"ردع العدوان": الانتقال من الدفاع للهجوم

فاضل خانجي

تمهيد

في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، بدأت عملية "ردع العدوان" التي أطلقتها غرفة "إدارة العمليات العسكرية" في إدلب تجاه مدينة حلب محرزةً تقدُّماً سريعاً من عدة محاور، ليدخل النزاع السوري في مخاض جديد، سينتج عنه قواعد جديدة مع حالة عدم يقين أو انتهاء لاتفاق خفض التصعيد وآليات وقف إطلاق النار فعلياً.

أعلنت غرفة العمليات عن أهداف محدودة تتمثل ب"ردع العدو" وثنيه عن استهداف مناطق شمال غرب سورية بعد التصعيد الأخير من قبل النظام وحلفائه ضد شمال غرب سورية وإعادة المهجرين إلى قراهم([1])، إلا أنَّ سرعة انهيار الصفوف الدفاعية للنظام – على الأقل حتى لحظة إعداد التقدير – أتاح للفصائل التقدُّم بشكل غير متوقع والاستحواذ على أكثر من 60 بلدة وموقع، بينها نقاط ذات أهمية استراتيجية كالفوج 46، ومركز البحوث العلمية، ومواقع أخرى على خط ال (إم 5)، بل والدخول إلى عدة أحياء غرب حلب.

 وبالأخذ بعين الاعتبار أن تصعيد النظام وحلفائه ليس الأول من نوعه على مدار السنوات الأخيرة، وبأنَّ الضربات الجوية أو الاشتباكات أو العمليات "الانغماسية" لم تتوقف على مدار السنوات الماضية، وبأنَّه على الرغم من تفاهمات وقف إطلاق النار إلا أنَّ البيئة المحلية السورية لطالما احتفظت بكمون داخلي لعودة الصراع قيَّدته اتفاقات أستانا بشكل رئيسي؛ فإن توقيت المعركة نابع عن تقييم للبيئة الإقليمية وانعكاسها على الخارطة السورية.

 

دلالات التوقيت: العوامل الداخلية والخارجية

قبل الإجابة عن التوقيت الخاص بالعملية والظروف التي أعادت المنطقة لما قبل آذار 2020، والتي كانت عبارة عن مخاض لرسم حدود النفوذ لكل فاعل من الفواعل في مناطق خفض التصعيد، يجدر التطرُّق للعوامل الذاتية الكامنة التي لعبت دوراً محدِّداً في إنتاج المعركة الحالية، والتي لطالما أعطت مؤشرات عن هشاشة الوضع القائم منذ آذار 2020، ورغبة الأطراف بتعزيز سيطرتها وتمترسها في مناطقها،  وانتظار فرصة مواتية لتغيير الواقع لصالحها والتمسُّك بخيارات صفرية مبنية على فرضية الحسم عسكري على المدى البعيد. بدءاً من النظام الذي طالما راهن على "الصبر الاستراتيجي" لتجاوز أي شكل من أشكال الحل السياسي، وهو ما اتَّضح أيضاً بتهربه من الانخراط في مسار التطبيع مع أنقرة مؤخراً، وحتى "هيئة تحرير الشام" التي بنت سرديتها على "التمسك بالخيار العسكري" و"البناء والحرب في ذات الوقت"([2]). كما لم تكن فصائل المعارضة السورية بمنأى عن ذلك، فقد احتفظت هي الأخرى بخيار المناورة بمساحات ضيقة، برزت في انخراط بعضها ضد فتح معبر "أبو الزندين"، قبل مشاركتها في العميلة الراهنة.

