إن لم تكن القدس بحاجة إلينا… فنحن بحاجة إلى القدس
«ابتهجي يا قدس» عبارة مدونة على تمثال يقبع في مقاطعة يوركشاير الإنكليزية للسياسي سايكس، الذي تقاسم مع نظيره الفرنسي بيكو معاهدة الخراب، التي قسمت الأمة إلى دويلات ذات حدود وحواجز.
الجنرال اللنبي عندما دخل القدس عام 1917 وقال قولته المشهورة «اليوم انتهت الحروب الصليبية» نشرت على إثره مجلة «بنش» البريطانية رسما كاريكاتيريا لريتشارد قلب الأسد وهو يقول: أخيرا تحقق حلمي.
من عجائب الدهر أن تكون القدس قضية مركزية لدى أرباب الإمبريالية ورعاة الصهيونية، ثم يراد لها أن تكون قضية هامشية لدى أمتها الحاضنة، وذلك هو الهدف الذي يعمل عليه الصهاينة بالتعاون مع العملاء المستبدين في الوطن العربي، الذين يجيشون مؤسساتهم للتهوين من شأن القدس المحتل في نفوس الجماهير، لتغدو تلك القضية شأنا وطنيا داخليا للفلسطينيين وحدهم، بل يذهبون إلى أقصى مسافات التدليس، ليقنعوا الشعوب أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لأعدائهم. لكن القدس ولّادة، رَحِمٌ يدفع أبطالا بلا انقطاع، محضنٌ دافئ لا يكف عن إنتاج الأحرار، مع كل تصعيد صهيوني ضد الأقصى، ينتفضون ويسوّرون ذلك القلب الغالي بأجسادهم كسوارِ معصم، ويضعون الطين في كل فمٍ تدلى منه لسان ناعق يسيء للأحرار في أكناف بيت المقدس، أولئك المرابطون الذين لا يضرهم من خذلهم، ويواجهون رصاصات الاحتلال الصهيوني بصدور ليست عارية، بل كساها الشموخ، وفي كل مرة يقال إن المقدسي انكسر، يُفاجِئ الشامتين بالعدْو، فهم من عناهم الشعر والشاعر:
أتظن أنك عندما أحرقتني.. ورقصت كالشيطان فوق رفاتي.. وتركتني للذاريات تذرّني.. كحلًا لعين الشمس في الفلواتِ.. أتظن أنك قد طمست هويتي ومحوت تاريخي ومعتقداتي؟عبثًا تحاول لا فناءَ لثائرٍ.. أنا كالقيامةِ ذات يومْ آتِ.
في خضم العبث الصهيوني بالقدس وأقصاه، وتصاعد أحداث العدوان، وفي خضم تسجيل المقدسيين لهذه الملحمة الجديدة، في الذبّ عن حياض هذه البقعة الطاهرة، لا يجد المرء مساحة وافرة لأن يضيف قلمُهُ الجديد، أو يخدم بسطوره تلك القضية، فلا نحن قد صلينا في الأقصى، ولا بعثنا بزيتٍ يُسْرَجُ في قناديله. بيد أن هذه الأحداث الساخنة التي يتصدر فيها أبطال القدس المشهد، قد أثلجت الصدر، وجعلتني أجزم أنه لا خوف عليهم ولا على مقدسهم، وأخذت تلك الأحداث بتلابيب فكري إلى أن القدس كأنه أيس منا، ولم يعد يحتاجنا، واكتفى بأهله الصامدين، لكننا من يحتاج إلى القدس.
نحتاج القدس لأنها قضية كانت ولا تزال فاضحة لخونة الأمة، تظهر عوارهم وتسقط أوراق التوت عن عوراتهم، نكبة 48 تتكرر مع كل نازلة تحل ببيت المقدس، منذ تلك الحقبة التي ارتضى فيها حكام العرب أن يلعبوا دورا في مسرحية هزلية، لحربٍ تُحتّمها ضرورة تسليم فلسطين للصهاينة بإشراف بريطاني، يعيدون الكرّة بعد الكرّة، تارة في صورة معاهدات سلام الحملان، وتارة في ركوب موجات التطبيع، وتارة في الضلوع بجريمة صفقة القرن المشبوهة لتصفية القضية، بما يرضي الهوى الصهيوني.
