شيء من الترويح !

في غمرة الأحداث الدامية والمأساوية التي تعيشها أمتنا التعيسة ، وما يتطلبه ذلك من قراءات وكتابات عن المذابح والآلام التي يكون ضحيتها في الغالب أبرياء لا ناقة لهم فيها ولا جمل ، يبدو الخروج عنها حالة من النشاز التي قد يراها بعض الناس غير مناسبة ، ولكن النفس تمل والوجدان يمتلئ ، ولابد حينئذ من الترويح وتغيير الموضوع حتى تتجدد الأذهان وتصفو النفوس .

تعودت أن أراجع كتابات أدبية ذات قيمة عليا في الصياغة والتصوير والأداء . الأدب في أساسه فن لغوي ، ولكن تكاثرت في العقود الأخيرة كتابات رديئة لا تملك مقوما من مقومات الأساليب الأدبية الفائقة أو المتميزة ، ووصلت الآن إلى حد أنك تجد صحفا عريقة في أخبارها وموادها الأخرى ومنها الأدب ؛ تغص بأخطاء الإملاء والنحو والصرف ، فضلا عن الركاكة والضعف التعبيري. قلت لبعض الأصدقاء ممن يملكون بعض الصحف الإلكترونية: عيّن مصححا للغة العربية يراجع المادة الصحفية قبل نشرها . غضب منّي غضبا مكتوما ، وكأن لسان حاله يقول : يا عم . دع الخلق للخالق ، فالوسط كله كذلك . أي إن الآخرين يخطئون ويرفعون المفعول وينصبون الفاعل ، والمجرور ، ولا مكان لدور علامات النصب والجزم والأفعال الخمسة والأسماء الستة وكسر همزة إن وفتحها .. إلخ !

ولماذا نذهب بعيدا وجوائز الدولة التقديرية وما فوقها وما تحتها تُمنح لأشباه الأدباء ، ومن يكتبون العامية ، ومن لا يفرقون بين الفاعل والمفعول ، ويطلقون عليهم لقب الأديب الكبير والكاتب العظيم ، و.. غير ذلك من ألقاب !

أرجع إلى الإمام الرافعي لأطالع وحي القلم أو رقائقه التي تفوق شعره وشعر كثيرين في التصوير والهندسة البلاغية وعمق المعاني . وأعود إلى محمود حسن إسماعيل وعلي محمود طه وهاشم الرفاعي ، وأقرأ من حين لآخر ما يكتبه محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ فأرى لغة تشفيني من لغة هجين صنعتها مواقف السيارات وفرْشات الأسواق وثقافة الشوارع التي لا تعرف أن هناك شيئا اسمه الآداب العامة والأخلاق الفاضلة .

سأقدم لكم بعض ما كتبه نجيب محفوظ في أواخر حياته ،واعتمد فيه التكثيف والمجاز والإيجاز والمفارقة ، واللمحات الخاطفة التي يمكن أن تكون أساسا نموذجيا لما يسمى الآن بالقصة القصيرة جدا ، ويحسم الجدل حول طبيعتها ..

وقبل ذلك أود أن أشير إلى  أنني كنت من أوائل من كتبوا عن نجيب في الستينيات وما بعدها . كتبت عن رواياته الفرعونية وقلب الليل ، واللص والكلاب والطريق، والكرنك وأمام العرش والباقي من الزمن ساعة، وكنت تقريبا أول من كتب عن ملحمة الحرافيش دراسة طويلة ، ورأيتها تفوق روايته الشهيرة أولاد حارتنا الباردة الثقيلة ، وبعدها كتب عنها رجاء النقاش في المصور مقالا من حلقتين بعنوان : نجيب محفوظ يكتب بالفارسية ، متخذا من أبيات التكية التي كان ينشدها الدراويش وأثبتها نجيب بالفارسية عنوانا لمقاله .