ونظراً لكون الاستعداد الذاتي المحلي حاضراً، فإنَّ توقيت المعركة مرتبط بالبيئة الإقليمية. إذ تدلل المؤشرات على أنَّ القرار أخذ بناء على المعطيات المرتبطة بالضربات القاسية التي تعرضت لها وكلاء إيران في لبنان وسورية على مدار العام الحالي، إضافة إلى انشغال روسيا في حربها في أوكرانيا، خاصة مع احتدام المعارك في منطقة كورسك ضمن الأراضي الروسية، وارتفاع احتمالية الضوء الأخضر الغربي لاستخدام كييف صواريخ لاستهداف العمق الروسي([3]). بعبارة أخرى، تأتي العملية من دون انخراط حقيقي من قبل "حزب الله" في الدفاع عن مواقع النظام إما نتيجة الضربات الموجعة التي تعرَّض لها على مدار الأشهر السابقة و/أو "انتقاماً" من النظام الذي نأى بنفسه عن الانخراط لدعم حليفه في "محور المقاومة" في حرب لبنان، واحتدام المعركة بين روسيا وأوكرانيا، وسط حالة انتقالية يشهدها العام بانتظار قدوم إدارة ترمب للبيت الأبيض. علاوة على ذلك كله، لا يمكن إهمال التوقيت من ناحية أنها جاءت بعد برود المحادثات بخصوص مسار التطبيع بين أنقرة والنظام في دمشق نتيجة تعنُّت الأخير ومبالغته في تقدير قدرته التفاوض وفرض شروط مسبقة.

التطورات الميدانية والحسابات الاستراتيجية

لا شكَّ بأنَّ سرعة التقدُّم الذي أبرزته غرفة "العمليات العسكرية" كان مفاجئاً، فقد أبدت خطوط دفاعات قوات النظام التي افتقرت لدعم الميليشات الإيرانية السابق والإسناد الجوي الروسي ضعفاً واضحاً، علماً أنَّه أبدى مقاومة ملحوظة في مناطق عندان في ريف حلب الشمالي، وسراقب في جنوب شرق إدلب. بالمقابل، فيلحظ وجود قدرات تنسيقية عالية للفصائل على المستوى الميداني من خلال غرفة العمليات الجديدة أو الإعلامي لضبط السردية، ما جعل الحراك المعارض لـ"تحرير الشام" يتوقف من تلقاء نفسه، بل ودفع خصومها السابقين للانضمام للجبهات التي فتحتها. يُضاف إلى ذلك التقنيات الجديدة تكتيكياً وأبرزها الطائرات المسيرَّة، والتي عملت الفصائل على تطويرها خلال السنوات الماضية، ناهيك عن المأسسة التي شهدتها مناطق إدلب خصوصاً على مستوى افتتاح مؤسسات جديدة، كـ"الكلية العسكرية" ومركز "الأبحاث العسكرية" ومراكز التدريب، والتي يبدو بأنها أسهمت في رفع القدرات التكتيكية والعملياتية([4]).

بذلك، امتلكت "هيئة تحرير الشام" القدرة على إنشاء غرفة عمليات نوعية تقودها من الخلف، لتتيح بذلك انضمام بعض فصائل الجيش الوطني للغرفة، وتصدير العملية كعملية معارضة سورية. وبصرف النظر عن نتيجة المعركة وهوامش الربح او الخسارة، فإنَّ علاقة الهيئة بالفصائل ستدخل مرحلة جديدة، والحالة المثالية من وجهة نظر "تحرير الشام"، هي الخروج وبيدها غرفة عمليات جديدة (عابرة لـ"الفتح المبين")، بعد إثبات نفسها كفاعل قادر على اتخاذ قرار الحرب ضد النظام، وتحقيق ما روَّجت له لسنوات، "قيادة المحرر" الواحدة.

أما على صعيد حسابات السيطرة استراتيجياً، يبدو بأن قادة العملية يفترضون بأن أسوأ ما يمكن أن يحصل هو العودة للتهدئة الهشة السابقة، نظرا لكون أي نزوح جماعي للسكان هو خط أحمر تركي. وبأن أي مكاسب تكتيكية قد تفتح المجال أمام نافذة من الفرص الغير متوقعة، لتحقيق مكاسب استراتيجية. بالمقابل، وباعتبار أنَّ السيطرة على عدة قرى هنا أو مواقع هناك لا يمكن أن يكون نصراً استراتيجياً، بل تقدما تكتيكيا ونجاحا عملياتياً، طالما أنها لم ترق لمستوى منطقة استراتيجية بالنسبة للجغرافية السورية ككل، مثل مدينة حلب؛ فقد بنيت سردية المعركة منذ أشهر على غاية السيطرة على حلب  لتحقيق هدف استراتيجي مقابل الإعلان فعلياً عن عملية محدودة بهدف ترك المساحة للتكيُّف مع المعطيات الميدانية وموازين القوى على أرض الواقع.

