دمه علينا وعلى أولادنا!
مادونا عسكر
... أخذ بيلاطس البنطي ماء وغسل يديه أمام الجموع، وقال: "أنا بريء من دم هذا الــــرّجل! دبّروا أنتم أمره". فأجاب الشّعب كلّه: "دمه علينا وعلى أولادنا!". فأطلق لهم باراباس، أمّا يسوع فجلده وأسلمه لـــيصلب. (إنجيل متى 26،24:27).
لسنا ندري إن كان الشّعب اليهوديّ آنذاك واعياً لهذا التّعبير: "دمه علينا وعلى أولادنا"، أو لربما قالها عن حقد وكراهية لرجل أتى ليناضل من أجل الإنسان، أي إنسان، ويثور على غطرستهم وجشعهم واحتكارهم لله واعتبار كلّ خارج عنهم مخلوقا من الله لخدمتهم. كانوا ينتظرون مسيحاً على قياسهم وبحسب رغبتهم، مسيحاً ينصرهم على أعدائهم ويخلّصهم من العبوديّة ويجعلهم حاكمين على الأرض كلّها.
هذا الشعب الّذي أصبح في ما بعد كياناً يحدّد سياسات العالم ويتحكّم بالمال والسّلطة والإعلام، مارس وما زال يمارس إلى اليوم مبدأ: "دمه علينا وعلى أولادنا." فأولادهم اليوم يجلدون المسيح في كلّ مظلوم ومهمّش وبريء ومقاوم من أجل الإنسان، ويصلبونه ويهزأون منه، ويقتلونه. وكما استخدموا الرّومان لصلب المسيح، يستخدمون اليوم غيرهم ليخضعوا البشر لهم. لقد تغلغل اليهود في المعتقدات الدّينيّة وسعوا جاهدين إلى التّضليل، فخلقوا البدع الّتي بأغلبها ترفض مبدأ الحكومات والأنظمة السّياسيّة وتنتظر العالم الجديد كي تنخرط بالحكومة السّماويّة. وأنشأوا الجماعات الإرهابيّة وأشبعوها فكراً متطرّفاً وعرفوا كيف يصطادون الأشخاص وكيف يستخدمون من خلال معتقداتهم كي يستحكموا ويتسلّطوا. كما أنّهم انخرطوا في الحكومات فإمّا تنصّروا وإمّا أسلموا ليتمكّنوا من استلام مراكز الحكم والسّلطة وبقوا على يهوديّتهم سرّاً. وفي كلّ مرّة وفي كلّ زمان كانوا يتعاونون مع بيلاطس جديد يغسل يديه من دم أبرياء كثيرين حتّى ينعم الشّعب اليهودي بالأمان الّذي يفرضه بشروطه.
وما أكثر البيلاطسيّون في وطننا العربي، أو ما تبقّى من وطن عربيّ، وما أكثر أولئك الّذين تسكرهم خمرة السّلطة وتعمي بصائرهم قرقعات الدّنانير الّتي يرميها لهم أسيادهم. يغسلون أيديهم من دم كلّ الأبرياء الّذين يسقطون اليوم وكل يوم في المنطقة العربيّة دون أن يرفّ لهم جفن. ولا عجب في ذلك، لأنّه ومنذ البدء، منذ أن اغتصبت فلسطين وأُعلن قيام دولة إسرائيل، كان العرب في سُبات عميق ثمّ دخلوا الموت ولن يخرجوا منه طالما أنّهم يتبجّحون بالوحدة العربيّة ويتّخذونها شعاراً فقط في حين أنّهم يتنافسون في ما بينهم على المال والسّلطة ويتآمرون على شعوبهم الّذين بدورهم لم يسلموا من شباك الطّائفيّة والعنصريّة والتّراخي العقلي ولم يسعوا جاهدين للحفاظ على إنسانيّتهم واحترام بعضهم بعضا. الوحدة العربية بدعة ووهم قاتل، وتعزيز لردّات الفعل العاطفيّة وامّحاء للتّفكير العقلاني وانتحار للضّمير الإنساني. لطالما كان هؤلاء البيلاطسيّون متفرّجين على كلّ ما يحصل من صراعات ونزاعات، بل وداعمين لها بالمال والسّلاح، فكلّما اشتدّت النّزاعات بعثوا فسادهم، وحافظوا هم على مراكزهم ومناصبهم. وها هم اليوم يشاهدون كلّ المجازر والتّشرّد والتفكّك والانحلال والقتل والعنف، ولا يستطيعون أن يقولوا كلمة واحدة، لأنّ من زرع الأنظمة الجديدة في أوطاننا ومن أراد أن ينشئ شرق أوسط جديد، يريد منها أن تلعب دوراً محدّداً. لقد سقطت الأنظمة القديمة ليحلّ مكانها أنظمة تدعم أكثر الدّولة العبريّة وتساهم في مزيد من التّفكك وفي محو الحضارات والهويّات ولتساهم في قتل ما بقي من إنسانيّتنا. الأنظمة الجديدة أتت لتهدم هيكليّة الجيوش فإمّا ترهقهم في محاربة الإرهاب وإمّا تشرذمهم وتضعفهم وإمّا تواجههم مع شعوبهم ممّا يزعزع الثّقة بين الجيش والشّعب. إذا سقط عماد الوطن فماذا سيبقى من الوطن؟