ثم كتبت عن رواية ابن فطومة التي تجاهلها نقاده اليساريون لأنها تتناول أمرا يزعجهم وهو الإسلام . وكففت عن الكتابة عنه حين رأيت سماسرة المشهد الثقافي من أصحاب المواهب الضحلة يتاجرون بنجيب ويأكلون به ، ويتنازعون على قربهم منه وأولويتهم لديه ، والرجل لا بيدي تبرّما بما يفعله السماسرة الذين يبنون شهرة زائفة على حسابه ، ولأنه مجامل فقد تكاثروا حوله في حياته وبعد رحيله بكتابات غثة أو حوارات لا يعلم إلا الله مدى صدقها أو حقيقتها .

لم أكتب بعد رحيله إلا دراسة طُلبتْ مني في كتاب مشترك حرّرت فيها موقفه من الدين ، وهو الموقف الذي كثر فيه اللغط وصدرت فيه أحكام بالسماع والعنعنة روّج لها السماسرة وصغار الصحفيين الذين لا يحسنون المطالعة .

في كتابه أصداء السيرة الذاتية ( أعتمد هنا على طبعة مكتبة الأسرة 2004) ، ينسج مجموعة من المواقف القصصية بعضها واقعي والآخر متخيل ، والثالث منامي أو رؤيا في المنام ، وينتظمها في الغالب عنصر التحسر على الزمن والعمر الذي مضي ، والجدل حول الحياة والموت ، والخير والشر ، والعاطفة والعقل ، والطفولة والكهولة ، والخوف والشجاعة ، ويلتقط من سيرته الذاتية ما يومض ويلمع وينعكس على الفكرة ، ويؤثر في وجدان القارئ بذكاء الموهوب وقدرة المحترف على الصياغة .

تأمل مثلا أول لقطة في الكتاب ، حيث يوظف صورته وهو طفل يذهب إلى المدرسة لأول مرة . لقد جعل عنوانها " دعاء" وهو الطلب من الله ، فيكتب أول سطر فيها مثيرا للتشويق قائلا : " دعوت للثورة وأنا دون السابعة " وهي فاتحة تجعل القارئ يتساءل عن طبيعة هذه الثورة ، وكيف لطفل صغير أن يدعو لها .. يأخذنا نجيب إلى الذكرى التي لا تنسى في حياة كل منا وهي ذكرى دخول المدرسة لأول مرة. فقد ذهب محروسا بالخادمة وسار كمن يساق إلى سجن " بيدي كراسة وفي عيني كآبة ، وفي قلبي حنين للفوضى ، والهواء يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير .وجدنا المدرسة مغلقة ، والفراش يقول بصوت جهير : بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا .

غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة .

ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد" ص 8.

الثورة التي شهدها نجيب وهو طفل (ثورة 1919) . تفاعل معها وأحبها وكتب عنها أكثر من مرة فتتقاطع مع رغبته طفلا متمردا محبا للفوضى لا يريد أن يخضع لنظام المدرسة الصارم الذي يبعده عن أحضان أسرته ولعبه الحر ، ورؤيته كاتبا يدعو للثورة والتمرد على الفساد والاستبداد فيكون دعاؤه لله أن تدوم الثورة إلى الأبد !

 يستخدم نجيب المفارقة في كثير من قصص أصداء السيرة وخاصة تلك التي تجري في أواخر العمر . في موقف بعنوان "شكوى القلب" يفتتحه بقول شاعري حزين " ثَقُل قلبي بعد أن أعْرَض الزمن " فيذهب لطبيب معالج ينظر في الأشعة ، ويشعر أنه يرى القلب كأنه يعاتبه ويتبادلان النظر:

-         طالما حَمَّلْتك ما لا يُطاق من تباريح الهوى .

فإذا به يقول :

-         والله ما أسْقَمَني إلا الشِّفاء !" ص 90

إن المفارقة هنا تذهب في عمق الحياة الماضية والعمر الذي أوشك على النهاية ، فقد راح يعالج القلب ، ولكن القلب يؤكد أن علّته هي الشفاء وليس المرض . ويتركنا نجيب للتأويل والتفسير وفقا لثقافتنا وقدراتنا .

ثم تأمل هذه اللقطة بعنوان " الغباء" . قال الشيخ عبد ربه التائه :

لا يوجد أغبى من المؤمن الغبي ، إلا الكافر الغبي . ص 158

الله مولانا . اللهم فرج كرب المظلومين . اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم . 

وسوم: العدد 691