القدس تُسيل عرق جبينهم حتى لا يبقى شيء من حباته لتتحدّر، فلا يملكون سوى الشجب ثم الشجب ثم الشجب، وجامعتهم تعزفه لحنا صامتا يثير حنق السامعين، ومنابرهم الإعلامية تلهي الجماهير بأخبار الرياضة والفن والمرور مرّ الكرام على أحداث القدس. نحتاج للقدس، لأنها تفضح فئات من الحقوقيين، الذين ينعقون ويصرخون ويملأون الدنيا ضجيجا لقضايا الميراث، وتعدد الزوجات والمثلية الجنسية، لكن إذا تعلق الحدث بالقضية الفلسطينية والقدس والأقصى، غابوا عن المشهد، فهم كما قال الصحافي المصري جمال سلطان، حساباتهم الإنسانية والأخلاقية مرتهنة بأجندة الظهير الأجنبي وحساباته. فهؤلاء تكشف القدس ازدواجية معاييرهم وتوجهاتهم المشبوهة. نحتاج للقدس لأنها تعزز تلك الحقيقة التي نوليها الظهور دائما، وهي أن ذلك المجتمع الدولي ليس الركن الشديد الذي ينبغي أن نأوي إليه في حل أزماتنا، هؤلاء لن تجدهم مجتمعين بحزمٍ ومصطفّين بفاعلية إلا في شوارع باريس، لضحايا «شارلي إيبدو» منددين بالإرهاب بعد تحميل الأمة الإسلامية أوزار السفهاء، لكنك أبدا لن تراهم إذا ما اقتُحِم الحرم المقدسي بأقدام الصهاينة، ولن تراهم عندما يتم تهجير سكان عشرات الأسر المقدسية من حي الشيخ جراح لتسكين المستوطنين الصهاينة. وهذا الصمت الدولي أمر بدهي، وهل أعلن الاحتلال قيام دولته، إلا بعد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين؟ وهل قام للصهاينة وطن في تلك البقعة إلا بوعد بلفور البريطاني؟ وهل تعربد حكومة الاحتلال في فلسطين والمنطقة العربية إلا برعاية البيت الأبيض؟
نحتاج القدس لأنها القضية التي تجمع قلوب الجماهير من شرقها لغربها وشمالها لجنوبها، اجتمعت عليها قلوب الأمة أيام صلاح الدين، فقادت لحرب التحرير، ولما أُعلن عن قيام دولة للصهاينة فيها لم يبق شارع في سائر البلدان، إلا وقد غزته الجماهير تطالب بتحريرها، وبعيدا عن الجيوش النظامية، كان المتطوعون من كل حدب وصوب يهبون لحماية القدس من العصابات الصهيونية، وكانت تضحياتهم هي البقعة المضيئة في صفحة التواطؤ والخنوع. إن هذا الالتفاف الذي يبرز مركزية القضية، يرصده أي متابع لمواقع التواصل الاجتماعي، التي جعلت نبض الجماهير مرئيا مسموعا، والجميل في الأمر أن هذا التفاعل لا يرتبط بمواقف الحكومات الرسمية. وكأن كل حدث جلل تمر به القدس يجدد عهد هذه الأمة، ويبرز أن وعيها لا يزال بخير، فالقدس ليست أرضا، وليست مجرد مسجد للركع السجود، وليست مجرد أرض يُتنازع عليها، إنما القدس حرمٌ ووقفٌ على الأمة، كما عبر الدكتور محمد عمارة، وهي بهذا المعنى العقدي تحتضن الدوائر القومية والوطنية وتدعمها، لا تنتقص منها ولا تلغيها، فالقدس للفلسطينيين، وللعرب، وللأمة الإسلامية. تلك الجماهير التي تؤرق حكومة الاحتلال بالتفافها حول قضية القدس، وذلك ما عبر عنه نتنياهو بقوله: «إن أكبر عقبة أمام توسيع دائرة السلام، ليست زعماء الدول التي تحيط بنا، بل هي الرأي العام في الشارع العربي».
الأحداث في القدس تزداد اشتعالا، والاحتلال يمعن في التصعيد، والأقصى يتعرض لخطر المتطرفين الصهاينة برعاية حكومتهم، وخطة تهويد القدس تسير بشكل متواصل، وهذه لحظات فارقة سوف يسجلها التاريخ، وكلٌ سيأخذ موضعه في تلك الصفحات، بين مناصر وخاذل، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.