كل عيد .. وأنت العيد والحب
لطفي زغلول
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني . ستون عاما مضت وانقضت ، مرت ثقالا كالجبال ، نهاراتها بلا شموس ، ليلاتها بلا أقمار ، فصولها بلا ربيع ، ركابها رحلة في متاهات المجهول . لكننا لم نترجل هنيهة عن صهوة العشق الذي حملناه لك في صميم جوارحنا . سماؤك ، روابيك ، وديانك ، مروجك ، شطآنك ، أمواج بحرك ، أطيارك ، أزاهيرك شاهدة أننا كنا لك عشاقا لم يشق غبار النسيان ساحات عشقنا المقدس لك . أسكناك حنايا القلوب ، ومرايا العيون . ما هنّا يوما في مسارات فدائك ، وحاشا أن نهون .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني . أيها الكبير ، ولا أكبر منك إلا رب الخلائق والأكوان . بك أنت وحدك نحن جديرون بالحياة ونستحقها . لك أنت وحدك نقدم فروض التضحية والفداء . في طريقنا إليك لم تنكسر لنا قامة ، ولم تنحن هامة . ركبنا ما زال يغذ الخطى ميمما شطر أحضانك . يتحدى المتاهات في ليالي منافي الشتات . أنت العنوان ، يوم لا عنوان إلاك . بك نحن موعودون ، وإن طال زمان الارتحال إليك . أنت قدرنا . بذكرك بعد الله نستفتح ، نصابح نهاراتنا ، نماسي ليالينا . باسمك نعانق الشمس في مهد ميلادها ، وباسمك نلوّح لها وهي في هودج الارتحال .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني . عصي أنت على الإنشطار . عنيد لا يشق لك في وحدة المصير غبار . ونحن أقسمنا لن يصبح الدم في عروقنا ماء . هذا الدم لا ينبغي له إلا أن يكون محرما على عشاقك ويوم يحللونه ، لا يحل إلا في مذبح تحريرك وحريتك . كل قطرة دم نهبها لك نفحة حياة ، تعانق ثراك ، فتخرج من رحمه براعم الأمل ، تورق ، تخضوضر ، تزهر ، تثمر وعدا بالحرية .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني .. رحلتنا إليك بدأت بك ولا تنتهي إلا بك . أنت حادي الركب إلى يوم لا تغيب عنه الحرية ، إلى شمس تضيء فضاءاتنا أملا بغد واعد لأجيال ورثت حبك عن أجيال وأجيال من عشاق الإنتماء إلى حماك . ومهما طال المشوار إليك ستظل القافلة تسير وتسير تتحدى العتمة والغربان ، تتحدى هذا الليل الباسط ذراعيه على آفاقنا ، تطارده بمشاعل التحرر والخلاص حتى ينجلي إلى الأبد .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني .. أيها الواعد الموعود . ما زلت ملهما لأبنائك الميامين المنزرعين بين ذراعيك كصخور جبالك الشماء . واعدا باللقاء الأخير على ثراك الطهور . موعودا بأسراب طيورك ، تعود من منافي الشتات والاغتراب إلى عشك الدافئ الحنون . موعودا بأسراب شامخة الجبين خلف القضبان ، شاءت فلا بد لقيدها أن ينكسر يوم تشرق شموس نهارات الحرية . موعودا بأجيال أسراب ما زالت في رحم الغيب ، سـتولد في أحضانك كما ينبت الربيع ويخضوضر بعد ليل خريف وشتاء طويل .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني .. وأنت تصحو هذا الصباح ترفرف فوق روابيك أجنحة الذين مهروك أرواحهم فداء وعد الحرية والرجوع إلى أحضانك . إنهم فتية آمنوا بربهم ، وآمنوا بك . كانوا رماحا تهوي على صدور الغربان ، ويوم قبلوا ثراك قبلة الوداع ، حلقوا إلى العلياء ، إلى مدارات الذكرى الأبدية . غدت أسماؤهم مشاعل تضيء فضاءاتك نورا وخلودا .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطن الأسرى .. تمردوا على قيود عبودية الزمن الملطخة كفاه بالسواد والطغيان . أسراك أيها الوطن الأسير وهبوك شبابهم مهرا لعرس حريتك . تحدوا المستحيل ركبوا الأهوال ، شقوا غبار الموت والدمار . وها هم الآن خلف القضبان يطرزون لك من عنادهم وشاح كبر ، ينظمون لك من إصرارهم مسبحة حرية ، يرسمون لغدك من سنا محياهم شمسا لا تغيب ، شمسا لنهارات وعد لا يخيب .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني .. لا تحزن إذا لم تعد هذا الصباح الأطيار الضاربة في المنفى إلى أحضانك . لا تحزن إذا لم تتنسم رائحة الحرية عندما تفتح عينيك هذا الصباح . الحرية ما زالت تشق غبار الشتات لتلقي برحلها بين يديك . لا تحزن ، لا تحزن إذا لم يحمل هذا الصباح لك العيد . عيدك ما زال على أجنحة وعد العشاق . غدا ستصحو على مغناتهم تعطر المدى . تعيد لك العيد . تتوج به هامتك البهية . تزرعه على محياك ابتسامة لا تمحو إشراقتها الليالي الليلاء .
كل عيد .. وأنت العيد والحب .. يا وطني .. ها نحن نقف بين يديك هذا الصباح كما في كل صباح . نمد أيدينا إلى السماء . وبكل إيمان وخشوع نصلي لله في عليائه ، سائلين إياه جل جلاله أن يطلق سراحك من بين براثن الاغتصاب . أن تعود لنا كما كنت على مدى الأيام . أن يمن علينا بنعمة الرجوع إلى أحضانك . أن تكتحل عيوننا ببهاء طلعتك الأبية ، وشموخ جبينك الوضاء . أن تكبر أجيال أطفالنا بك ، وتكبر بهم . يومها تصبح كل أيامنا وليالينا أعيادا وأعراسا . فأنت أنت وحدك العرس والعيد والحب والوطن.