّة في أسر مفكّكة.
يحاول الكاتب في أكثر من موضع أن يوحي أنّ العادات والتقاليد والحرص الشديد على الحفاظ على شرف العائلة، وحصر هذا الشرف في عفّة الفتيات، وعدم التسامح مع النساء اللواتي يقعن ضحيّة اغتصاب أو يقعن في زلّة، يدفع هؤلاء النساء إلى السقوط في مستنقع العمالة، ويتحولن إلى مخبرات للعدو حتى لا يفتضح أمرهن ويتسببن بفضيحة لعائلاتهن فينتهي أمرهنّ بالقتل دفاعا عن شرف العائلة. اعتقد أنّ العادات ليست هي السبب في وقوع ذلك، وإنّما انعدام الحسّ الأمنيّ لدى الكثيرين، وعدم الوعي الكافي، يجعلهم يقعون ضحايا بسهولة تامّة ويتم استغلالهم. وكذلك فإن ضعف الاتصال والتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، وقيام العلاقة بينهم على أساس من الخوف والكبت والتمييز بين الذكور والإناث، يجعل الضحيّة غير قادرة على الافصاح عمّا حدث معها لعائلتها خوفا من ردّة فعل لا يحمد عقباها. فالعلاج الناجع لهذه الظاهرة ليس التخلّي عن العفّة والطهارة، والتسامح مع من يصرّ على الرذيلة ويجاهر بها، وإنّما زيادة الوعي لدى الأطفال لهذه الأمور، ومتابعتهم من آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم حتّى لا يقعوا فرائس سهلة للعملاء والمفسدين، وإن حدث وأن تورّط أحدهم، فعلى العائلة أن تستوعبه وتحميه، لا أن تعاقبه على شيء خارج إرادته أو على زلّة قد لا تتكرّر.
نلحظ في أحداث هذه الرواية الدهاء والحنكة التي يمتاز بها رجال المخابرات الصهاينة، وكذلك اتخاذهم كافة الإجراءات الأمنية للحفاظ على حياتهم وحياة مواطنيهم، وبالمقابل نرى كثيرا من المقاومين الفلسطينيّين يتحلّون بالشجاعة ولكنهم يفتقدون هذا الحسّ الأمنيّ، ويظهرون أنفسهم ويتفاخرون بمنجزاتهم؛ ليقعوا ضحايا سهلة في يد العملاء والأعداء. وكذلك نلاحظ أن الكاتب ركّز على العملاء من الفقراء، وأصحاب المشاكل الاجتماعية، أو الضبّاط الصغار في قوّات الأمن الفلسطينية، ولم يشر إلى التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والعدو، ولا إلى دور السلطة في اعتقال المقاومين وتسليم بعضهم إلى الصهاينة أثناء نقلهم أو التسبب في استشهادهم، وإنما حاول أن يظهر أن السلطة الفلسطينية عملت على حماية المقاومة! أعتقد أن التصدي لدور العمالة والعملاء يجب أن يكون أوسع من التركيز على شبكات العملاء في مخيّم أو مدينة ما دون إبراز الصورة الأكبر.
يقوم العميل مازن بكشف شبكة العملاء التي يعمل معها، ويقتل ضابط المخابرات الذي عمل لديه لسنوات عديدة وقدّم له المعلومات التي تسببت في استشهاد العديد من أبناء المقاومة. فهل كانت هذه صحوة ضمير؟ وأين كان هذا الضمير على مدار السنوات والأيام الخالية؟ يبدو لي أن ما قام به مازن ما هو إلا ردة فعل على سحب البساط من تحت قدميه، عندما شعر أن دوره أصبح ثانويّا وأن المصير المحتوم لمن يخدم الأعداء سيكون مصيره قريبا، فانطلق إلى مصيره بنفسه.
يستخدم الكاتب أثناء الحوار بعض الألفاظ المبتذلة والألفاظ غير اللائقة، وإن كانت هذه الألفاظ مناسبة لهؤلاء العملاء الذين انحطّوا إلى القاع، إلا أنها قد تكون غير مناسبة للقرّاء خاصّة وأن ما ورد في هذه الرواية من أساليب الإسقاط يجب أن يعلّم للناشئة حتّى يتجنّبوه.
يطعّم الكاتب روايته ببعض الحكايات الشعبية ذات المغزى؛ ليدلل أنّ هذا الشعب أصيل ذا تاريخ وثقافة وقيم ضاربة جذورها في أعماق التاريخ، وأن الأحداث والشخصيات التي ذكرها في روايته ما هي زبد خبيث لا يلبث أن يزول.
وسوم: العدد 676