أمّا الجماعات الإرهابيّة المنتشرة هنا وهناك، والمتسلّطة على رقاب البشر، تكفّر وتهجّر وتفرض شروطها انطلاقاً من مبادئ دينيّة، فهدفها أوّلاً محاربة الدّين نفسه ثمّ الخارج عنه. فعندما تقوم جماعات إرهابيّة بقتل وذبح مسيحيّي سوريا والعراق باسم الإسلام، فالهدف من ذلك الإساءة إلى الإسلام أوّلاً، مع ضرورة التّذكير بأنّ ما نشهده اليوم هو الفيلم الأكثر إساءة إلى الإسلام الكريم، يرافقه صمت من قبل الطّبقة الدّينيّة بأغلبها. بالمقابل، إنّ ما يحصل للمسيحيّين في سوريا والعراق، ولعلّه سيحصل أيضاً في لبنان في ظلّ صمت غير مفهوم من الطّبقة الدّينيّة المسيحيّة بشكل عام وعلى المستويين المحلّي والعالمي، هو محو للهويّة المسيحيّة من الشّرق، وهذه الأزمة ليست بجديدة وإنّما تمّ التّحضير لها بما يكفي حتّى وصلت الآن إلى ذروتها، مع أنّ اليهود يعلمون أكثر من غيرهم أنّ المسيحيّ لا يموت وإنّما هو حبّة حنطة تدفن في الأرض لتزهر سنابل مثمرة. وفي نفس الوقت نشهد ترويجاً إعلاميّاً لتسليح المسيحيّين للدّفاع عن أنفسهم. ما يعني، أنّ المسيحيين وبحجة الدّفاع عن النّفس سيكونون الأداة الّتي ستريح الدّولة العبريّة من الجماعات الإرهابيّة ومن خطرها عليها. وبذلك يكون الهدف واحداً، جماعات تتقاتل حتّى يفني بعضها بعضا. والجدير بالذّكر أنّ الأنظمة الجديدة، تحارب الإرهاب حيثما تشاء، ففي أمكنة معيّنة تتركهم على سجيّتهم وفي أمكنة أخرى تتولّى زمام الأمور وتنقضّ عليهم. وهذه الأنظمة الّتي تدّعي القوّة والعروبة وتستنكر وتتضامن بنفاق مقيت، لا تجرؤ على اعتبار الكيان الصّهيوني كياناً إرهابيّاً. ولا تكتفِي بذلك بل يبدو أنّها تشدّ على يديه وهو يفترس كالوحش لحوم الأطفال والنّساء والشّيوخ في فلسطين ويتجرّع من دمائهم ولا يرتوي. هذا الكيان الّذي يطلق على نفسه "شعب الله المختار"، والّذي ينتظر مسيحاً يرافقه إلى "أرض المعاد"، هذا الكيان الّذي فرض نفسه عنوة على صفحات التّاريخ، مهما طال به الزّمن، سيفنى كغيره ممّن اضّطهدوا الإنسان وسلبوا كرامته وأهانوا إنسانيّته وسيندحر كما اندحرت أعظم الأمبراطوريّات وسيكون مجرّد ذكرى كما سبقوه ممّن ظنّوا أنّهم خالدون وقادرون على إزاحة كلّ من يقف في طريقهم.
وإن كان ما تبقّى من شرفاء وإنسانيّين قلّة قليلة فيستطيعون بإنسانيّتهم أن يثابروا على تعزيز الوعي وحث النّاس على الدّفاع عن إنسانيّتهم وعلى نبذ كلّ جهل وتقوقع وعنصريّة وحقد مذهبيّ وطائفيّ يمكن أن يسمح لهذا الكيان بالمزيد من التّمادي. أقلّيّة اليوم هي خميرة الغد، وعماد المستقبل، ورجاء نفوس تُشرّد وتُطرد من أرضها، وتُذبح وتُقتل.
دم المسيح يراق في كلّ شبر من الوطن العربي، ويضّطهد المسيح في كلّ من سلبت منه كرامته الإنسانيّة، وجرّد من أرضه ووطنه، ويُصلب مع كلّ نفس تأبى الخضوع إلّا للحقيقة. ولكنّ المسيح قام، وكلّ محزون سيعزّى وكلّ رحيم سيُرحم، وكلّ وديع سيرث الأرض وكلّ فاعل سلام سيدعى ابناً لله. وأمّا الكيان الصّهيوني، فقد تعيش في أمان لسنين طويلة، فمن هم في جوارك متلهّون في الاقتتال والتّكفير والاضّطهاد، وتقسيم الأوطان، ومحاربة الإرهاب، وأمّا وجه المسيح فلن تراه قبل أن تقول: "مبارك الآتي باسم الرّبّ."
1- بيلاطس البنطي: كان الحاكم الروماني لمقاطعة أيوديا أو "اليهودية" بين عامي 26 إلى 36.
2- باراباس: هو المجرم الذي طلبت الجموع من بيلاطس – في عيد الفصح وبتحريض من الكهنة والشيوخ– أن يطلق سراحه وأن يصلب يسوع الناصري