الولايات المتحدة بين أزمتي الصواريخ الكوبية – والسورية
أوباما وجيل الماكدونالدز الأمريكي
التاريخ لا يعيد نفسه ، البشر هم الذين يعيدونه . وكثيرا ما يتقمص الأبناء تجارب الآباء أو الأجداد ، لتستدرك ما كان فيها ، أو ما تظن أنه كان فيها من إفراط وتفريط .
يستعيد التاريخ الدبلوماسي الدولي هذه الأيام وقائع أزمة الصواريخ الكوبية ، التي وقعت في تشرين أول ( أكتوبر ) ( 1962 ) أي قبل أربعة وخمسين عاما بالضبط . السنوات الأربع والخمسون ، تمثل تحولات أساسية في المشهد الدولي على أكثر من مستوى يحتويها مشهد أزمة جديدة أ انتصرت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بالأمس وتبدو فيها هذه الأيام آيلة لحالة من الاستسلام القدري المحبَط والمحبِط معا .
بين الأزمتين ..
صحيح أن سورية في موقعها الجغرافي ، ليست كوبا ، ولا يشكل نصب المنظومات المتطورة للصواريخ الروسية فيها تهديدا مباشرا للأراضي الأمريكية . ولكن هذه الصواريخ في الوقت نفسه لا تشكل تهديدا مباشرا للشعب السوري ، الذي تقوم القاذفات الروسية بإبادته كل يوم بأطنان القنابل دون أن يسمح له أن يمتلك أبسط أنواع أسلحة الدفاع الجوي ، ليدافع عن الإنسان والعمران ، ليبقى السؤال مفتوحا هذه الصواريخ تنصب ضد من ؟ ولتهديد من ؟
الصواريخ الروسية التي نصبت في سورية منذ عام ، والتي تم تعزيزها كما وكيفا منذ أيام ، في سياق حملة إعلامية مشحونة بكثير من عبارات الاستفزاز غير الدبلوماسية ، يطلقها القادة الروس على كل المستويات ضد الولايات المتحدة ، والتي تشتمل على عبارات تحدي ، واستهتار بالولايات المتحدة : الإدارة والإرادة على السواء .
إن نصب منظومات الصواريخ الروسية ( اس 400 ) و ( اس300 ) ، ونقل البوارج والمعدات الروسية إلى سورية يمثل في إطار المشهد الدولي الحالي : أولا عملية تحد علني ومباشر للإرادة الأمريكية ، ليس على مستوى سورية وحدها ، والتي كما يقولون لا تهم الأمريكيين كثيرا ، بل على مستوى العالم أجمع ، , في عالم أصبح قرية ، يثرثر سكانه على مسمع ومرأى من بعضهم كما سكان قرية ، لا يمكن لدولة كما لا يمكن لرجل أو امرأة في قرية أن تفقد هيبتها وسمعتها في زاوية ثم تحتفظ بها في زاوية أخرى .
على صعيد حسابات المصالح يدرك كل المتابعين الموضوعيين أن أوباما ما زال على طريق التفريط بالمصالح الأمريكية ( خطوة ..خطوة ) . ويدرك كل الساسة أن ما يفقد لا يسهل استعادته . وأن الحفاظ أسهل من الجبر بعد الكسر .
( الولايات المتحدة الأوبامية) التي خسرت (أوكرانيا) في منظومة شرق أوربة ، التي خذل أوباما شعبها ، على نحو ما خذل السوريين ، والذي سمح بنصب ترسانة لا يستهان بها من الأسلحة والقواعد الروسية خلف الحدود التركية ، تركية التي كانت الموقع المتقدم لصواريخ الناتو الموجهة للأراضي السوفيتية ؛ هذا التخاذل الأمريكي جعل تركية تهرع لإعادة النظر في علاقاتها مع روسية ، ربما يتساءل الناس بحق : أي معنى سيبقى للدرع الصاروخي ، الذي يتبجح به الأمريكيون والناتو ، بعد أن أغلق الروس بمنظوماتهم الصاروخية ، فضاء البحر الأبيض المتوسط ، وجعلوا كل دوله في شرق هذا البحر وغربه وشماله وجنوبه في مرمى الصواريخ الروسية.