سيناريوهات محتملة

إنَّ المعركة التي بدأت بأهداف محدودة وتوسَّعت نتيجة الفرصة التي أتاحتها الظروف الميدانية ما زالت في بدايتها.  وعلى الرغم أنَّه من المبكِّر إعطاء أحكام مطلقة بخصوص النتائج، فإنَّ المعطيات الميدانية تشير إلى أن اتجاه المعركة إلى ثلاث محاور رئيسية: ريف حلب الجنوبي، وريف إدلب الشرقي والجنوبي الشرقي، أحياء مدينة حلب الغربية باتجاه مركز المدينة، بالإضافة لاحتمالية فتح محور جديد في ريف حلب الشمالي تجاه مناطق سيطرة "وحدات حماية الشعب" في تل رفعت. عليه فإنَّ سير المعطيات الميدانية في الأيام القليلة المقبلة سيضع المنطقة أمام سيناريوهين:

عودة تفاهمات خفض التصعيد: بدأت العملية بأهداف محدودة لتوسيع مساحات السيطرة المحاذية لإدلب وإيقاف قصف النظام المتكرر وتأمين عودة قسم من المهجرين، أي أن تبقى مساحات السيطرة ضمن مساحة مناطق خفض التصعيد، وبالتالي الحفاظ على آليات أستانا على المستوى الأمني والسياسي. يبدو بأن فرص هذا السيناريو تتقلص مع مرور الوقت، بانتظار مآلات المعارك في غرب حلب. بصرف النظر عن طبيعة مساحات السيطرة الناتجة، فإنَّ المنطقة ستعود لحالة عدم اليقين المشابه لما قبل آذار 2020.

نهاية التفاهمات السابقة: في حال تمكُّن الفصائل من الدخول إلى مدينة حلب، فإنَّ ذلك يعني فعلياً انتهاء وقف التصعيد وآليات المراقبة المنبثقة عن أستانا، ودخول سورية في دائرة صراع جديدة، إما ينتج عنها ولادة تفاهمات تركية-روسية جديدة على وقع خارطة السيطرة في الميدان، وإمَّا تفتح الباب أمام موجة صراع جديدة طويلة الأمد ما زال من المبكر التكهُّن بطبيعتها وسيرها ونتائجها.

ختاماً، فإنَّ التطورات الحالية في المشهد الأمني  السوري تدلل بوضوح على الانتقال إلى مرحلة جديدة، بفعل القدرات التي عملت الفصائل على تطويرها طوال فترات وقف إطلاق النار النسبي من جهة، والضعف البنيوي الواضح لمؤسسة النظام العسكرية، من ناحية الموارد البشرية والعقيدة القتالية، في ظل تراجع دعم الميليشيات الإيرانية وميليشيا "حزب الله" وشبه غياب التغطية الجوية الروسية المنشغلة بحربها بأوكرانيا من جهة أخرى؛ ناهيك عن أنها تزامنت في مرحلة مخاض إقليمي وتحولات استراتيجية بالغة الأثر.  

([1])   النظام يصعّد وفصائل تطلق “ردع العدوان” بالشمال السوري، عنب بلدي، 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، الرابط: https://cutt.us/aA90E

([2])   فاضل خانجي، استحضار صدمة 07 أكتوبر عند التفكير بمستقبل سورية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 16 أيار/مايو 2024، الرابط: https://cutt.us/NSl9D

([3])  أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك الحرب؟، بي بي سي، 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، الرابط: https://cutt.us/sIXoy

([4])  رصد داخلي.