آلام غزة.. هل وقعنا في فخ الاعتياد؟
11 شهرا مرت منذ اندلاع الحرب على غزة، خاض خلالها المعنيون بالقضية الفلسطينية عامة والقطاع المنكوب خاصة، تحديات ضخمة في معارك الوعي والضغط.
ركز النشطاء جهودهم على تعبئة الجماهير لنصرة الحق الفلسطيني واستعادة مركزية القضية الفلسطينية، وخلق رأي عام إسلامي وعربي ودولي مؤيد لغزة، مناهض للكيان الإسرائيلي، للضغط على الأنظمة العربية والمجتمع الدولي، لإغاثة القطاع، والتدخل الجاد لوقف العدوان الصهيوني.
واجه النشطاء والمعنيون بالقضية تحديات كبيرة، منها مواجهة تيار المطبعين والمخذّلين والمشغّبين على القضية الفلسطينية، وآفة القُطْرية التي هيمنت على العديد من الشعوب، وجعلتها لا تكترث إلا بأحوال أقطارها ودولها فحسب، والتعامل مع الحرب على أنها شأن داخلي فلسطيني، إضافة لجهل قطاع عريض بالقضية الفلسطينية والأبعاد التاريخية والدينية والسياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
مع مرور الوقت، صار على هؤلاء النشطاء والمتفاعلين مواجهة عدو جديد للقضية الفلسطينية، يثير الذعر، هو آفة الاعتياد لمشاهد القتل والدمار والدماء والأشلاء.
في بداية العدوان حدث تحوّل جماهيري غير مسبوق، ظهر في مواقع التواصل الاجتماعي، التي نقلت للعالم بأسره بشاعة المشهد في غزة، وحركت الجماهير الغربية للضغط على حكوماتها لوقف الحرب، كما ظهر في الجهود الإغاثية الجبارة، التي قامت بها الجماهير العربية والإسلامية لأهل غزة.
باختصار، حدثت هزة عنيفة في وجدان الجماهير، وأصبح همها الأكبر هو نصرة قطاع غزة والقضية الفلسطينية.
لكن مع طول أمد الحرب وتكرار مشاهد القتل والدمار، اعتاد كثير من الناس الأمر، وفقدت تلك المشاهد تأثيرها في النفوس، وضعفت مظاهر التفاعل مع القضية، وتحول التركيز إلى الشأن الداخلي والخاص، وغدت أخبار الحرب والعدوان عبئا على بعض النفوس، التي مالت إلى الاستسلام والرضا بالأمر الواقع، وتوارت عن المشهد انتظارا لمعجزة تنهي المأساة.
بنصرة غزة والقضية الفلسطينية أنت لا تدافع عن إخوة الدين والدم والعروبة والجوار فحسب، وإنما تدافع كذلك عن وطنك، الذي تعيش فيه، من أطماع مستقبلية مقطوع بها
إحقاقا للحق أقول إن الاعتياد أمر طبيعي من صميم الجبلّة البشرية، فالإنسان يعتاد الجمال ويفقد الشغف به.. النظرة الأولى للقمر مثلا ليست كالنظرة الألف، إذ تصبح رؤيته مع التكرار خالية من شهقة الدهشة والانبهار. ومن ينتقل إلى دار جديدة كانت حلما يراود صاحبه، تمر عليه الأيام تلو الأيام فلا يرى الجمال الذي سلب لُبّه من قبل.
الألم كذلك، عندما ينزل بالإنسان أول مرة يفجعه ويغيّب حواسه عن محيطه، فلا يفكر الإنسان إلا في ألمه، ولا يكترث إلا بأمره، لكن مع تكرار الألم يصبح اعتياديا لدرجة التعايش، وكثير من الناس أصحاب الآلام المزمنة يتحدثون عن تعايشهم مع تلك الآلام.