لن يجدي كثيرا أن نمضي أكثر في تحليل تداعيات أزمة الصواريخ الروسية في سورية ، ما زلنا نتعامل مع رئيس أمريكي ( أبله ) ، وفاقد للإرادة ، وكان كل رأسماله في عالم السياسة بضعة عشر عاما من المحاولات الانتخابية الناجحة والفاشلة وخطاب عاطفي في يوم وطني أمريكي ، جعل الحزب الديمقراطي يلتقطه لينافس به ، كما ينافس الجمهوريون اليوم بوجهه الآخر ترامب ..
مهما كانت القراءة والتحليلات والتفسيرات والتبريرات للمشهد الدولي اليوم ، فإن الحقيقة الماثلة اليوم هي أن العالم ينزلق بقوة في فضاء حرب باردة جديدة ، يندفع فيها بوتين كثور هائج ، ومهما قيل عن لياقة الاتحاد الروسي ومؤهلاته لملأ فراغ الاتحاد السوفييتي على كل من الصعد ( الإييولوجية ) و ( السياسية ) و ( الاقتصادية ) ؛ إلا أنه كما يبدو يحرز انتصارات مبهرة ضد عدوه ( الأمريكي ) انتصارات جعلت كل من تركية ومصر والعديد من دول المنطقة تعيد حساباتها في تحديد مواقفها منه ، وجعلت شعبا مثل الشعب الأوكراني يدفع ثمن التخاذل الأمريكي من ( أرضه ) ومن كرامة أبنائه ، بينما يدفع الشعب السوري ثمنه من دماء أطفاله ونسائه ومستقبله ..
يُقال إن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة كلها تشير إلى أن الأكثرية هناك تريد أن تظل تهز كتفيها لما يجري في العالم ، مؤيدة سياسة الرئيس أوباما . وإنه لأمر بحاجة إلى المزيد من التفهم والتحليل.
بمقارنة بسيطة بين الرئيس الأمريكي ( جون كيندي ) بطل أزمة الصواريخ الكوبية ، المولود في ثنايا الحرب العالمية الأولى ، والمعايش بوعي للحرب العالمية الثانية ، والذي استطاع بالعزيمة والتصميم أن يقتلع الصواريخ الروسية من كوبا ، وأن يضطر السوفييت وزعميهم ، الأشد حماقة من الثور الهائج بوتين ، زعميهم الذي خلع يوما حذاءه ليقرع منبر الأمم المتحدة ، أن يحملوا صواريخهم ويعودوا بها إلى محيطها السيبري الذي ظل محاصرا بسوره الحديدي ؛ وبين الرئيس أوباما الذي فتح عينيه وعمر شبكة مطاعم ماكدونالدز تسع سنوات فقط ؛ وإذا مزجنا العسكري بالسياسي بالاقتصادي بالاجتماعي ؛ نستطيع أن نجزم أن جيل ( الماكدونالدز ) يؤمن اليوم أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان ...
لو كان مثل جون كينيدي اليوم في البيت الأبيض ، لما تجرأ بوتين الروسي أن يقرع بحذائه منبر الأمم المتحدة كما قرعه خروتشوف السوفييتي ، ولو كان مثل كينيدي في البيت الأبيض لفكر تشوركين طويلا قبل أن يرفع يده بالفيتو الأول في مجلس الأمن ، وليس بالفيتو الخامس وسط حرب إبادة يومية متلفزة يمارسها الروسي تحت المظلة الأوبامية الأمريكية في سورية . قالت العرب : خلا لك الجو فبيضي واصفري ..
ويبقى سؤالنا أي دور وأي عبء يتحمله الأحرار السوريون ليسدوا فراغات الخلل في الموقف الدولي والموقف الإقليمي . إذا كانوا مصممين على الانتصار .
نزداد إيمانا وثقة ويقينا وعملا ونقول : حسبنا الله ونعم الوكيل.