فلسطين... واستعادة القرار العربي
د. أسامة عبد المالك عثمان- فلسطين
قد يكون التبرؤ من المسؤولية السياسية تجاه القضية الفلسطينية, وطرحها على الفلسطينيين, محتاجا الآن إلى تعديل, ولا سيما إذا فهم بالمعنى السلبي القاضي بوقوف دول عربية مهمة موقف الحياد, أو موقف التقريع, أو التلويح بالقوة! وهو بقدر ما يبعث الأسى في نفوس الفلسطينيين الواقعين تحت احتلال يشتد ضراوة وتعمقا, يبعثه أيضا على الوضع العربي الذي تعكس فلسطين بعض أعراضه, وتجاوبها أعراض أخرى في لبنان و العراق و مصر و السودان و الصومال وغيرها.
إن الأخطار التي تفرزها الحالة الفلسطينية المحتقنة, والتوجهات الإسرائيلية المعلنة, تحث العرب بعامة والأقطار المجاورة, ومنها الأردن ومصر بخاصة, على ضرورة ملاقاة هذا الخطر, وليس تجاهله, أو معالجة أعراضه وأحداثه اليومية, حين تقع.
يأتي هذا في وقت تتراجع فيه حظوظ "تسوية عادلة" وقابلة للتحقق والبقاء, وقد استَبَقتها إسرائيل وأميركا باشتراطات ومكتسبات غير خاضعة للتفاوض, خلاصتها الفرضُ الأحادي؛ إما بالتفاوض الشكلي, أو بالأمر الواقع والانطواء, ثم تصدير تلك المشاكل والأزمات إلى الدول العربية المجاورة. وكأن إسرائيل من حيث لم تحتسب تضطر العرب إلى أن يتعاملوا مع القضية الفلسطينية تعاملهم مع قضايا أمن أقطارهم.
الواقع العربي بين التغيير والاستبقاء:
ولما كان الخلل العربي يتجاوز البنية السطحية إلى العميقة, ومنها العلاقة المختلة بين الشعوب والنظم, تَوجَّب الالتفات إلى مفاتيح تلك المغلقات, باستثارة المثقف العربي الذي يتماهى أحيانا مع الطبقة الحاكمة, محاميا مطلقا عن مواقفها الغافلة عن المخاطر الحقيقية, أو النائية بنفسها عنها.
يعمل الواقع العربي المتصدع في كثير من أماكنه وحالاته لصالح القوى التغييرية, حين تشفع مواقفها بضرورات التغيير, بوصفه سمة الحياة الطبيعية, ومهوى أفئدة المثقفين ذوي النزعات الثورية. وهو ما قد يفسر اتساع نطاق هذا الخطاب وجماهيريته.
ولكن الواقع العربي حمّال الأوجه, يعمل كذلك لصالح "العقلانيين", حين لا يرونه مؤهِّلا لخوض صراعات كبيرة, وغير محسوبة, دون أن يحضر في خطابهم بالدرجة نفسها انشغال بحلٍ لتلك الأوضاع المعيشية المتردية, والحالة التنموية المتعثرة, والتراجعات السياسية التي تتمظهر في الحالة العربية العامة. ودون أن يعترفوا بمسؤولية مناسبة تتحملها تلك النخب السياسية "العقلانية" التي هيمنت, ومنذ عقود على القرارات المصيرية لشعوبها...
ولا يبدو هذا التيار "العقلاني" المحامي عن الأوضاع الحالية, وهو يزدري, أو يستجهل كثيرا من المواقف التغييرية المقاوِمة, لا يبدو مجيبا عن تساؤلات وآمال ما زالت فاعلة في أذهان غيرهم, وليس أقلها مواجهة التهديدات الاستعمارية السافرة.
فليس التباين بين الخطابين في كيفية تغيير الواقع العربي الذي يتيح مزيدا من التنازل, بقدر ما هو في الموقف من الراهن العربي, ولنمثل ذلك في العلاقة بالقوى الاستعمارية وكيفية التعامل معها, بعيدا عن صُعُد الجدال الأيديولوجي والموقف من الحداثة والأصالة؛ إذ لعل هذا الصعيد المتمثل في العلاقة بالمستعمر وتوصيفه هو الأقرب إلى القواسم المشتركة بين النخب المثقفة في العالم العربي, بل, والعالم.