إذن، اعتياد هذه المشاهد وضعف أثرها في النفوس شيء لا يلام صاحبه، وليس دلالة على تصلب مشاعره، أو خرْق في دينه أو عروبته أو إنسانيته، لكن المشكلة الحقيقية تكمن في الاستجابة لضغط الاعتياد، والتخلي عن الحراك الفعّال لنصرة القضية، أو تقليص مساحة الاهتمام بها، أو القبول بتهميشها، فتلك هي الطامة الكبرى، التي نحذر منها، لأنها عين ما ينشده العدو الصهيوني، الذي يعمل منذ نشأته على تسطيح القضية الفلسطينية لدى الجماهير العربية والإسلامية.
وحتى لا نقع في فخ الاعتياد، ينبغي أن نصوِّب طريقة تفكيرنا في الأحداث، فغزة لا تريد منا مجرد عاطفة متأججة بكماء.. غزة تريد منا فعلا وقولا وحراكا.. الدموع التي نذرفها والآهات والزفرات، التي تخرج من صدورنا، لا قيمة لها إلا إذا اقترنت بالعمل الجاد، وتسكينها لضمائرنا إنما هو وهمٌ وخداع نفس.
إذن، لا يقيس المرء تفاعله مع غزة بمجرد المشاهدة والمتابعة ولا بمدى تأثره نفسيا بالمشاهد الدامية، إنما يقيسها بمحاسبة نفسه عما قدم لأهل غزة، وفي الوقت ذاته، فإن التحرك الجاد يحرك المياه الراكدة، ويجدد العاطفة ويحييها، والاستمرار في أداء الواجب يعيد للوجدان حسّه المرهف مرة أخرى، شأنه شأن من يصلي مع فقدان الخشوع، فإنه مع الاستمرار في أداء الصلاة والمحافظة عليها يستعيد القلب خشوعه مرة أخرى.
ومما ينبغي استحضاره لمواجهة آفة الاعتياد وما قد يترتب عليها من ضعف أو ترك التحرك من أجل غزة، عدم الاكتفاء بالنظرة الإنسانية تجاه مشاهد القتل والدمار في غزة، بمعنى أنه لا ينبغي النظر إلى تلك الكوارث بمعزل عن السياق العام والقضية الكبرى، وهي الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فليس الشهداء والجرحى والمفقودون والمشردون والمعتقلون في سجون الاحتلال هم أول القافلة، فالاحتلال لم يكف عن القتل والتدمير منذ النكبة، بل وما قبل النكبة بأيدي العصابات الصهيونية.
الذي يريد النيل من كاتبة هذه الكلمات سيتهمها حتما بالتهوين من شأن الدماء والدمار، وربما ذهب إلى أنها تدعم الحسابات السياسية للمقاومة على حساب الشعب. وأما من قرأ الكلمات دون تدخل الأهواء فسوف يدرك أن المقصود هو النظر إلى الكوارث، التي تحدث في غزة على أنها جزء من قضية كبرى، وما هذه الأحداث إلا حلقة من حلقاتها، ولن تنتهي القضية بمجرد توقف القتال وإعمار القطاع.
وحتى ننجو من مصيدة الاعتياد، الذي يهدد استمرارنا في الحراك، وتوسيع نطاق التعامل مع القضية الفلسطينية، فدعم فلسطين وغزة ليس مجرد نصرة لأرض تربطنا بها روابط دينية وتاريخية وقومية وإنسانية، وإن كان ذلك جزء أساس في تشكيل نظرتنا، بل ينبغي النظر إلى فلسطين على أنها خط دفاع أول لجميع أقطار أمتنا، لأنها المشروع الصهيوني يمثل رأس الحربة للإمبريالية الغربية في منطقتنا، فهو يهدف إلى ابتلاع فلسطين أولًا، ثم التمدد في دول الجوار لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.
فأنت بنصرة غزة والقضية الفلسطينية لا تدافع عن إخوة الدين والدم والعروبة والجوار فحسب، وإنما تدافع كذلك عن وطنك، الذي تعيش فيه، من أطماع مستقبلية مقطوع بها.
وعلى كل المنابر الإعلامية الداعمة لقطاع غزة والقضية الفلسطينية أن تسهم في الحفاظ على المتابع من فخ الاعتياد، عن طريق قوة الطرح وتنويعه، والابتكار والتجديد في أساليب العرض والمناقشة، وتجنب تكرار الأساليب والأدوات والمصطلحات ذاتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.