وإذا كانت النظرة إلى الدور الأميركي في المنطقة العربية, يُصطنع حولها الجدل, بين الإقرار بالأطماع الاستعمارية, وادعاء تطلعها إلى التحديث والدَّمَقْرَطة؛ فإن الصفة العدوانية الجامحة في الكيان الصهيوني, ربما لا يجادل فيها عربي, أو منصف. فكيف يفسر انحياز نخبة ثقافية عربية إلى مواقف رسمية على الدوام؟! وهي تلقي باللائمة على الشعب الفلسطيني وحركاته المقاومة التي لا تخلو من دواعي النقد والتصويب. ولكن النظم العربية لا تتخذ خطوات فعلية ضد المسؤول المباشر عن تلك الجرائم اليومية! وهو يتجاهل قرارات الشرعية الدولية, ولا يعبأ بتكرار الإدانات الدولية لانتهاكاته الجسيمة للقانون الإنساني الدولي, وقانون حقوق الإنسان, و يواصل استخفافه بالقواعد التي ترمي لحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة. ولا يرتفع صوت تلك النخبة الثقافية لحث النظم الحاكمة على الاضطلاع بمسؤولياتها تجاه الممارسات الصهيونية التي تقضم الأرض العربية, وتستفرد بالشعب الفلسطيني الذي تتجاذبه العوامل والمؤثرات التي تتجاذب العرب أيضا.
لكن وقوعه تحت الاحتلال, و خلوه من سلطة قوية, قد أخرج تناقضاته إلى سطح حياته اليومية؛ فهددت حياته, وأقلقت مصيره. وهو ليس بعيدا في ذاك التشظي عن العراق لبنان... فليست فلسطين والعراق ولبنان وغيرها إلا مؤشرات على التصدع الفكري الذي لم يكن وليد اللحظة, ولا هو مسؤولية شعب دون آخر, حتى يستخدم ذريعة تبرِّىء النخب السياسية من مسؤولياتها, إلى أن يؤوب الفلسطينيون إلى رشدهم, ويتفقوا على حل لنزاعاتهم الداخلية أولا !!
فاعلية المثقف بين الاستخدام واسترداد القرار:
ليس بالإمكان إلغاء المسافة بين المثقف وصاحب القرار السياسي, وليس استحواذ النخب العربية الحاكمة على المثقف العربي, ونزع الشرعية عمن حافظ على استقلالية رأيه مفيدا لتلك النخب دائما؛ لأنه يحرم قرارها السياسي من معطى مهم, وهو في الوقت نفسه يمحق مقومات المثقف, ويلغي دائرة فاعليته.
وليس من مهمة المثقف أن يسوق الناس جميعا, على حد تعبير الشاعر ويلفريد أوين, ويصيح بهم بالولاء للدولة. ولا أن يكون منتجا تحت الطلب, يعطي شرعية تتجدد لمواقف الجهة الرسمية التي يتوسل بها, مثلما تتوسل به.
إن المأمول في المثقف العربي أن ينشغل في أدنى الأحوال بالارتقاء بالوضع العربي العام, أو حتى الوطني الخاص, وأن يتوسط المنطقة الفاصلة بين الشعوب التي قد تكون عرضة للآراء الآنية والمشاعر الجارفة, أو تكون في غفلة عن حقوقها ودورها, وبين الطبقة الحاكمة التي قد تذهل عن دورها ومقدرات البلاد التي وضعت تحت إمرتها.
وليس مهمة المثقف في الواقع العربي الذي تتأزم فيه العلاقة بين النخب الحاكمة والشعب قابلة لبلوغ كامل الأَرَب, ولكن ليس أقل من الحد من الأزمة التي تغذي الشكوك بين الطرفين, فيغري ذلك بعض القوى المعارضة إلى الاستقواء بالأجنبي والتقاطع مع برامجه وأهدافه؛ ما يدفع نخبا حاكمة في المقابل إلى الرضوخ الكامل للضغوط الخارجية.
ويصبح السير في هذه المهمة أكثر إلحاحا, في وقت تستثار فيه التناقضات المطوية, وتتآكل سيادة الدولة؛ لصالح التدخلات الأجنبية في المشكلات الداخلية؛ ما يفتح المنطقة العربية على احتمالات تنشأ من الفراغ القيادي, مقدماتها التدويل, ونتائجها الفوضى, والإنذار بحالة من تفكك دوله إلى كيانات ذات طبيعة انشطارية, قد تولد مستقبلا تفككات أخرى على أسس عرقية أو طائفية أو تاريخية, وما يحصل للعراق, ويخشى منه لبنان, وتلوح بوادره في مصر ليس عن أحد ببعيد.
جسر الفجوة بين الشعوب والنظم:
وحتى لا تظل الأقطار العربية مشرعة أمام الاحتمالات والتيارات القوية التي تعصف بمكونات شعبها وصيرورته, لا مفر من استعادة الأنظمة الحاكمة شيئا من قرارها الذاتي الفاعل على المستوى الداخلي, بجسر الفجوة بين الشعوب والحكام, وعلى المستوى الخارجي بترك رسالة مؤثرة مفادها أخذ الحسابات والمصالح العربية في فلسطين وغيرها في الحسبان, ورفع سوية العلاقة التي تجمعنا بهم.
وتكفي التطورات التي شهدها الاحتلال الأميركي في العراق, من إغفال أي دور للبلاد المجاورة له, وحتى شيطنتها, إلى اضطراره للاعتراف بالحاجة إليها, مؤشرا على انطواء الحالة العربية- على ضعفها- على خيارات متوفرة, فضلا عن الخيارات المعطلة.
فليس صحيحا أن النظم العربية الحاكمة, وحتى" المعتدلة" منها لا تملك أن تتلكأ عن طلبات أميركية, مهما كانت؛ لأنها:
1- من المفترض أنها دول ذات سيادة, تملك قرارها الداخلي والخارجي.
2- الممسكة فعليا بأجهزة الدولة, والأدوات التنفيذية المتعددة.
3- ما زالت قادرة على تشكيل الرأي العام الشعبي, أو التأثير فيه, ولا سيما حين تعدل من استراتيجياتها ومواقفها.
4- وهي كذلك قادرة على تهيئة رأي عام عالمي, أو على الأقل جعله يتفهم موقفها.
5- وهي ليست خلوا من امتيازات ومصالح يمكنها توظيفها لتحييد دول مهمة , أو حتى استمالتها.
6- وقبل هذا, هي قادرة على استنهاض تلك الروح الشعبية الكامنة؛ لتحمل أعباء قد تترتب على تلك النوعية من المواقف الجديدة.
وهذه الحالة إن وقعت في الوضع العربي جديرة بإفقاد أية ضغوط أو تهديدات من قبيل الابتزاز الاقتصادي, أو غيرها كثيرا من فاعليتها, وقد عانت بلاد عربية من الحصار الاقتصادي, ولم تكن على درجة من الوفاق مع شعوبها, وبالرغم من ذلك لم يثبت فعاليته؛ فكيف إذا كان الموقف الرسمي مدعوما بتأييد شعبي وطني وعربي أيضا؟!
إن تفعيل النظم الحاكمة للقرار السياسي, واستعادة زمام المبادرة دون التورط في أوضاع تسمح بالإدانة من الوجهة القانونية الدولية قادر على رفع سقف الحقوق العربية, في فلسطين وغيرها. ووضع حد لمعاناة شعبها, ووقف الاستهانة بالمبادرات العربية التي لم تحظ من إسرائيل بالوصال. كما هو مُسْهم, ولا ريب, في ابتعاث حالة من الزخم , قد تهمش مخاطر التفكك والتشظي لصالح التهيئة لخطاب ثقافي مُوحِّد, لا يستطيع توفيره نمط العلاقة القائمة على تبعية المثقف لصاحب القرار, حين يعيد إنتاج خطابه السياسي.